مقدمة لا أحد يستطيع أن ينكر الدور الريادي الذي اضطلعت به الحركة النقابية في كبح جماح الرأسمالية المتوحشة وهي في أوج عنفوانها، فقد كان العمل قد تحول مع قدوم الرأسمالية إلى نوع من السخرة والعبودية الجديدة، وأضحى جحيما لا يطاق يمحق إنسانية العامل ويختصر عمره ويقضي عليه بالموت في الخمسين بعد أن يكون قد شاخ في الأربعين. ناضلت الحركة النقابية ونجحت في أن تجعل العمل أكثر إنسانية وفي تقصير ساعات العمل والرفع من الأجور بعدما كان قانون العرض والطلب هو المتحكم فيها، وناضلت من أجل أن تضمن زيادات دورية في الأجور بتزايد الإنتاج وتزايد الأسعار، ونجحت في تحريم تشغيل الأطفال في مصانع الغزل والنسيج والقطن وفي تحريم تشغيل النساء داخل مناجم الفحم، وفرضت على المشغلين تأمينات للعمال ضد المرض وإصابات العمل وتأمينات للشيخوخة والتقاعد والبطالة (1)، لقد استطاعت باختصار أن تتحدى أولئك الذين كانوا يعتقدون أن السوق ينبغي أن يكون هو الآلية الوحيدة للتوزيع الاقتصادي، وأسهمت في بناء مفهوم المواطنة الاجتماعية القائمة على أنظمة الحماية الاجتماعية، كما عملت على إضفاء الطابع الإنساني على العمل وإعطاء الرأسمالية أيضا طابعا أكثر تحضرا . لقد كان للعمل النقابي إذن في الغرب دور كبير في كبح جماح الرأسمالية المتوحشة، وتحرير الإنسان من نظام السخرة الجديد الذي أرسته الطبقة البورجوازية الناشئة في أوروبا على أنقاض كبار الإقطاعيين (2). العمل النقابي في الغرب في ظل منطق الصراع الطبقي ولقد جاء ذلك نتيجة صراع مرير لجأت فيه الطبقة العاملة إلى قوتها التضامنية التي خولها إياها التنظيم النقابي، وفي إطار المنطق الذي حكم تطور المجتمعات الغربية الناشئة أي منطق القوة لا منطق الحق: فالحقوق التي انتزعها العمال في المجتمعات الرأسمالية لم تأت نتيجة اعتبارات خلقية أو إنسانية وإنما جاءت نتيجة علاقات القوة التي ربطت بين العمال وأرباب العمل، والتي أصبحت تميل مع نشأة التنظيم النقابي وتطوره وازدياد قوته تدريجيا لصالح العمال، وهو ما أثمر مختلف المكاسب والضمانات الاجتماعية التي حققها العمال في العصر الذهبي للنقابات. وقد ترسخ منطق الصراع باعتباره الوسيلة المثلى لإقامة التوازن بين العمال وأرباب العمل مع مجيء الثورة الماركسية اللينينية. لكن هذه الأخيرة لم تقف عند توظيف هذا المنطق عند الإطار المذكور، أي عند الإطار المطلبي الذي يضمن حقوق العمال، بل لقد استعملت الطبقة العمالية استعمالا سياسيا يتجاوز المطالب الاجتماعية المتمثلة في تحسين شروط العمل، والزيادة في الأجور، وتحسين الضمانات الاجتماعية.. وسعت إلى توظيف القوة العمالية في السيطرة على السلطة وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا التي ستتولى مهام إقامة المجتمع والدولة الاشتراكيين الشيوعيين. لكن المفارقة الكبرى هي أن ديكتاتورية البروليتاريا قد تحولت في نهاية الأمر إلى ديكتاتورية طبقة جديدة من البيروقراطيين المتنفذين في الأحزاب الشيوعية الشرقية وهي الطبقة التي سميت في الأدبيات السوفيتية ب النومونكلاتورا فُِّّْفٌكَمٍُخ، فأصبح المجتمع كله بما في ذلك العمال تحت نوع جديد من الاستعباد والاستغلال والشقاء والبؤس، المعمم على الجميع في ظل بنيات اقتصادية وإنتاجية متردية، أدت في نهاية المطاف إلى تفكيك الدول الاشتراكية المركزية. وكان من المفارقات أن من أول الدول التي حدثت فيها عملية التفكيك بولونيا وعلى أيدي العمال في إطار نقابة +كدانسك؛ بقيادة زعيمهم العمالي ليش فاليسا . أزمة عالمية للعمل النقابي في ظل واقع العولمة غير أنه مع هبوب رياح العولمة واقتصاديات السوق دخلت الحركة النقابية في أزمة حادة جعل البعض يتحدث عن نهاية العصر الذهبي للنقابات . كما فقدت نظرية الصراع الطبقي بريقها مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها العالم خاصة بعد سقوط جدار برلين وانتشار رياح العولمة . فمع انهيار الكتلة الشرقية و؛انتصار؛ النموذج الليبرالي الغربي، وسيادة القطب الوحيد والهيمنة الأمريكية على العالم سياسيا واقتصاديا وإيديولوجيا بدأت كفة المعادلة ترجح لفائدة أرباب العمل. وتجدر الإشارة إلى أن علاقات العمل لم تعد تجمع بين أرباب عمل محليين وعمال محليين، فأرباب العمل اليوم أصبحوا اليوم عبارة عن بضع عشرات من المالكين لشركات متعددة الجنسية أو شركات عابرة للقارات. وقوانين الشغل أصبحت اليوم تحت رحمة المفاهيم العولمية الداعية إلى رفع الحواجز عن حركة الأشخاص والأموال والمنتجات وإلى تحرير سوق الشغل، وأرباب العمل عبر الشركات المذكورة قد استعادوا المبادرة وتمكنوا من إمالة كفة ميزان القوى لصالحهم، لأنهم أصبحوا مطلوبين لا طالبين، وتتهافت +الدول؛ سواء المتقدمة أو المتخلفة في الاستجابة لشروطهم ولو اقتضى ذلك الضغط على العمال مادام أولئك الملاك الكبار يهددون باستمرار بتحويل استثماراتهم إلى جهات أخرى حيث شروط الاستثمار أفضل وحيث اليد العاملة أرخص وحيث كلفة الإنتاج أقل. وفي مقابل عولمة سوق الشغل والرساميل بدأ مفهوم الدولة العناية جصُّفُّم مكَفلىًُِّْ والعصر الذهبي للدولة أي الدولة كانت حاضرة بقوة في مجال الاقتصاد وفي حماية المجتمع وإقامة نوع من التوازن بين أطرافه، بدأ ذلك المفهوم يتراجع في اتجاه الاستقالة لفائدة هيمنة الرأسمال العالمي والشرعيات الدولية سواء كانت قانونية أو حقوقية أو اقتصادية أو سياسية واقع العمل النقابي في الدول الأوروبية لم يسلم العمل النقابي من تأثيرات العولمة حتى في دول أوروبا الغربية التي لها تقاليد عريقة في النضال النقابي. فمع العولمة ومقتضياتها المختلفة من تحرير للأسواق المالية ومن تبادل حر وتدويل لسوق العمل وإعادة هيكلته الاقتصادية الوطنية وهيمنة الشركات المتعددة الجنسية وتراجع دور الدولة وقدرتها على التدخل من أجل إقامة التوازن بين الفئات الاجتماعية وحماية العمال وضمان حقوقهم ، يمكن القول إنه مضى ذلك الزمن الذي كانت فيه النقابات تفرض شروطها باعتبارها قوة ضاغطة لا يستهان بها. فالناظر إلى واقع العمل النقابي في بعض الدول الأوروبية يرى أن بعض هذه الدول قد اختارت في مواجهة تفشي البطالة استراتيجية الأجور المخفضة (بريطانيا الولاياتالمتحدة)، كما لوحظ أن مقتضيات اتفاقيات ماستريخت القاضية بإعادة هيكلة الموازنات المالية للدول الأوروبية، بما يعنيه ذلك من تخفف من أعباء القطاعات العمومية إضافة إلى الضغوط المتزايدة من لدن أرباب المشتغلين الذين يطالبون بمزيد من أعمال مبدأ مرونة التشغيل، وتهديدهم بنقل رساميلهم إلى بلاد أوروبية تتوفر فيه شروط أكثر مناسبة لمصالحهم كل ذلك أصبح يخلق صعوبات متزايدة في مجال التأطير النقابي. يضاف إلى ذلك أن الأحزاب الاشتراكية الأوروبية التي كانت حليفا سياسيا تاريخيا للطبقة العاملة قد أصبحت هي الأخرى متحمسة ل إيديولوجيا السوق ولتطبيقها بحماسة تفوق أحيانا حماسة الأحزاب الليبرالية كما سنبين. والنتيجة أن فقدت الحركة النقابية بريقها وسلطتها وأصبحت أكثر ضعفا في مواجهة الرياح العاتية للعولمة كما تدل على ذلك نسبة الانتساب النقابي في الدول الأوربية وهو ما يوضحه الجدول التالي: (3) أزمة العمل النقابي في الولاياتالمتحدة في الفترة بين عام 1985م وعام 1995م، أي في عقد من الزمن فقط، انخفضت قوة العمالة الأمريكية من الحاملين بطاقة النقابات العمالية بنسبة قدرها 21%، أما اليوم فيقدر عدد الأمريكيين الأعضاء في النقابات ب 14% فقط من أجمالي قوة العمل الأمريكية، ونسبة 10% فقط منهم يعملون في القطاعات الخاصة، ويبدو هذا الانخفاض أشد حدة في فرنسا وبريطانيا، وهو 9% و26% على التوالي، أما في ألمانيا فيعد الانخفاض أقل بعض الشيء وهو 18%. على صعيد تراجع الوعي الطبقي والتنظيم الطبقي، هناك مؤشر واضح أخذ العديد من الاقتصاديين السياسيين يعتمدونه كمعيار لبروز فكر جديد وسلوك جديد، وهو مؤشر عضوية الاتحادات والنقابات العمالية التي أخذت تنخفض في كل مكان تقريباً، ففي الفترة بين عام 1985م وعام 1995م، أي عقد من الزمن فقط، انخفضت قوة العمالة الأمريكية من الحاملين بطاقة النقابات العمالية بنسبة قدرها 21%، أما اليوم فيقدر عدد الأمريكيين الأعضاء في النقابات ب 14% فقط من أجمالي قوة العمل الأمريكية، ونسبة 10% فقط منهم يعملون في القطاعات الخاصة، ويبدو هذا الانخفاض أشد حدة في فرنسا وبريطانيا، وهو 9% و26% على التوالي، أما في ألمانيا فيعد الانخفاض أقل بعض الشيء وهو 18% (الأستاذ سايمور ليبست في مقال له تحت عنوان هل لا تزال الأمة المتميزة؟ نقلاً عن مجلة الثقافة العالمية عدد سبتمبر- أكتوبر 2001م). استثناءات داخل المشهد الأوروبي وعلى الرغم من أن الأرقام تنطق بحقيقة تراجع دور النقابات على العموم بما في ذلك الدول التي صمدت فيها النقابات إلا أن هناك استثناءات واضحة، كما هو الشأن في النموذج السويدي حيث نلاحظ تزايد مضطردا في درجة الانتماء النقابي وذلك راجع إلى نظام السياسات الاجتماعية للدولة في السويد (الدولة العناية) القائمة على أساس التضامن في الأجور والتي يتم الحوار فيها على المستوى الوطني، الشيء الذي يؤدي إلى منح تعويضات عالية دون المساس بمنافسة المقاولة، تلك المنافسة التي يتم ضمانها من خلال الاستثمار المنتج والتشغيل الكامل وتمويل سياسات نشطة في مجال التكوين المستمر للعمال. غير أن النموذج المذكور يعاني هو الآخر من صعوبات وضغوط من لدن الشركات المتعددة الجنسية التي استطاعت أن تنال من سياسة التضامن في الأجور وذلك من خلال التهديد بتحويل رساميلها إلى دول أخرى داخل الاتحاد الأوروبي. وقد استطاع النموذج الألماني هو الآخر أن ينجو نسبيا من الأزمة المذكورة وذلك من خلال المزاوجة في نفس الوقت بين الدفاع عن الأجور المرتفعة وبين حث العمال على بذل مزيد من الجهد في مجال الإنتاج والمردودية وفي مجال تنظيم العمل والتمرن واستخدام التكنولوجيات الجديدة والدخول في نوع من الشراكة والتسيير الجماعي للمعامل والمقاولات وهو ما استفاد منه العمال وأرباب العمل أنفسهم. أحزاب اليسار تتخلى عن النقابات ويبقى النموذج الصارخ لتأثير الخضوع المطلق لمقتضيات العولمة على الحقل النقابي هو النموذج البريطاني. فقد قادت الطبيعة غير المركزية للنقابية البريطانية إلى تغذية منطق نقابي عمالي شعبوي أسهم في خلق صعوبات جمة للصناعة البريطانية. وقد تصدت مارغريت تاتشر التي لقبت ب(المرأة الحديدية) إلى هذا المنطق واستطاعت تحجيم الحركة النقابية من خلال سياساتها الليبرالية التي أعطت الأولوية للتوازنات المالية وللتمويلات والاستثمارات الأجنبية، وهو ما أدى إلى كسر العمود الفقري للقطاعات الاقتصادية التي كانت تنشط داخلها النقابات البريطانية مما قاد هذه الأخيرة إلى مراجعة تصوراتها ومقارباتها النقابية القائمة على أساس الصراع مع المشغلين وتوجيه أنشطتها نحو قطاعات كانت مهملة مثل النساء والقطاعات الخدمية (4). وهكذا وجدت الحركة النقابية البريطانية نفسها قد أضعفت اقتصاديا، كما وجدت نفسها مكشوفة سياسيا حيث لم يعد بإمكانها التعويل على الغطاء السياسي لحزب العمال، ومن ثم لم يعد في يدها سوى المراهنة على الورقة الأوروبية أي على البعد الاجتماعي للاتحاد الأوروبي. وفي عام 1983 (أي قبل انهيار المعسكر الاشتراكي) أبرم حزب العمال الاسترالي اتفاقاً مع النقابات العمالية بتخفيضات في الأجور الفعلية، وقام حزب العمال في نيوزلندا في عام 1984م بتنفيذ سياسة أكثر تاتشرية( نسبة لمارغريت تاتشر) حيث أنهى ما يسمى بفرض الضرائب حسب المقدرة على الدفع وفكك دولة الضمان الاجتماعي وخصخص العديد من مؤسسات الدولة. والحدث الأكبر كان في التحول النوعي في برنامج حزب العمال البريطاني عام 1997 حيث فاز حزب العمال بعد تخليه عن شعاراته التاريخية المتعلقة بالملكية العامة والسياسات الطبقية، وأصبح يؤكد على أن النقابات يجب أن تتعاون مع الإدارة وأرباب العمل لتضمن قدرة الصناعة البريطانية على المنافسة. وطالب بلير زعيم حزب العمال البريطاني الأحزاب التقدمية بالمسؤولية وبالتعاون مع المؤسسات الاقتصادية، لخلق فرص عمل جديدة، والتخلي عن المعارك القديمة، هذا المنهج مورس في الحزب الاشتراكي الديمقراطي السويدي أي المجتمع الأكثر تقدماً في أوروبا من ناحية المساواة الاجتماعية، وهو الحزب الذي ظل في السلطة منذ الثلاثينات عدا فترتين (1976 1982 و 1991 1998) حيث أكد على ضرورة القبول بالملكية الخاصة، وحافز الربح، والفوارق في الدخل والرفاهية، ورأى أن مقدرة اقتصاد السوق على التغير والتطور وبالتالي على النمو الاقتصادي قد ساعد بصورة أكثر في القضاء على الفقر أكثر مما ساعد التدخل السياسي في أسلوب السوق في التوزيع. وقد غير الحزب الشيوعي الأسباني أيضا مساره حيث أخذ في التسعينات يؤيد الخصخصة والسوق الحرة، بل وحلف ناتو، بل أخذ يردد بأن ( سوق التنافس الحر تتصف بالطمع، والفساد، واستغلال الأقوياء للضعفاء، ولكنها أيضاً تعتبر النظام الاقتصادي الأقل سوءاً بين الأنظمة الموجودة). أما في البرتغال فقد نص دستور 1976م، الذي صيغ بعد الثورة الديمقراطية التي قادها الاشتراكيون وأطاحت بدكتاتورية سلازار، على أن الشركات المملوكة للدولة هي من مكتسبات الطبقة العاملة، التي لا يمكن التنازل عنها لكن الحكومة التي انتخبت عام 1996 اتجهت بكل حماس للخصخصة، ونحو سياسات أخرى يتطلبها السوق. أما في فرنسا فرغم حجم الحركة الاحتجاجية لسنة 1995 والتي عادت بالنقابات إلى الواجهة، فإن العمل النقابي يشكو من عدة صعوبات ومنها: تخلي الاشتراكيين المشدوهين ب الحداثة عن العمال وحركتهم ومعاركهم الاجتماعية، مراهنة الحركة العمالية على تدخل الدولة من أجل فرض حلول على الباطرونا تمكن من الحد من تعسفهم ومن تعويض حضورهم على الساحة العمالية بحضور في المؤسسات التمثيلية القانونية (لجان المقاولات، اللجن الثنائية، الانتخابات المهنية..) ثم أخيرا الصراعات بين مختلف التنظيمات النقابي. تحولات جذرية في الحركة النقابية وباختصار فإننا نستطيع أن نحدد أثار العولمة على الحركة النقابية الأوروبية فيما يلي : تحول اقتصاديات الدول الكبرى من الاقتصاد الصناعي القديم المعتمد على العمالة اليدوية،إلى نظام اقتصادي يعتمد أكثر على التقنيات المتطورة ، ولذلك انخفضت العمالة في الصناعات من 26% عام 1960م إلى 13% في 1996م، وفي بريطانيا انخفضت العمالة في الصناعات من 36% من الإجمالي العام إلى 19%، وهو نموذج يعم في السويد حيث انخفضت من 32% إلى 19% وفي استراليا من 26% إلى 5,13%، الأمر الذي خلق تفكيراً بدأ يهيمن رويداً رويداً في المجتمعات الرأسمالية يتمثل بما يسمونهم (بنهاية الوظيفة) أي نهاية عصر العمل والتفكير في إيجاد مداخيل للناس الذين لا يحصلون على العمل، ليس بسبب الركود الاقتصادي أو عدم وجود مؤهلات وتدريب وإنما بسبب قيام التقنية المتقدمة بدور العمال في عمليات الإنتاج والتسويق والتوزيع وحتى التفكير والتخطيط وهو ما أدى إلى تراجع في الطبقة العمالية وازدياد أهمية الطبقة الوسطى وزيادة دور ما أصبح يعرف بالعمال أصحاب الياقات البيضاء من الفنيين ومبرمجي الكمبيوتر والمحللين ..الخ . ولقد نتج عن ذلك تحول المجتمع من الشكل الهرمي ذي القاعدة الواسعة إلى شكل يشبه المعين الذي يتسم باتساعه في منطقة الوسط، أي أن الطبقة العاملة التقليدية آخذة في التقليص في الوقت نفسه الذي تنمو فيه الطبقة المتوسطة . والنتيجة ظهور فئات اجتماعية جديدة ذات ارتباط بالاقتصاد الجديد لم تعد مصالحها تلتقي على مصالح الطبقة العاملة ومن ثم لم تعد تجد نفسها في التمثيليات النقابية القديمة. بروز قيم ومطالب وحركات جديدة لم تعد تقتصر عند المطالب المادية التقليدية البحتة ، فهؤلاء العمال من المواطنين ذو المستوى التعليمي الأفضل والمالكين لمستويات متقدمة من المعرفة باعتبارها أصبحت الأداة الجديدة لتحسين مستوى المعيشة وليس فقط المهارة الإنتاجية، قد تحولوا باهتماماتهم السياسية والاقتصادية المتمركزة حول اللامساواة والاضطهاد والاستغلال إلى اهتمامات جديدة مثل البيئة ومستوى ونوعية التعليم والصحة والإسكان والثقافة وقضايا المساواة للمرأة والأقليات والتنوع الثقافي ونشر الديمقراطية والحرية ليس في بلدانهم بل في البلدان الأخرى، ولذلك برزت تلك الحركات المدافعة عن حقوق الإنسان والبيئة والمرأة والطفولة والحيوانات، بل أصبحت (أحزاب) الخضر والمدافعين عن البيئة منافسين حقيقيين للأحزاب السياسية اليسارية واليمينية في حصولهم على أصوات ومقاعد في البرلمانات. ارتفاع يد الدعم السياسي لأحزاب اليسار الأوروبي التي اندمجت في الأطروحات العولمية ومن ثم صعوبة المراهنة على هذه الأحزاب في دعم الحركة النقابية ، كما عرفت الأحزاب الاشتراكية تحولات كبرى بدأت بوادرها حتي سقوط جدار برلين. . فخلال عقد الثمانينات قامت أحزاب عمالية يسارية في كل من استراليا ونيوزلندا بخفض ضريبة الدخل وفي ذلك ضربة لأحدى ثوابت توزيع الثروة كمبدأ أساسي في الفكر الاشتراكي. كما نفذت سياسات اقتصادية جديدة حيث خصخصت بعض الصناعات الهامة وهي ضربة أخرى للملكية العامة لوسائل الإنتاج كمبدأ أساس آخر من الفكر الاشتراكي. تضاؤل هامش المناورة والتدخل الحكوميين في مجال فرض شروط في صالح الطبقة العاملة وميل هذه الحكومات إلى الانبطاح أمام شروط الباطرونا الداخلية تحت دعوى توفير شروط تمكن من المنافسة للرأسمال العالمي، وميل هذا الأخير أيضا إلى إملاء شروط تحت طائلة التهديد بالهجرة إلى بلاد أخرى توفير شروطا أحسن. ظهور أطروحات جديدة في الحقل النقابي أطروحات تدعو إلى مفاهيم جديدة، مثل مفاهيم الشراكة والتسيير الجماعي وإعادة التأهيل والتكوين للعمال لرفع المرد ودية من أجل حماية مكتسبات العمال في مجال الأجور واستمرارية العمل وأصبحت مصطلحات من قبيل المقاولة المواطنة والنقابة المواطنة وغيرها، مكمن توافق بين الفرقاء الاقتصاديين والاجتماعيين على اعتبار أن نجاح المقاولة هو من نجاح عمالها ونقابييها، وتفاني هؤلاء هو من بريق المقاولة وإشعاعها واستمرار المشروع بهذه الصيغة أو تلك. أصبحت الحركة النقابية تتعايش مع سياسات الخوصصة والتحرير وإعادة التقنين، في حين كانت عدوا لذودا لها في السابق بعد أن أضحت هذه السياسات أمرا واقع ومن ثم أصبحت تؤمن بضرورات المسايرة والتأقلم والانضباط. أصبح هناك توافق ضمني بين البعد السياسي والاقتصادي من جهة والبعد الاجتماعي والنقابي من جهة أخرى لدرجة أصبحت تلك الأبعاد تبدو كرافد من روافد المشروع المجتمعي الجديد في ظل انتقال رأس المال من الطبيعة الإنتاجية المتعارف عليها إلى طبيعة مالية خالصة لا تعتبر المضاربات إلا جزءا منها ،ومن ثم أصبحت الممارسة النقابية التي كانت تدعي امتلاكها لمشروع مجتمعي أصبحت تابعة لمشروع مجتمعي المطلوب منها تبنيه وتزكيته والبناء عليه بحكم موازين القوى وإكراهات الأمر الواقع. لم يعد الإشكال كامنا بالضرورة في مبدأ الممارسة النقابية باعتبارها ممارسة شرعية ومطلوبة وصورة لما يصطلح عليه بالديمقراطية التشاركية بقدر ما أصبح الإشكال كامنا في الأدوات المستخدمة والموظفة ، وصار هناك اتجاه نحو تقنين حق الإضراب وإعادة النظر فيه بمعنى هذا أن الأشكال التقليدية للاحتجاج على ممارسة رأس المال مثلا من إضراب واعتصامات وتوترات اجتماعية لم تعد ذات جدوى كبرى في ظل ممارسات ينخرط في ظلها العامل أو الأجير في رأس مال المقاولة أو يساهم في تحديد استراتيجيتها. ومعنى ذلك أن الأجير أصبحت مصلحة له في ربحية ومرودية المقاولة ومن ثم من المفروض عليه الاندماج في سياستها وفي طبيعة اختياراتها. يترتب على ذلك أن الممارسة النقابية أصبحت لا تعمد فقط إلى مبدأ الرفض والمواجهة تحت هذا الشكل أو ذاك، بقدر ما أصبحت تؤمن بضرورة نهج سياسة اقتراحية. أصبحت بعض الشركات المتعددة الجنسية تسعى في مواجهة أشكال النضال الجديدة التي بلورتها الحركة النقابية العالمية إلى أن تدخل في عين الاعتبار الجانب الاجتماعي فظهرت مفاهيم جديدة لديها مثل المسؤولية الاجتماعية للمقاولة .وقد عرف المجلس الأوروبي المسؤولية الاجتماعية للمقاولة باعتباره مسلسلا إراديا تدمج من خلاله المقاولات الانشغالات الاجتماعية والبيئية في أنشطتها وفي علاقتها مع الأطراف المعنية أي الأجراء والمساهمين والزبناء والممونين والمجتمع المدني. ولقد جاء ذلك كمحاولة لنيل رضا المأجورين وتتمتع نتيجة لذلك بمزايا تنافسية في مواجهة منافسيها . كما أصبحت كثير من الشركات المتعددة الجنسيات تنشئ ضمن تنظيمها بنيات مختلفة تهتم بالمسؤولية الاجتماعية للمقاولة مثل إدارات ومكاتب التنمية المستدامة والمراصد الاجتماعية ، في حين لجأ بعضها الآخر إلى تمويل بعض الجمعيات المدنية وبعضها الآخر إلى مكاتب الخبرة التي أصبحت تتنافس في هذا الصدد مع الجمعيات المذكورة . لكن هذه المقاربة مازالت تتعرض لانتقادات من لدن النقابات على اعتبار أنه لا تزال ترفض إدراج المسؤولية الاجتماعية ضمن مقاربة مؤسسية مؤطرة بحقوق والتزامات قانونية أي إخراجها من مجال القانون الناعم إلى مجال القانون الملزم . إن هذه التحولات فرضت على النقابات أن تعيد النظر في أدوات عملها على ضوء تحديات العولمة، وأن تتكيف وتتأقلم مع هذا الواقع وذلك ما يفرض على النقابة تجاوز بعدها المحلي لمعانقة المنظومة النقابية العالمية. إذ ما دام رأس المال هو نفسه بصرف النظر عن الفضاء الذي يشتغل فيه فإن المفروض توحيد العمل النقابي بين كل التنظيمات النقابية القائمة. (يتبع) 1 جمال البنا: الحركة النقابية حركة إنسانية سلسلة الحوار منشورات الفرقان 4 المرجع نفسه. لا أحد يستطيع أن ينكر الدور الريادي الذي اضطلعت به الحركة النقابية في كبح جماح الرأسمالية المتوحشة وهي في أوج عنفوانها، فقد كان العمل قد تحول مع قدوم الرأسمالية إلى نوع من السخرة والعبودية الجديدة، وأضحى جحيما لا يطاق يمحق إنسانية العامل ويختصر عمره ويقضي عليه بالموت في الخمسين بعد أن يكون قد شاخ في الأربعين. ناضلت الحركة النقابية ونجحت في أن تجعل العمل أكثر إنسانية وفي تقصير ساعات العمل والرفع من الأجور بعدما كان قانون العرض والطلب هو المتحكم فيها، وناضلت من أجل أن تضمن زيادات دورية في الأجور بتزايد الإنتاج وتزايد الأسعار، ونجحت في تحريم تشغيل الأطفال في مصانع الغزل والنسيج والقطن وفي تحريم تشغيل النساء داخل مناجم الفحم، وفرضت على المشغلين تأمينات للعمال ضد المرض وإصابات العمل وتأمينات للشيخوخة والتقاعد والبطالة (1)، لقد استطاعت باختصار أن تتحدى أولئك الذين كانوا يعتقدون أن السوق ينبغي أن يكون هو الآلية الوحيدة للتوزيع الاقتصادي، وأسهمت في بناء مفهوم المواطنة الاجتماعية القائمة على أنظمة الحماية الاجتماعية، كما عملت على إضفاء الطابع الإنساني على العمل وإعطاء الرأسمالية أيضا طابعا أكثر تحضرا . لقد كان للعمل النقابي إذن في الغرب دور كبير في كبح جماح الرأسمالية المتوحشة، وتحرير الإنسان من نظام السخرة الجديد الذي أرسته الطبقة البورجوازية الناشئة في أوروبا على أنقاض كبار الإقطاعيين (2). العمل النقابي في الغرب في ظل منطق الصراع الطبقي ولقد جاء ذلك نتيجة صراع مرير لجأت فيه الطبقة العاملة إلى قوتها التضامنية التي خولها إياها التنظيم النقابي، وفي إطار المنطق الذي حكم تطور المجتمعات الغربية الناشئة أي منطق القوة لا منطق الحق: فالحقوق التي انتزعها العمال في المجتمعات الرأسمالية لم تأت نتيجة اعتبارات خلقية أو إنسانية وإنما جاءت نتيجة علاقات القوة التي ربطت بين العمال وأرباب العمل، والتي أصبحت تميل مع نشأة التنظيم النقابي وتطوره وازدياد قوته تدريجيا لصالح العمال، وهو ما أثمر مختلف المكاسب والضمانات الاجتماعية التي حققها العمال في العصر الذهبي للنقابات. وقد ترسخ منطق الصراع باعتباره الوسيلة المثلى لإقامة التوازن بين العمال وأرباب العمل مع مجيء الثورة الماركسية اللينينية. لكن هذه الأخيرة لم تقف عند توظيف هذا المنطق عند الإطار المذكور، أي عند الإطار المطلبي الذي يضمن حقوق العمال، بل لقد استعملت الطبقة العمالية استعمالا سياسيا يتجاوز المطالب الاجتماعية المتمثلة في تحسين شروط العمل، والزيادة في الأجور، وتحسين الضمانات الاجتماعية.. وسعت إلى توظيف القوة العمالية في السيطرة على السلطة وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا التي ستتولى مهام إقامة المجتمع والدولة الاشتراكيين الشيوعيين. لكن المفارقة الكبرى هي أن ديكتاتورية البروليتاريا قد تحولت في نهاية الأمر إلى ديكتاتورية طبقة جديدة من البيروقراطيين المتنفذين في الأحزاب الشيوعية الشرقية وهي الطبقة التي سميت في الأدبيات السوفيتية ب النومونكلاتورا فُِّّْفٌكَمٍُخ، فأصبح المجتمع كله بما في ذلك العمال تحت نوع جديد من الاستعباد والاستغلال والشقاء والبؤس، المعمم على الجميع في ظل بنيات اقتصادية وإنتاجية متردية، أدت في نهاية المطاف إلى تفكيك الدول الاشتراكية المركزية. وكان من المفارقات أن من أول الدول التي حدثت فيها عملية التفكيك بولونيا وعلى أيدي العمال في إطار نقابة +كدانسك؛ بقيادة زعيمهم العمالي ليش فاليسا . أزمة عالمية للعمل النقابي في ظل واقع العولمة غير أنه مع هبوب رياح العولمة واقتصاديات السوق دخلت الحركة النقابية في أزمة حادة جعل البعض يتحدث عن نهاية العصر الذهبي للنقابات . كما فقدت نظرية الصراع الطبقي بريقها مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها العالم خاصة بعد سقوط جدار برلين وانتشار رياح العولمة . فمع انهيار الكتلة الشرقية و؛انتصار؛ النموذج الليبرالي الغربي، وسيادة القطب الوحيد والهيمنة الأمريكية على العالم سياسيا واقتصاديا وإيديولوجيا بدأت كفة المعادلة ترجح لفائدة أرباب العمل. وتجدر الإشارة إلى أن علاقات العمل لم تعد تجمع بين أرباب عمل محليين وعمال محليين، فأرباب العمل اليوم أصبحوا اليوم عبارة عن بضع عشرات من المالكين لشركات متعددة الجنسية أو شركات عابرة للقارات. وقوانين الشغل أصبحت اليوم تحت رحمة المفاهيم العولمية الداعية إلى رفع الحواجز عن حركة الأشخاص والأموال والمنتجات وإلى تحرير سوق الشغل، وأرباب العمل عبر الشركات المذكورة قد استعادوا المبادرة وتمكنوا من إمالة كفة ميزان القوى لصالحهم، لأنهم أصبحوا مطلوبين لا طالبين، وتتهافت +الدول؛ سواء المتقدمة أو المتخلفة في الاستجابة لشروطهم ولو اقتضى ذلك الضغط على العمال مادام أولئك الملاك الكبار يهددون باستمرار بتحويل استثماراتهم إلى جهات أخرى حيث شروط الاستثمار أفضل وحيث اليد العاملة أرخص وحيث كلفة الإنتاج أقل. وفي مقابل عولمة سوق الشغل والرساميل بدأ مفهوم الدولة العناية جصُّفُّم مكَفلىًُِّْ والعصر الذهبي للدولة أي الدولة كانت حاضرة بقوة في مجال الاقتصاد وفي حماية المجتمع وإقامة نوع من التوازن بين أطرافه، بدأ ذلك المفهوم يتراجع في اتجاه الاستقالة لفائدة هيمنة الرأسمال العالمي والشرعيات الدولية سواء كانت قانونية أو حقوقية أو اقتصادية أو سياسية واقع العمل النقابي في الدول الأوروبية لم يسلم العمل النقابي من تأثيرات العولمة حتى في دول أوروبا الغربية التي لها تقاليد عريقة في النضال النقابي. فمع العولمة ومقتضياتها المختلفة من تحرير للأسواق المالية ومن تبادل حر وتدويل لسوق العمل وإعادة هيكلته الاقتصادية الوطنية وهيمنة الشركات المتعددة الجنسية وتراجع دور الدولة وقدرتها على التدخل من أجل إقامة التوازن بين الفئات الاجتماعية وحماية العمال وضمان حقوقهم ، يمكن القول إنه مضى ذلك الزمن الذي كانت فيه النقابات تفرض شروطها باعتبارها قوة ضاغطة لا يستهان بها. فالناظر إلى واقع العمل النقابي في بعض الدول الأوروبية يرى أن بعض هذه الدول قد اختارت في مواجهة تفشي البطالة استراتيجية الأجور المخفضة (بريطانيا الولاياتالمتحدة)، كما لوحظ أن مقتضيات اتفاقيات ماستريخت القاضية بإعادة هيكلة الموازنات المالية للدول الأوروبية، بما يعنيه ذلك من تخفف من أعباء القطاعات العمومية إضافة إلى الضغوط المتزايدة من لدن أرباب المشتغلين الذين يطالبون بمزيد من أعمال مبدأ مرونة التشغيل، وتهديدهم بنقل رساميلهم إلى بلاد أوروبية تتوفر فيه شروط أكثر مناسبة لمصالحهم كل ذلك أصبح يخلق صعوبات متزايدة في مجال التأطير النقابي. يضاف إلى ذلك أن الأحزاب الاشتراكية الأوروبية التي كانت حليفا سياسيا تاريخيا للطبقة العاملة قد أصبحت هي الأخرى متحمسة ل إيديولوجيا السوق ولتطبيقها بحماسة تفوق أحيانا حماسة الأحزاب الليبرالية كما سنبين. والنتيجة أن فقدت الحركة النقابية بريقها وسلطتها وأصبحت أكثر ضعفا في مواجهة الرياح العاتية للعولمة كما تدل على ذلك نسبة الانتساب النقابي في الدول الأوربية وهو ما يوضحه الجدول التالي: (3) أزمة العمل النقابي في الولاياتالمتحدة في الفترة بين عام 1985م وعام 1995م، أي في عقد من الزمن فقط، انخفضت قوة العمالة الأمريكية من الحاملين بطاقة النقابات العمالية بنسبة قدرها 21%، أما اليوم فيقدر عدد الأمريكيين الأعضاء في النقابات ب 14% فقط من أجمالي قوة العمل الأمريكية، ونسبة 10% فقط منهم يعملون في القطاعات الخاصة، ويبدو هذا الانخفاض أشد حدة في فرنسا وبريطانيا، وهو 9% و26% على التوالي، أما في ألمانيا فيعد الانخفاض أقل بعض الشيء وهو 18%. على صعيد تراجع الوعي الطبقي والتنظيم الطبقي، هناك مؤشر واضح أخذ العديد من الاقتصاديين السياسيين يعتمدونه كمعيار لبروز فكر جديد وسلوك جديد، وهو مؤشر عضوية الاتحادات والنقابات العمالية التي أخذت تنخفض في كل مكان تقريباً، ففي الفترة بين عام 1985م وعام 1995م، أي عقد من الزمن فقط، انخفضت قوة العمالة الأمريكية من الحاملين بطاقة النقابات العمالية بنسبة قدرها 21%، أما اليوم فيقدر عدد الأمريكيين الأعضاء في النقابات ب 14% فقط من أجمالي قوة العمل الأمريكية، ونسبة 10% فقط منهم يعملون في القطاعات الخاصة، ويبدو هذا الانخفاض أشد حدة في فرنسا وبريطانيا، وهو 9% و26% على التوالي، أما في ألمانيا فيعد الانخفاض أقل بعض الشيء وهو 18% (الأستاذ سايمور ليبست في مقال له تحت عنوان هل لا تزال الأمة المتميزة؟ نقلاً عن مجلة الثقافة العالمية عدد سبتمبر- أكتوبر 2001م). استثناءات داخل المشهد الأوروبي وعلى الرغم من أن الأرقام تنطق بحقيقة تراجع دور النقابات على العموم بما في ذلك الدول التي صمدت فيها النقابات إلا أن هناك استثناءات واضحة، كما هو الشأن في النموذج السويدي حيث نلاحظ تزايد مضطردا في درجة الانتماء النقابي وذلك راجع إلى نظام السياسات الاجتماعية للدولة في السويد (الدولة العناية) القائمة على أساس التضامن في الأجور والتي يتم الحوار فيها على المستوى الوطني، الشيء الذي يؤدي إلى منح تعويضات عالية دون المساس بمنافسة المقاولة، تلك المنافسة التي يتم ضمانها من خلال الاستثمار المنتج والتشغيل الكامل وتمويل سياسات نشطة في مجال التكوين المستمر للعمال. غير أن النموذج المذكور يعاني هو الآخر من صعوبات وضغوط من لدن الشركات المتعددة الجنسية التي استطاعت أن تنال من سياسة التضامن في الأجور وذلك من خلال التهديد بتحويل رساميلها إلى دول أخرى داخل الاتحاد الأوروبي. وقد استطاع النموذج الألماني هو الآخر أن ينجو نسبيا من الأزمة المذكورة وذلك من خلال المزاوجة في نفس الوقت بين الدفاع عن الأجور المرتفعة وبين حث العمال على بذل مزيد من الجهد في مجال الإنتاج والمردودية وفي مجال تنظيم العمل والتمرن واستخدام التكنولوجيات الجديدة والدخول في نوع من الشراكة والتسيير الجماعي للمعامل والمقاولات وهو ما استفاد منه العمال وأرباب العمل أنفسهم. أحزاب اليسار تتخلى عن النقابات ويبقى النموذج الصارخ لتأثير الخضوع المطلق لمقتضيات العولمة على الحقل النقابي هو النموذج البريطاني. فقد قادت الطبيعة غير المركزية للنقابية البريطانية إلى تغذية منطق نقابي عمالي شعبوي أسهم في خلق صعوبات جمة للصناعة البريطانية. وقد تصدت مارغريت تاتشر التي لقبت ب(المرأة الحديدية) إلى هذا المنطق واستطاعت تحجيم الحركة النقابية من خلال سياساتها الليبرالية التي أعطت الأولوية للتوازنات المالية وللتمويلات والاستثمارات الأجنبية، وهو ما أدى إلى كسر العمود الفقري للقطاعات الاقتصادية التي كانت تنشط داخلها النقابات البريطانية مما قاد هذه الأخيرة إلى مراجعة تصوراتها ومقارباتها النقابية القائمة على أساس الصراع مع المشغلين وتوجيه أنشطتها نحو قطاعات كانت مهملة مثل النساء والقطاعات الخدمية (4). وهكذا وجدت الحركة النقابية البريطانية نفسها قد أضعفت اقتصاديا، كما وجدت نفسها مكشوفة سياسيا حيث لم يعد بإمكانها التعويل على الغطاء السياسي لحزب العمال، ومن ثم لم يعد في يدها سوى المراهنة على الورقة الأوروبية أي على البعد الاجتماعي للاتحاد الأوروبي. وفي عام 1983 (أي قبل انهيار المعسكر الاشتراكي) أبرم حزب العمال الاسترالي اتفاقاً مع النقابات العمالية بتخفيضات في الأجور الفعلية، وقام حزب العمال في نيوزلندا في عام 1984م بتنفيذ سياسة أكثر تاتشرية( نسبة لمارغريت تاتشر) حيث أنهى ما يسمى بفرض الضرائب حسب المقدرة على الدفع وفكك دولة الضمان الاجتماعي وخصخص العديد من مؤسسات الدولة. والحدث الأكبر كان في التحول النوعي في برنامج حزب العمال البريطاني عام 1997 حيث فاز حزب العمال بعد تخليه عن شعاراته التاريخية المتعلقة بالملكية العامة والسياسات الطبقية، وأصبح يؤكد على أن النقابات يجب أن تتعاون مع الإدارة وأرباب العمل لتضمن قدرة الصناعة البريطانية على المنافسة. وطالب بلير زعيم حزب العمال البريطاني الأحزاب التقدمية بالمسؤولية وبالتعاون مع المؤسسات الاقتصادية، لخلق فرص عمل جديدة، والتخلي عن المعارك القديمة، هذا المنهج مورس في الحزب الاشتراكي الديمقراطي السويدي أي المجتمع الأكثر تقدماً في أوروبا من ناحية المساواة الاجتماعية، وهو الحزب الذي ظل في السلطة منذ الثلاثينات عدا فترتين (1976 1982 و 1991 1998) حيث أكد على ضرورة القبول بالملكية الخاصة، وحافز الربح، والفوارق في الدخل والرفاهية، ورأى أن مقدرة اقتصاد السوق على التغير والتطور وبالتالي على النمو الاقتصادي قد ساعد بصورة أكثر في القضاء على الفقر أكثر مما ساعد التدخل السياسي في أسلوب السوق في التوزيع. وقد غير الحزب الشيوعي الأسباني أيضا مساره حيث أخذ في التسعينات يؤيد الخصخصة والسوق الحرة، بل وحلف ناتو، بل أخذ يردد بأن ( سوق التنافس الحر تتصف بالطمع، والفساد، واستغلال الأقوياء للضعفاء، ولكنها أيضاً تعتبر النظام الاقتصادي الأقل سوءاً بين الأنظمة الموجودة). أما في البرتغال فقد نص دستور 1976م، الذي صيغ بعد الثورة الديمقراطية التي قادها الاشتراكيون وأطاحت بدكتاتورية سلازار، على أن الشركات المملوكة للدولة هي من مكتسبات الطبقة العاملة، التي لا يمكن التنازل عنها لكن الحكومة التي انتخبت عام 1996 اتجهت بكل حماس للخصخصة، ونحو سياسات أخرى يتطلبها السوق. أما في فرنسا فرغم حجم الحركة الاحتجاجية لسنة 1995 والتي عادت بالنقابات إلى الواجهة، فإن العمل النقابي يشكو من عدة صعوبات ومنها: تخلي الاشتراكيين المشدوهين ب الحداثة عن العمال وحركتهم ومعاركهم الاجتماعية، مراهنة الحركة العمالية على تدخل الدولة من أجل فرض حلول على الباطرونا تمكن من الحد من تعسفهم ومن تعويض حضورهم على الساحة العمالية بحضور في المؤسسات التمثيلية القانونية (لجان المقاولات، اللجن الثنائية، الانتخابات المهنية..) ثم أخيرا الصراعات بين مختلف التنظيمات النقابي. تحولات جذرية في الحركة النقابية وباختصار فإننا نستطيع أن نحدد أثار العولمة على الحركة النقابية الأوروبية فيما يلي : تحول اقتصاديات الدول الكبرى من الاقتصاد الصناعي القديم المعتمد على العمالة اليدوية،إلى نظام اقتصادي يعتمد أكثر على التقنيات المتطورة ، ولذلك انخفضت العمالة في الصناعات من 26% عام 1960م إلى 13% في 1996م، وفي بريطانيا انخفضت العمالة في الصناعات من 36% من الإجمالي العام إلى 19%، وهو نموذج يعم في السويد حيث انخفضت من 32% إلى 19% وفي استراليا من 26% إلى 5,13%، الأمر الذي خلق تفكيراً بدأ يهيمن رويداً رويداً في المجتمعات الرأسمالية يتمثل بما يسمونهم (بنهاية الوظيفة) أي نهاية عصر العمل والتفكير في إيجاد مداخيل للناس الذين لا يحصلون على العمل، ليس بسبب الركود الاقتصادي أو عدم وجود مؤهلات وتدريب وإنما بسبب قيام التقنية المتقدمة بدور العمال في عمليات الإنتاج والتسويق والتوزيع وحتى التفكير والتخطيط وهو ما أدى إلى تراجع في الطبقة العمالية وازدياد أهمية الطبقة الوسطى وزيادة دور ما أصبح يعرف بالعمال أصحاب الياقات البيضاء من الفنيين ومبرمجي الكمبيوتر والمحللين ..الخ . ولقد نتج عن ذلك تحول المجتمع من الشكل الهرمي ذي القاعدة الواسعة إلى شكل يشبه المعين الذي يتسم باتساعه في منطقة الوسط، أي أن الطبقة العاملة التقليدية آخذة في التقليص في الوقت نفسه الذي تنمو فيه الطبقة المتوسطة . والنتيجة ظهور فئات اجتماعية جديدة ذات ارتباط بالاقتصاد الجديد لم تعد مصالحها تلتقي على مصالح الطبقة العاملة ومن ثم لم تعد تجد نفسها في التمثيليات النقابية القديمة. بروز قيم ومطالب وحركات جديدة لم تعد تقتصر عند المطالب المادية التقليدية البحتة ، فهؤلاء العمال من المواطنين ذو المستوى التعليمي الأفضل والمالكين لمستويات متقدمة من المعرفة باعتبارها أصبحت الأداة الجديدة لتحسين مستوى المعيشة وليس فقط المهارة الإنتاجية، قد تحولوا باهتماماتهم السياسية والاقتصادية المتمركزة حول اللامساواة والاضطهاد والاستغلال إلى اهتمامات جديدة مثل البيئة ومستوى ونوعية التعليم والصحة والإسكان والثقافة وقضايا المساواة للمرأة والأقليات والتنوع الثقافي ونشر الديمقراطية والحرية ليس في بلدانهم بل في البلدان الأخرى، ولذلك برزت تلك الحركات المدافعة عن حقوق الإنسان والبيئة والمرأة والطفولة والحيوانات، بل أصبحت (أحزاب) الخضر والمدافعين عن البيئة منافسين حقيقيين للأحزاب السياسية اليسارية واليمينية في حصولهم على أصوات ومقاعد في البرلمانات. ارتفاع يد الدعم السياسي لأحزاب اليسار الأوروبي التي اندمجت في الأطروحات العولمية ومن ثم صعوبة المراهنة على هذه الأحزاب في دعم الحركة النقابية ، كما عرفت الأحزاب الاشتراكية تحولات كبرى بدأت بوادرها حتي سقوط جدار برلين. . فخلال عقد الثمانينات قامت أحزاب عمالية يسارية في كل من استراليا ونيوزلندا بخفض ضريبة الدخل وفي ذلك ضربة لأحدى ثوابت توزيع الثروة كمبدأ أساسي في الفكر الاشتراكي. كما نفذت سياسات اقتصادية جديدة حيث خصخصت بعض الصناعات الهامة وهي ضربة أخرى للملكية العامة لوسائل الإنتاج كمبدأ أساس آخر من الفكر الاشتراكي. تضاؤل هامش المناورة والتدخل الحكوميين في مجال فرض شروط في صالح الطبقة العاملة وميل هذه الحكومات إلى الانبطاح أمام شروط الباطرونا الداخلية تحت دعوى توفير شروط تمكن من المنافسة للرأسمال العالمي، وميل هذا الأخير أيضا إلى إملاء شروط تحت طائلة التهديد بالهجرة إلى بلاد أخرى توفير شروطا أحسن. ظهور أطروحات جديدة في الحقل النقابي أطروحات تدعو إلى مفاهيم جديدة، مثل مفاهيم الشراكة والتسيير الجماعي وإعادة التأهيل والتكوين للعمال لرفع المرد ودية من أجل حماية مكتسبات العمال في مجال الأجور واستمرارية العمل وأصبحت مصطلحات من قبيل المقاولة المواطنة والنقابة المواطنة وغيرها، مكمن توافق بين الفرقاء الاقتصاديين والاجتماعيين على اعتبار أن نجاح المقاولة هو من نجاح عمالها ونقابييها، وتفاني هؤلاء هو من بريق المقاولة وإشعاعها واستمرار المشروع بهذه الصيغة أو تلك. أصبحت الحركة النقابية تتعايش مع سياسات الخوصصة والتحرير وإعادة التقنين، في حين كانت عدوا لذودا لها في السابق بعد أن أضحت هذه السياسات أمرا واقع ومن ثم أصبحت تؤمن بضرورات المسايرة والتأقلم والانضباط. أصبح هناك توافق ضمني بين البعد السياسي والاقتصادي من جهة والبعد الاجتماعي والنقابي من جهة أخرى لدرجة أصبحت تلك الأبعاد تبدو كرافد من روافد المشروع المجتمعي الجديد في ظل انتقال رأس المال من الطبيعة الإنتاجية المتعارف عليها إلى طبيعة مالية خالصة لا تعتبر المضاربات إلا جزءا منها ،ومن ثم أصبحت الممارسة النقابية التي كانت تدعي امتلاكها لمشروع مجتمعي أصبحت تابعة لمشروع مجتمعي المطلوب منها تبنيه وتزكيته والبناء عليه بحكم موازين القوى وإكراهات الأمر الواقع. لم يعد الإشكال كامنا بالضرورة في مبدأ الممارسة النقابية باعتبارها ممارسة شرعية ومطلوبة وصورة لما يصطلح عليه بالديمقراطية التشاركية بقدر ما أصبح الإشكال كامنا في الأدوات المستخدمة والموظفة ، وصار هناك اتجاه نحو تقنين حق الإضراب وإعادة النظر فيه بمعنى هذا أن الأشكال التقليدية للاحتجاج على ممارسة رأس المال مثلا من إضراب واعتصامات وتوترات اجتماعية لم تعد ذات جدوى كبرى في ظل ممارسات ينخرط في ظلها العامل أو الأجير في رأس مال المقاولة أو يساهم في تحديد استراتيجيتها. ومعنى ذلك أن الأجير أصبحت مصلحة له في ربحية ومرودية المقاولة ومن ثم من المفروض عليه الاندماج في سياستها وفي طبيعة اختياراتها. يترتب على ذلك أن الممارسة النقابية أصبحت لا تعمد فقط إلى مبدأ الرفض والمواجهة تحت هذا الشكل أو ذاك، بقدر ما أصبحت تؤمن بضرورة نهج سياسة اقتراحية. أصبحت بعض الشركات المتعددة الجنسية تسعى في مواجهة أشكال النضال الجديدة التي بلورتها الحركة النقابية العالمية إلى أن تدخل في عين الاعتبار الجانب الاجتماعي فظهرت مفاهيم جديدة لديها مثل المسؤولية الاجتماعية للمقاولة .وقد عرف المجلس الأوروبي المسؤولية الاجتماعية للمقاولة باعتباره مسلسلا إراديا تدمج من خلاله المقاولات الانشغالات الاجتماعية والبيئية في أنشطتها وفي علاقتها مع الأطراف المعنية أي الأجراء والمساهمين والزبناء والممونين والمجتمع المدني. ولقد جاء ذلك كمحاولة لنيل رضا المأجورين وتتمتع نتيجة لذلك بمزايا تنافسية في مواجهة منافسيها . كما أصبحت كثير من الشركات المتعددة الجنسيات تنشئ ضمن تنظيمها بنيات مختلفة تهتم بالمسؤولية الاجتماعية للمقاولة مثل إدارات ومكاتب التنمية المستدامة والمراصد الاجتماعية ، في حين لجأ بعضها الآخر إلى تمويل بعض الجمعيات المدنية وبعضها الآخر إلى مكاتب الخبرة التي أصبحت تتنافس في هذا الصدد مع الجمعيات المذكورة . لكن هذه المقاربة مازالت تتعرض لانتقادات من لدن النقابات على اعتبار أنه لا تزال ترفض إدراج المسؤولية الاجتماعية ضمن مقاربة مؤسسية مؤطرة بحقوق والتزامات قانونية أي إخراجها من مجال القانون الناعم إلى مجال القانون الملزم . إن هذه التحولات فرضت على النقابات أن تعيد النظر في أدوات عملها على ضوء تحديات العولمة، وأن تتكيف وتتأقلم مع هذا الواقع وذلك ما يفرض على النقابة تجاوز بعدها المحلي لمعانقة المنظومة النقابية العالمية. إذ ما دام رأس المال هو نفسه بصرف النظر عن الفضاء الذي يشتغل فيه فإن المفروض توحيد العمل النقابي بين كل التنظيمات النقابية القائمة. (يتبع) 1 جمال البنا: الحركة النقابية حركة إنسانية سلسلة الحوار منشورات الفرقان 4 المرجع نفسه. التعيينات بالإدارة الترابية والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية
أثارت التعيينات والتنقيلات الأخيرة التي همت الولاة والعمال الكثير من ردود الفعل في الأوساط السياسية والإعلامية. فهناك من عزا الأمر الى حركية عادية تشهدها الإدارة الترابية. وهناك من يفسر الأمر بالسعي الملكي الى إدماج دماء جديدة بغية تنزيل أولويات المعالجة الإجتماعية للعديد من القضايا، لا سيما محاربة الفقر والتهميش والسكن العشوائي، إلا أن مجيء التعيينات مباشرة بعد طرح المبادرة الوطنية للتنمية البشرية يكسب هذه التعيينات أهمية كبرى بالإضافة إلى نوعيتها و شموليتها. ويدعو إلى التساؤل عن مغزي من هذه التعيينات في هذا الظرف بالذات وعن علاقتها بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية؟ ثم موقع انتخابات 2007 من هذه الحركية التي عرفتها أم الوزارات بالمغرب؟
إن موقع الولاة والعمال في الهرم المؤسساتي المغربي يجعل التساؤلات السالفة مشروعة، ذلك أن العامل هو الممثل الأسمى للسلطة المركزية في الحيز الجغرافي الذي يشغل فيه المسؤولية. ومع التغييرات التي أدخلت معطى الجهوية وفق دستور 1996 أصبح العامل أو الوالي المنسق الفعلي لكل المبادرات والأنشطة التي تحصل في دائرة الإقليم أو الجهة التي يمارس فيها مهامه. لذلك فأي رهان للسلطة المركزية على الأصعدة المحلية والجهوية لابد أن يمر عبر العمال والولاة.
إن المقاربة التي يتبناها العهد الجديد ترتكز على مقاربة القرب، أي السعي للنزول الى مواقع الخصاص ثم الإنصات الى المقصيين والمهمشين، من أجل إنتاج حلول أكثر واقعية، وبالتالي أكثر فعالية لذلك فإنه من المنطقي بعد طرح المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وأجرأتها أن يتم تحديد الطاقم البشري لتنفيذ الخطة. ذلك أن المبادرة الوطنية تحاول أن تستند على المعطيات الموضوعية للإشكالية الإجتماعية واعتماد خيار الإنفتاح من أجل تحقيق التنمية الفعالة والمستديمة. كما أن تجسيد المبادرة يبتغي أولا التصدي للعجز الإجتماعي في 360 جماعة قروية الأشد خصاصة و 250 من الأحياء الحضرية الفقيرة. وثانيا تشجيع الأنشطة المتيحة للدخل القار والموفرة فرص الشغل. ثالثا الإستجابة للحاجيات الضرورية للأشخاص في وضعية صعبة. لذلك هذه المعطيات تعطي للقرار بعضا من مبرراته.
قيل أيضا كلام عن تعيين بعض الولاة، وعن مغزى ذلك خاصة عندما يتعلق الأمر بمن كانوا يشغلون مواقع قريبة من دائرة القرار. والراجح أن الأمر لا يدخل في خانة الإبعاد، بقدر ما يرتبط بالرهانات المرتبطة بالتعيينات ذاتها، ذلك أن جهتي الدارالبيضاء بما تمثله من ثقل سكاني واقتصادي ، وكذلك جهة مكناس تافيلالت بما تمثله من تنوع ثقافي وسياسي قد يجعل الحاجة ملحة الى رجالات قريبة من دوائر القرار السياسي لإنتاج مقاربات تدبيرية بديلة.
أما عن علاقة التعيينات الجديدة بانتخابات 2007 فيمكن القول أن هذه الإنتخابات بما أنها ستشكل منعطفا حقيقيا في تاريخ المغرب، فإن مختلف المبادرات السابقة تدخل في عملية تهيئة المناخ الإجتماعي لإجراء تلك الإستحقاقات. فإذا كان من المنتظر أن يضبط قانون الأحزاب الذي لم يخرج بعد، الشق السياسي للتهيئ لإنتخابات 2007 ، فإن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ستمثل الذراع الإجتماعي للإنتخابات المقبلة.
ما يلاحظه المتتبع للشأن السياسي المغربي في هذا السياق هو غياب الفاعلين الآخرين عن المبادرة. كما أن مشروع قانون الأحزاب السياسية لم يتم بعد التداول في شأنه داخل البرلمان. وإذا كانت تعيينات العمال والولاة الحالية تدخل في إطار شمولي يبتغي التحضير لمغرب ما بعد 2007 فالسؤال الذي يبقى مطروحا على أهميته هو: هل اختار المغرب فعلا السكة الصحيحة لبناء مجتمعه الحديث، وتحقيق التنمية المستديمة؟ ثم بأي فاعلين نرجو كمجتمع تحقيق تلك القفزة المرجوة؟