بدعوة من المركز الدولي لدراسات الفرجة التابع لجامعة عبد المالك السعدي، وفي إطار لقاءات «طنجة المشهدية» التي اعتاد المركز على تنظيمها كل سنة ألقى الدكتور حسن أوريد محاضرة افتتاحية يوم 20 ماي الماضي تحمل العنوان أعلاه. ومراعاة لطبيعة أغلب المشاركين في ذلك اللقاء الذين ينحدرون من شتى بلدان العالم فإن المحاضرة قد ألقيت باللغة الفرنسية وحرصت على استحضار الطبيعة الثقافية والفكرية للمتلقين. وقد خص الدكتور حسن أوريد مشكورا جريدة "الاتحاد الاشتراكي" بالنسخة العربية لهذه المحاضرة التي ننشرها تعميما للفائدة. فكرتان اعتورتا العالم المعاصر تبين أنهما جزئيا خاطئتان أو ليستا على الأصح دقيقتين : الأولى أن الرأسمالية هي الحل. والثانية أن الدين سراب. فالرأسمالية ليست هي الحل المطلق، والشعور الديني لا يزال قائما وله مستقبل واعد. ونحن ندرك هذه الحقائق لا من باب الشطحات الذهنية أو المضاربات الفكرية، بل بقوة الواقع. فالأزمة المالية العالمية وما يصاحبها من أزمة اقتصادية، فضلا عما تحمله من جوانب خفية ومن مشاكل، تبين حدود النظام الرأسمالي. إن سقوط حائط برلين لم يعف على الشعور الديني وإن هو نعى نظاما كان يتوخى تحرير الإنسان من "خرافة" الدين وما يرتبط بالإيمان من غيبيات. لنتوقف عند هذه الانتكاسة التي أناخت على العالم جراء تعثر الآلة الاقتصادية. فإلى عهد غير بعيد كان يتم الترويج لفضائل الرأسمالية بصخب كبير، ليس من طرف كل المتخلفين وكسالى التاريخ كما في الأدبيات الرأسمالية فحسب، ولكن هذه المرة من قبل كسالى نظام السوق. واكتسى هذا النداء عدة مسميات : الليبرالية الجديدة، العولمة، الرأسمالية توربو... وقد أخذ هذا اللغط لبوس إيديولوجيا استهلاكية عفت على فلسفة الأنوار، التي حررت الفرد ورفعت شأن العقل. وكأنما تحولت الأنوار إلى ذكرى قديمة، إذ أضحى الفرد مُشيّئا، ولا قيمة له إلا بقدر ما يستهلك. وكأن كوجيتو ديكارت وجد له بديلا في كوجيتو استهلاك: أنا أستهلك إذن أنا موجود. أما العقل فقد أصبح أقل تعقلا، وأفضى إلى انزلاقات تواجه مجالس الأخلاقيات conseils d?Ethique بالعنت لضبط غلوائه والتحكم فيه. الحداثة لم تعد هي الارتباط بالقيم التي أفرزتها الأنوار، ولكنها تقنيات تتجدد وتتكرر من أجل الكثير من المكاسب وقليل من الخسائر كما في أية مقاولة. أما العقل النقدي فقد استسلم أمام جحافل المال وجنود الصورة، واتخذ السباق المحموم على المال شكل عبادة. بل أضحى هو الدين السائد، بمؤمنيه من اليمين، والمؤلفة قلوبهم من اليسار، إلى الحد أن عناصر من اليسار في أوربا وغيرها كشفت عن خضوع مطلق لسلطان المال. ولهذا الدين الجديد متنه هو لغة الأرقام، وله طقوسه التي تكمن في المشاريع الضخمة، وله خطيئة أصلية هي الفضائح الكبرى.. وغالبية الدهماء تضيع في سراديب هذا الدين لولا الإعلام الذي يقرب المواطنين من "دينامية المجتمع الرأسمالي".. لقد تم تدجين الحشود العمالية في الدول الغنية بفضل تأمين العيش والرفاه..لا مكان للنقابات، ولا للطبقة العاملة ولا للمثقف الذي يضطلع بدور الصلة بين الطبقات المحرومة والأخرى الواعية بحرمانها. ولم يخطيء الفيلسوف الفرنسي Gauchet صاحب مفهوم "الشرخ الاجتماعي" الذي تبناه السياسيون فيما بعد حول قدرة النظام الرأسمالي على الالتئام وقدرته على تحويل الاحتجاج إلى لغط خطابي. وتبين أن ما كانت تحذر منه بقايا جيوب الماركسية من جحيم الأشياء والأوضاع ليس بالشكل الذي كانت تخوف منه: تحرر المرأة، الحرية الجنسية، عالم اللذة، التقدم في مجال الصحة.. وهي الأمور التي جعلت الإنسان الغربي يستكين إلى ما أسماه كوشيه بالسعادة الخاصة المبتذلةla banalité des bonheurs privés. أما الاحتجاج سواء أقامت به الوحدات النقابية أو فلول المثقفين أوحركات المجتمع المدني فتبقى معنوية بالأساس. فلسنا أمام نموذج المنظومة الماركسية التي تقدم تصورا بديلا للإنسان والمجتمع.. ورغم حدة لهجة الاحتجاج فدوره هو الخطابة لا الفعل. ويمكن بسهولة أن نقيس هذا الوضع على دول الجنوب التي ينطبق عليها وضع الاحتجاج المحول la contestation délocalisée : نظام نقابي رخو، صحافة لاذعة ولكنها محدودة الأثر، مجتمع مدني وثيق الصلة بآخر المستجدات branchée يضطلع بدور الضمير الحي الذي لا يغضب لا السلطات العمومية ولا الرأسمال. وهؤلاء يحترمون قساوسة المجتمع المدني دون أن يؤمنوا به. يبدو أن هذا النموذج قد عف عليه الزمن، وأننا سنعود إلى حقيقة الأشياء المؤلمة: ففي الغرب لم يعد يُتستر عن بعض من مزايا الماركسية في نقدها للمنظومة الرأسمالية ولا في تنبئها بالعولمة ولا في شجبها لعبادة المال. ويعمد بعض من المجددين إلى إجراء بعض التصحيحات على الماركسية بأن ُيضمنوها الإيمان بالله، ويعتقدون أن إدراج البعد الروحي من شأنه أن يحد من غلواء الماركسية ويلطف حدتها. في ألمانيا لاقى كتاب رجل دين يحمل عنوان "الرأسمال" رواجا كبيرا، وهو الرأسمال الذي يتبوأ فيه الاعتقاد بالله الصدارة. أما في فرنسا فقد تم إحياء الكتاب المسيحيين الجدد أمثال بيكي وبرنانوس وكلوديل Péguy, Bernanos, Caudel. ولهؤلاء المسيحيين الجدد، كما بقول جاك جوليار الذي أفرد للموضوع كتابا، ما يمكن أن يقدموه لعالم غربي يشكو الضياع. الرأسمالية وفق هؤلاء ليست بالضرورة سيئة شريطة ألا تحيل كل العلاقات الاجتماعية إلى علاقات تجارية، وهم يحيلون إلى عرّاب الليبرالية أدمس سميث نفسه الذي حذر من النزوع التجاري للرأسمالية إذ يقول إن "القدرات الذهنية تتقلص وسمو الفكر يغدو مستحيلا، والمعرفة ينظر إليها بازدراء، أو أنها على الأقل لا تحظى بالاهتمام، ويكاد الشعور بالشهامة أن يضمحل مطلقا." ولسوف يبقى عرضنا مبتسرا إن لم نشر إلى ضمائر العالم الثالث التي أرادت أن تنعتق من ليل الاستعمار الطويل. فالكاتب فرانز فانون المنحدر من جزر الأنتيل ألقى على كاهل "معذبي الأرض" مسؤولية ضمير جديد للعالم ورسم السبيل القويم للعالم الثالث..وكأن صيحاته صدى ابتهالات ودعاء: "أيها الرفاق فلنقرر من الآن سلوك سبيل آخر,, لقد أبت أوربا أن تنصاع لكل نداء للتواضع وخفض الجناح، وأن تصيغ لكل أنة ولكل نداء رحمة. فلنقرر ألا نحذو حذو أوربا، ولنشمر على سواعدنا، ولنعصب أدمغتنا في اتجاه جديد. لنعمل على إحداث إنسان جديد، إنسان أخفقت أوربا أن تجعله هو السائد." ينبعث "معذبو الأرض" بوصفهم جيلا بعد صيحة فرانز فانون وليس بأيديهم لا "رأسمال" ماركس و لا "ما العمل" للينين، بل هم يسعون إلى أن ينشئوا عالما جديدا ويقتحموا المستقبل بالانغمار في تجاويف ذاكرتهم المطموسة والمكبوتة. وهم على غرار بعض ضمائر الغرب يقتحمون عالم الروحانيات ويجعلونه المؤتمن على كشف خبل العالم و أداة للتعبئة ضده. إن عالم الرأسمالية الذي هو بلا معنى أفرز نقيضه، وهو ما يعبر عنه بمصطلح علمي ما بعد الفكرة، أو تغيير الفكرة أو تحول داخلي metanoia. فالدين ليس أفيونا ولكنه يمكن أن يصبح كما يقول ريجيس دوبري "فتيامين" الفقير. أما عالمة السيميائات جوليا كريستفا Julia Kriteva فتتحدث في كتابها القيم عن "هذه الحاجة العميقة للإيمان" (cet incroyable besoin de croire) والذي تأخذ فيه موقفا مناوئا لفرويد وخاصة كتابه الذي ينتقد فيه الدين "مستقبل خرافة". فالدين بشكل مغاير ليس خرافة ولا سرابا، وهي تقول لأصدقائها من الغنوصيين والإنسانيين والملاحدة "لاتخشوا المسيحية. إننا نأتي من نفس القارة الفكرية". فهي تدعو إلى معسكر ضد الهمجيات الصاعدة من أجل اقتحام سبل الحرية التي تحف بها مخاطر عدة. بيد أن استعادة الدين وتوظيفه نجدها أقوى ما تكون في بلدان الجنوب، فالكاتب الكامروني Gaston Kelman يقدم شهادة مؤثرة عن الرجل الأبيض الذي أسلمه إلها بلا معالم : "ليس مهما أن يكونوا قد قتلوا الإله أقبله، ولكن ما يحز في ذهني أنهم أسلموني إياه بعد أن قتلوه. لم يكن في الأمر خدعة، فالقساوسة الذين عرفتهم وأنا طفل كانوا يبدون صادقين. أتوا إلى افريقيا مع إلههم، وقالوا لي هو الحق، هو الرحيم، هو الأوحد. فرضوا علي أن أحرق أوثاني من عالم الإحيائيين. والمشكل أني ارتبطت بهذا الإله. والمشكل أنه يوافق هواي." هذه العودة إلى الدين في الأطراف هي من وجه من الوجوه ردة فعل ضد غطرسة الغرب وماديته العارمة ومخلفات الاستعمار في المؤسسات الموروثة وفي تصرفات الأسياد والحاكمين. ويتكلم الكاتب النيجيري Achille Mbembe عما يسميه بالإبداع الشعري للدين، فما افريقيا، يصرح هذا الكاتب بلا دين؟ فالدين هو موطن الأمل والموئل الذي يمنح القوة للمضطهدين لكي ينهضوا ويمشوا. ويؤاخذ اليهودي Shmuel Trigano نزوع الحداثة في محو كل الاختلافات لا فرق بين الإنسان ولا الحيوان، بل بينه والجماد، لا فرق بين الروح والجسد، بين الذكر والأنثى، بين الإنساني والإلهي، بين العلم والدين..إنها حال أشبه ما تكون بالسديم، وهي ما يعبر عنها العهد القديم ب توهو وبوهو(Tohu-bohu) . وتكتسي الأمور في بلاد الإسلام طابعا أكثر تعقيدا. فاللجوء إلى الدين في بلاد الإسلام يكتسي شكل جرح وجودي غائر. بيد أننا لا يمكن أن نفصل بين الاستمساك بالدين والبحث عن المعنى وتحقيق الهوية وإقرار العدالة. وحتى لا يذهبن التأويل كل مذهب فالحركة الإسلامية إحدى تمثلات الحداثة، والإسلامي هو نتاج الأزمنة الحديثة، وهو أقرب ما يكون من علوم الإعلام ومنحنيات الرياضيات ومختبرات البيولوجيا منه إلى فذلكات علماء الدين. ويتم التمييز بين نوعين من الإسلاميين: الإسلامي سليل الأسر المحافظة الذي يبحث عن موطيء قدم في عالم العصر وامتلاك صور الحداثة رغم العنت الذي يلاقيه من أجل ذلك. إنه المندمج في العصرbranché، الذي تراه يغشى، في البلدان التي تعرف حيزا ديمقراطيا الأحزاب السياسية ذات التوجهات الإسلامية. وهو في عالم الاستهلاك يتردد على الأسواق الكبرى والماركات العالمية، وهو في ميدان الطقوس مواظب على العمرة، وبخاصة في شهر رمضان، ويستمد ثقافته من بعض دعاة التلفزيون على غرار عمرو خالد. والإسلامي الذي يتموقع خارج منطق التسويات ولا يتردد في الصدع بالرفض وسلوك الاحتجاج. وهو يريد أسلمة الحداثة، ويوظف المصطلحات الماركسية ويلبسها لبوسا إسلاميا، ويوجه حراب نقده للإيديولوجية الماركسية والأنظمة القائمة. وهو فيما يتعلق بمرجعيته الإيديولوجية يصوغ مرجيعة خاصة به، ولا يكتفي بالتلفيق والأخذ من هنا وهناك، إلا أن له حساسية مفرطة تجاه إخضاع النصوص القديمة لقراءة نقدية. وفي ذات المنظور نجد فئة ثالثة لا يربطها رابط وتأتي من رحم الحداثة نفسها، ويشكل الإسلام لديها منتهى لا منطلقا، ونجد من ضمن هؤلاء أطرا عليا أتعبتها غطرسة الغرب، كما نجد من ضمنها بعض مسلمي أوربا. لنقرأ ما يقوله واحد من هؤلاء المسلمين الأوربيين : تعبنا نحن الأوربيين من كل الأوهام، أصبحت عقولنا لا تؤمن بشيء، ونشعر بتعب عميق ويأس يطبق علينا. لقد صدقت نبوؤة نيتشه حينما تحدث عن أفول الأصنام. ويتحدث القرآن الكريم في سورة "الواقعة" عن الجبال وقد انهدّت وبست وأضحت هباء منبثا، مما يحيل من الناحية الرمزية إلى انهيار الإيديولوجيات وضياع المعنى. لذلك نرى أن الإسلام يستطيع في أوربا أن يساعد على بزوغ فجر روحي جديد." إن التأويل الذي تقرأ به النصوص، والتوظيف الذي تستغل من أجله ليصعب على عقول حديثة أن تقبل به، ويتوجب والحالة هذه عملية نقدية، وذلك من صميم فلسفة الإسلام الداعي إلى التأويل ومطابقة لروحه الداعية إلى التجديد. وإنه يتوجب على علماء المسلمين ومثقفي العالم الإسلامي أن يعمدوا إلى التجديد إن كانوا يؤمنون بما يدعو له البعض من موعد الحضارات. وهم لن يفعلوا إن لم يعرفوا الآخر حق المعرفة. وقد صدق حدس الشاعر الألماني الكبير جوته إذ يقول في ديوانه الشرقي : من يعرف ذاته ويعرف الآخر، سيدرك ما يلي: لا الغرب ولا الشرق يستطيعان أن يفترقا.