يقول الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء العالمية صباح يوم الخميس الماضي: " عقب قيام الصحافيين الماليين، بمسيرة سلمية احتجاجية للمطالبة بإطلاق سراح زملائهم، الموجودين في السجن، لم يجد النظام السياسي أفضل من الهجوم على المحتجين، مما خلف "" العديد من الضحايا، وبالأخص رئيس اتحاد صحافيي إفريقيا الغربية، السيد " فاماكان كوليبالي " الذي يوجد حاليا في حالة حرجة بين الحياة والموت. هكذا انتفض الزملاء في مالي ( واحدة من أفقر دول القارة الإفريقية والعالم ) دفاعا عن المهنة وممارسيها، وكان من بينهم مَن يوشك الآن، على دفع حياته ثمنا لهذه المطالبة بحرية الكلمة الإعلامية... أما عندنا فدخل صحافيون مغاربة منذ بضع سنوات للسجن وأضربوا عن الطعام – كما حدث مع الزملاء لمرابط والتادلي والبدراوي – ولم يتحرك الصحافيون، حيث كانت تكتفي نقابة مجاهد ( المُعَيَّن من طرف الإتحاد الاشتراكي والاستقلال ) بإصدار بيانات " تضامنية " تُكتب على مضض، ذلك أن الموقف كان حرجا اتجاه المنتظمات الدولية غير الحكومية، التي كانت أنظارها متجهة إلى ما يقع من تنكيل، من طرف المخزن، بحرية التعبير، سيما أن نقابة مجاهد مُمثلة في شخصه، الذي أتقن الكولسة في حزب اليازغي، ضمن الفيدرالية الدولية للصحفيين ( وهذه أعجوبة كبيرة تحتاج إلى تحقيق صحافي ). مهنة الصحافي في المغرب تُعتبر اليوم سُبَّة أكثر من أي شيء آخر، حيث ينشغل أغلب " المُضطرين " لممارستها ( لأنهم لم يجدوا مهنة أخرى في وقت تشد فيه البطالة بخناق المغاربة أكثر من أي وقت مضى ) بتدبير أمر لقمة العيش، وهم في سبيل ذلك " مستعدون للنوم مع الشيطان " كما يقول مثل سويدي، فبنظرة سريعة على الأوضاع المادية والاجتماعية ل " صحاب القلم " سيتبين أن " وضعهم المادي يُحدد مستوى وعيهم " كما قال شيخ الشيوعيين في العالم كارل ماركس، لذلك يُمكنك بسهولة أن تلحظ كيف يتملقون لرؤسائهم في مقرات الجرائد والإذاعات والتلفزيونات، وثمة في هذا الإطار حكايات تشيب لها رؤوس الولدان، حيث من " الطبيعي " أن تشتد المنافسة بين الصحافيين، ليس في إنجاز أعمال السبق الصحافي، بل في تسابق من نوع آخر، يقتضي إيصال وشاية ضد بعضهم البعض مثل تلاميذ فصول الدراسة الابتدائية، ولعلكم تابعتم بعض تفاصيل هذه الحروب الصغيرة العفنة من خلال النزاع القائم بين " الحاجَّين " كمال لحلو و مصطفى العسري وصل إلى حد اتهام هذا الأخير للأول بسرقة كمبيوتره الشخصي وتسيير إذاعة كازا إيف إيم كما لو كانت ضيعة فلاحية . والواقع أنه يجدر إيلاء هذه الاتهامات الكثير من الاهتمام، لأنها تُعبر عن الذهنية المتفشية لدى أرباب المؤسسات الإعلامية المغربية، فهم في معظمهم أناس لم يتبوءوا مناصبهم عن جدارة واستحقاق، بل جراء " دهائهم " وشطارتهم في خدمة أولياء النعمة في الأحزاب أو المراتب المخزنية العليا، ولمن يريد الكثير من التفاصيل في هذا الاتجاه، فقما عليه إلا البحث في السجلات الشفوية والمكتوبة، لكثير ممن يتبوءون اليوم مناصب إشرافية، في أغلب المؤسسات الصحافية المملوكة للدولة أو الأحزاب، أو تلك التي يُطلق عليها بكثير من التساهل " الصحافة المستقلة " وسيقف على ما يجعله يعثر على أجوبة لأسئلة من قبيل: لماذا لم يُنجب المغرب بعدُ صحافيين كبار ( بلغة الضاد ) على المستوى المحلي والعربي، ولما لا حتى العالمي، من طراز المصري محمد حسنين هيكل أو التونسي سعيد الصافي... في مجال الصحافة المكتوبة مثلا؟ صحافيون يمنحون قراءهم الروبورتاجات والتحقيقات والاستجوابات المهنية التي تُبصرهم بمحيطهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وليس الترهات المتمثلة فيما يتجشِه بعض مراهقي الكتابة والحياة، أو ما يُمكن أن نسميه ب صحافة " لي ما طيب عشاتو وجمع فراشو لا خير يُرجى فحياتو " تقصف قراءها الكثيرين بمثل هذه الخزعبلات التي " تُرَقِّدُهُم " في مزيد تخلف وانحطاط. هل تريدون أن تعرفوا كيف شيَّد الحاج كمال لحلو " امبراطوريته " الإعلامية على الطريقة المغربية؟ حصل ذلك لأنه كان يتلفظ بكلمات مُبتذلة عندما كان ينقل أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، أطوار المقابلات الرياضية، سواء كانت في كرة القدم أو الريكَبي أو اليد أو الملاكمة... لا يهم يكفي أنه كان يعرف كيف " يُخاطب " أذهان الناس، وبلغ " أوج عطائه المهني " مع تظاهرة ألعاب البحر الأبيض المتوسط التي نُظمت بالدارالبيضاء سنة 1983 ، فحينها " برع " كمال بسوقيته غير المسبوقة في الاعلام المرئي المسموع بالمغرب، ومازالت ذاكرة الكثير من المغاربة تحتفظ له ببعض " التحف " النادرة، من مثل قوله في وصف مقابلة جرت بين الملاكم المغربي " عشيق " مع أحد خصومه المتوسطيين : " واعطيه آخويا عشيق دخَّل ليه للنيف.. الله أومصلي علييييييييييييييييييك ارسول الله ".. هكذا كان الحاج كمال – وما زال في أغلب الظن - يفهم الوصف الرياضي، وهو ما " استحق" عليه حسب تصريح له لمجلة " تيل كيل " رضا الملك الراحل الحسن الثاني الذي استدعاه ليُهنئه على " البلاء الحسن " في مهمته الإعلامية، وهي الفرصة الذي عض عليها بالنواجذ لينطلق في سماء الكسب المادي السريع، والبقية بلا شك تعرفونها. يُمكن لمتابعي " إنتاجات " الاعلام المغربي أن يجد أشباه الحاج كمال في كل المؤسسات الإعلامية المغربية، حيث يتبجح رشيد نيني مثلا، بأنه يفتخر بشعبويته، ويصف زملاءه بأنهم مجرد حاسدين له على ما أنعمت عليه شعبويته من عائدات مادية ( أما مسألة الشهرة فلا نعتقد أنه يوليها الكثير من الاهتمام لسبب بسيط، هو أن أشهر شخصية في المغرب بعد الملك محمد السادس، تتمثل في سي المكي الترابي، ولا نظن أن نيني يأتي في المرتبة الثالثة ولا حتى الرابعة ) كأي خضار في سوق شعبي يتبادل نظرات الغل والحقد مع باقي الخضارة، لذا دخل نيني في " نقاش " مع مدير الأحداث المغربية ليقول له من ضمن ما قاله من " تُحف " جديرة بالسجل الذهبي لتاريخ الصحافة ببلادنا: " جريدتك تقتات من السوتيانات والسليبات " ليرد عليه لبريني بطريقة غير مباشرة " أنت مجرد حراكَ وشاعر فاشل " بل ويخصص له ركنا في الصفحة الأخيرة لجريدته بعنوان " نينيات " عدَّد فيه الأخطاء اللغوية والمفهومية لغريمه، وذلك على طريقة بحث العجائز المغربيات في رؤوس بعضهن البعض، عن حشرة " الصيبان " وليعود نيني للكر مرة أخرى مُخاطبا خصمه، عفوا زميله، في حنق واضح: " لا تكتف بتخصيص ركن نينيات في الصفحة الأخيرة لي، بل ضع أيضا آخر في الصفحة الأولى سمه مومويات، وآخر في الصفحات الداخلية سمه خيخيات ".. هكذا " يتحاور زملاء نفس المهنة على طريقة " مي الضاوية " الشهيرة بلسانها السليط الذي ينفث أدق تعابير التحقير الجنسي في حق غريمتها " خالتي السالكة " حيث تقول إحداهما للأخرى: " واسيري أصوبيصا.." لترد عليها غريمتها ": " هاما تسواي آلفاعلا التاركة". بين لبريني ونيني يقف القارىء المغربي في نفس وضع أطفال ونساء ورجال أحد أحياء القصدير بالدار البيضاء أو الرباط، وهم يُتابعون الأطوار الشيقة، لمشادة كلامية، تُكسِّر رتابة وبؤس حياتهم، بين خضارين مُتحاسدين، أو بين سليطتي اللسانين " الضاوية " و "السالكة ". قد يقول قائل: إنه المغرب وليس الدانمارك.. فلماذا نريد صحافة أكبر من مستوانا؟ إن في هذا القول منطق لا يُبارى في الظاهر، لكن المصيبة هي أن أصحاب هذه المعارك " الخامجة" يدعي كل منهم أنه فريد زمانه، ولم تنجب، ولن تنجب المهنة محليا وعربيا وعالميا، أفضل منه.. و بهذا فإنه في المغرب يتساوى السياسي بالصحافي بالمثقف بالإنسان الشعبي – مع فارق أن هذا الأخير مثل الأطرش في الزفة – كلهم يحملون في جيناتهم، عُقَدهم الاجتماعية والثقافية والسياسية والتاريخية، التي تجعل من هذا المغرب بلدا يعود إلى الوراء، في كل مرة يحسب الغافلون من أبنائه أنهم يتزحزحون قيد أنملة إلى الأمام. المسألة مُعقدة جدا، ففي الوقت الذي كان يعتقد القراء في المغرب بالآلاف، أنهم يقرؤون صحافة " حقيقية " في صحف الأحزاب، خلال العقود التي تلت الاستقلال عن فرنسا، في جرائد أحزاب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والاستقلال والتقدم والاشتراكية، لم يكن الأمر يتعلق في الحقيقة، سوى ببضع ترتيبات إعلامية، كانت تقوم بها بعض الشخصيات السياسية " المُعارضة " لتهيئ أماكن مريحة لها إلى جانب المخزن المغربي، انظروا اليوم إلى الأوضاع التي يوجد فيها اليازغي وفتح الله ولعلو والأشعري و عباس الفاسي ومحمد الخليفة ومحمد الوافا ونبيل بنعبد الله ومحمد سؤال... لتعلموا أن اللعبة كانت دائما في المغرب يلخصها هذا المثل الشعبي خير تمثيل: " المنذبة كبيرة والميت فار ". فكيف تريدون من صحافيين مغاربة ترعرعوا في كنف هذه " القوالب " السياسية في صحف الأحزاب أن يمنحوكم صحافة مهنية حقيقية؟ إن أقصى ما يُمكن أن يفعلوه هو أن يتنازعوا فيما بينهم بضع آلاف من القراء، بمواضيع الجنس والشعبوية المُدغدغة للمشاعر أو جرائم الاغتصاب، وفي أحسن الأحوال " ملفات " سياسية تقول كل شيء من أجل ألا تقول شيئا، أما العلاقة بين الصحافيين فأقل ما يُمكن ان يُقال عنها أنهم يُكِنُّون لبعضهم البعض البغض والاحتقار، ويتحينون الفرص لكيل الضربات تحت الحزام بينهم، على طريقة " مي السالكة " و " خالتي الضاوية ".. هذا الوضع يجعل علاقة " الزمالة " بين الصحافيين المغاربة تُلخصها هذه النكتة الشعبية أبلغ تلخيص: " كان أعمى يَعبُر دائما شارعا يحفظ عدد الخطوات التي تنقله من جانبي الطوار، وحدث أن تم توسيع نفس الشارع ببضع خطوات، دون أن يعلم الأعمى الذي كان مسافرا حينها، وعندما رجع عبَر شارعه المعتاد، وفي اللحظة التي اعتقد أنه بلغ الطوار الآخر، كان سائق يُحاول فرملة عجلات سيارته المسرعة، التي أصدرت صوتا مزعجا باحتكاكها العنيف على إسفلت الشارع حتى لا يصدم الأعمى، فكان أن قال هذا الأخير شامتا " أعطي لمُّوووووووووو" معتقدا أن الأمر يتعلق بعابر آخر وليس هو".
لنُذَكِّر ببعض المعطيات التاريخية القريبة عن مهنة المتاعب في بلادنا: المشكلة بدأت حينما استحوذت الدولة المخزنية أول الأمر على وسائل الإعلام العمومي، فحينها أرادت أحزاب " الكوطليط " عفوا " الكتلة " أن تكون لها صحافتها، فكان لها ما أرادت، حيث جعلت قيادات تلك الأحزاب الصحافيين مجرد " كتاتبية " يغطون مهرجاناتهم الخطابية في جموع الناخبين، ويلازمون حركاتهم – وما أقلها – وسكناتهم – وما أكثرها – بل و يعددون حتى ضرطاتهم ( هذا موضوع خطير حقا أطلقوا عليه في لحظة وعي اسم تبعية الثقافي و الإعلامي للسياسي ) وهو ما أراح الجميع: المخزن الذي وجد في هؤلاء الصحافيين الحزبيين أرضا خصب لتجنيد المخبرين في صفوف أجهزة الأمن السرية والعلنية، والأحزاب التي أمَّنت بذلك خدمة إعلامية لتهريجها السياسي، والصحافيين الذين يتوصلون آخر الشهر برواتب تقل أو تنقص – حسب سلم تراتبيتهم لدى أولياء نعمهم – دون مجهودات مهنية حقيقية ( طبعا التعميم هنا لا يستقيم، فلكل قاعدة شذوذها، لكنه يُثُبت القاعدة ولا يُلغيها كما يقول أهل المنطق ). نعيش اليوم إفرازات هذه الأرضية السياسية "المعقدة " حيث الغالبية العظمى لممارسي هذه الحرفة، رضعوا، عن وعي أو بدونه، من نفس الثدي " المسمومة ".. أرضية تزداد تعقيدا، بالنظر إلى الشروط الأخرى غير الصحية التي ترعرع فيها المجتمع، بكل أوراشها الاقتصادية والتربوية والثقافية إلخ. يا معشر القراء: إن صحافة " مِّي السالكة " و " خالتي الضاوية " تعدكم بمزيد من " الفرجة " فاستمتعوا ما طاب لكم.