شرع مجلس النواب في مناقشة مشاريع قوانين تهم تنقيح المنظومة الانتخابية المؤطرة للاستحقاقات المقبلة، ويبدو ان الاهتمام السياسي والنقاش العمومي يتجه إلى التعديل الذي قدمته أحزاب المعارضة (الأصالة والمعاصرة، الاستقلال، التقدم والإشتراكية) وبعض أحزاب الأغلبية الحكومية (الأحرار، الحركة الشعبية) والقاضي بتغيير القاسم الانتخابي باعتماد أساس القيد في اللوائح الانتخابية بدل الأصوات الصحيحة. وبدون شك فإن هذا التعديل خلق نقاشا عموميا طبيعيا بين مؤيد له رأى فيه نوعا من العدالة الانتخابية وحماية للأحزاب الصغيرة والابتعاد عن خطر الهيمنة وبين رافض له واتهامه بتهديد الاختيار الديمقراطي ومخالفته للدستور واستغلاله كسلاح لتصفية حزب منافس وإقصائه مسبقا من السباق الانتخابي. لا أحد ينكر أن القواعد الانتخابية هي بطبيعتها قواعد صراعية، لأنها تتوخى كسب رقعة من التمثيلية لدى البعض أو توظيفها لسحب جزء من رقعة التمثيلية لدى المنافسين، وبالتالي فالتنابز السياسي الحاصل أمر طبيعي بل ومطلوب مادام يتم وفق آليات الحسم الديمقراطي الذي يشكل البرلمان فضاء لها، ومع ذلك سيظل الاختلاف قائما مهما كان مصير التعديل، لأن الامر مرتبط بمنظومة انتخابية غير مستقرة وتبحث دائما عن آليات تراعي السياق السياسي والاجتماعي والمصالح الظرفية للفاعلين الحزبيين. لكن هل يهدد القاسم الانتخابي المبني على القيد في اللوائح الانتخابية كما يدعي البعض بنيان العمران الدستوري؟ وهل يعاكس الثابت الدستوري المتمثل في الاختيار الديمقراطي؟ قبل تقديم عناصر جواب يستبعد أي خرق دستوري للقاسم الانتخابي على أساس المسجلين لابد من إبداء ثلاث ملاحظات مهمة: الأولى تتعلق بإثارة الانتباه للقيمة الدستورية التي أصبح يحوزها التسجيل في اللوائح الانتخابية كشرط في ممارسة الحقوق الدستورية، ويكفي الرجوع لقرارات المحكمة الدستورية (رقم 1009 و1010) التي اشترطت على أصحاب العريضة والملتمس في مجال التشريع ومدعموهما أن يكونوا مقيدين في اللوائح الانتخابية العامة، بل ان القضاء الدستوري اعتبر شرط التسجيل في اللوائح الانتخابية قبل ممارسة الحق في الديمقراطية التشاركية من شأنه تحفيز المواطنات والمواطنين على الانخراط في الحياة الوطنية. والثانية تشير إلى أن القيد في اللوائح الانتخابية فعل قانوني إرادي، يعبر من خلاله المواطن البالغ سن الرشد السياسي عن رغبته في الالتحاق بالكتلة الناخبة بمحض إرادته لممارسة حق وواجب التصويت، وهذا على عكس العديد من الأنظمة الانتخابية التي تقوم على اساس التسجيل الضمني بمجرد بلوغ سن الرشد السياسي، مما يجعل القيمة الواقعية للتسجيل مختلفة في تجربتنا عن تجارب الكثير من الدول وبالتالي فإن عملية القياس تكون غير دقيقة إذا لم نقل مضللة. أما الملاحظة الثالثة فتحاول إثارة الانتباه إلى أن تقسيم مقاعد مجلس النواب على الدوائر الانتخابية المحلية التي تجري بمراسيم لا تأخد بعين الاعتبار الكتلة الناخبة او المسجلة او المعبرة أو المصوتة بل على معيار عدد السكان وهو معيار دستوري نص عليه الفصل 63 من الدستور. لكن هل يمس القاسم الانتخابي بحرمة الدستور ومبادئه وأهدافه؟ بدون شك ان القانون التنظيمي المتعلق بانتخاب اعضاء مجلس النواب الذي يتضمن تعديل القاسم الانتخابي سيحال إجبارا على المحكمة الدستورية للنظر في مدى مطابقته للدستور، وسنقف عند تأويلها الدستوري لهذا التعديل، لكن هذا لا يمنع من ان نؤكد أن الخطاب الرافض للتعديل هو خطاب سياسي وليس دستوري هو خطاب يهم دائرة المشروعية وليست الشرعية، وفي نظري فإن التعديل ليس فيه ما يخالف الدستور وهو يدخل ضمن الاجراءات التشريعية التي تسمح للسلطة التشريعية ببلوغ الأهداف الدستورية. وحيث أن تقديم التعديلات حق دستوري مصون لممثلي الأمة، لا يحده سوى ما تضمنه الدستور من قيود، سيما ما يتعلق بالمس بالثوابت الجامعة والمبادئ الجوهرية والمقاصد الواردة في الدستور وحيث أن التسجيل في اللوائح الانتخابية شرط لممارسة حق التصويت الذي هو أيضا واجب وطني، طبقا لأحكام الفقرة الثانية من الفصل 30 من الدستور؛ وحيث إن المعيار الجديد لتقسيم المقاعد، من شأنه تحفيز المواطنات والمواطنين على الانخراط في الحياة الوطنية من خلال المشاركة في الانتخابات، إعمالا لما ينص عليه الدستور في فصله 11 من أن على السلطات العمومية أن تتخذ الوسائل الكفيلة بالنهوض بمشاركة المواطنات والمواطنين في الحياة العامة؛ وحيث إنه، يتبين من الاطلاع على نتائج الانتخابات التشريعية لسنوات 2011، 2016، من زاوية العدالة الانتخابية القائمة على التناسب بين الأصوات المحصل عليها وعدد المقاعد البرلمانية، أن هناك احزاب بعينها استفادت من القاسم الانتخابي على أساس الأصوات الصحيحة، فيما تضررت احزاب عديدة من القاسم الانتخابي المعمول به؛ وحيث إن من شان هذا الاجراء التشريعي تحفيز المقيدين إراديا في اللوائح الانتخابية للتوجه للانتخابات لتحديد مصير نتائج الاقتراع، مادام أن تسجيلهم له قيمة دستورية ويحتسب على أساسها توزيع المقاعد البرلمانية فإن ذلك سيسعى إلى تحقيق غاية مقررة دستوريا والمتعلقة بتوسيع المشاركة السياسية ويعد تكريسا لإحدى القيم الكبرى التي ينبني عليها الدستور التي بمراعاتها تتحقق مصلحة عامة؛ وحيث إن الدستور نص في الفقرة الأولى من فصله السابع على أن الأحزاب السياسية مهما كان حجمها "تساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية"، فإن من شأن اعتماد القاسم الانتخابي بناء على عدد المسجلين في اللوائح المحلية، أن يحقق تمثيلية مستحقة للأحزاب الصغرى وهو ما يسير في اتجاه إعمال المبادئ الدستورية القائمة على حماية التعددية من خطر الهيمنة. بناء على كل ما سبق أعتبر أن القاسم الانتخابي إجراء تشريعي محصن بالدستور ولا يتعارض معه.