أوهام ثورة الصحراء تدفن في أقبية البوليساريو.. يوم اقتنعت أني لم أعد أنازع في مغربية الصحراء مع نهاية العطلة الصيفية سنة 1989، كان كل شيء انقلب رأسا على عقب، فنظم ما عرف بحملات النقد الذاتي، وتمت المصالحة بين المتناحرين وشكلت حكومة، وبدا أن تغييرا قد حصل كان من نتائجه أن بدأت تختفي بعض المحاذير المتعلقة بألوهية القيادة التي كان يعتبر مجرد التفكير في نقدها أو إبداء ملاحظة حول قرار اتخذه أحد أعضائها، أخطر من الردة في مجتمع مسلم. سيتضح فيما بعد أن ذلك التغيير لم يكن مطلقا، ففي حالتي مثلا لا يمكنني إبداء رأيي حول الطريقة التي سأذبح بها، وبالفعل فحين أعلنت تحويلات المعلمين للسنة الدراسية 1989-1990 كنت من نصيب مركز للتكوين المهني بمدرسة 12 أكتوبر، فلم أعلق لسببين، أولهما أن من كان وراء ذلك التعيين هو وزير التعليم سيد أحمد البطل، الذي يعرف بأنه مؤسس جهاز القتل (الأمن) التابع لقيادة البوليساريو، وهذا سبب يكفي لأن أضع عشرين على فمي. السبب الثاني هو أنني بدأت أحس بأن روحي لم تعد في تلك القضية، ولم أعد أنازع الملك الحسن الثاني رحمه الله على الصحراء كما كان يتهكم علي بعض أصدقائي في رسائل وصلتني يوم كنت في ليبيا، وقد بدأت جديا أفكر فيما لو أتيحت لي فرصة فإني سأغادر دون رجعة غير باك ولا داع لأعود لتك الأرض، خاصة وأنه في تلك الفترة فتح باب صغير لإعطاء ترخيص لفترة قصيرة للذين لهم ارتباطات مالية أو عائلية في موريتانيا ورسبانيا بالذهاب لتسويتها. ولهذين السببين التحقت بعملي الجديد بعد أن تقمصت شخصية النجار الماهر الذي تضاهي معرفته للأخشاب معرفتي لعملية البناء الضوئي عند النباتات أيام كنت مدرسا للعلوم الطبيعية، وشخصية الميكانيكي المتمكن الذي يميز بين دور بكرة عمود المرفق وبكرة علبة زيت المقود في محرك السيارة مثلما كنت أفرق بين البسيط والمتدارك في علم العروض أيام كنت مدرسا للغة العربية. وأخذت من علم المنطق أيام كنت مدرسا لقسم الأطر أنه إذا كان كل جبن مصنوع من الحليب، فإن الفرار من وجه العدو جبن كي أعرف ما إذا كان لحم الحديد مع الحديد لحما ما دام كل لحم مصدره الحيوان. وصلت إلى ذلك المركز ولم تكن لدي أدنى فكرة عن الدور الذي سأقوم به داخله سوى أن «الوزير» قبل الالتحاق به أخبرني أني سأعمل مديرا للدروس، غير أني اصطدمت بالواقع الذي وجدته أمامي، فقد كان عدد رواده لا يتجاوز عشرين شخصا أعمارهم تتراوح بين الأربعين والخمسين سنة، وهناك أربعة مدراء، مديران عامان يتناوبان على الحضور وهما أحمد سالك ولد بيروك والمسمى التامي، ومديران للدروس أحدهما خريج من نفس المركز. وبالنسبة للدروس كانت كلها تطبيقية، مما يعني أنه ليس لدي دور، فعرفت أن الأمر يتعلق بسياسة تهميش متعمدة لست أول من اتبعت معه فقد سبق في ذروة الخصاص من المدرسين بعد أن زج بالجميع في المعتقلات أن تم تهميش عدد من الإطارات من بينهم صحراويون أكفاء فيهم من سبق أن تكون كمدرس مثل ما حدث مع واحد من أروع من ناهضوا ما تعرض له الموريتانيون وظل على علاقته بهم رغم المضايقات التي كان يتعرض لها بشكل منتظم فتم تهميشه بطريقة مضحكة، حيث إنه بدل مهنة التدريس التي تكون عليها تم تكليفه رفقة المرحوم الشيخ أسلامة بطهي الجرائد وتشكيل مجسمات منها خلال ما كان يسمى «حملات الإنتاج». أمام وضعية الفراغ التام التي أصبحت أعيش فيها، قررت أن أواظب على حضور الحصص كمتعلم وكانت تجربة رائعة تعلمت فيها مبادئ صنع أبواب الخشب وبعض أبجديات ميكانيك السيارات، وأتذكر في هذا المجال أن أول باب يصلح للاستعمال صنعته كان لصالح زوجة أحد أروع وأنبل الأصدقاء الذين تعرفت عليهم هناك.