قماش أحمر كان كافيا لاتهامي برفع العلم المغربي.. ذكريات الجلاد الذي كان يوصف ب«الرب» وكان من نتائج تلك الأحداث المضطربة أن استقال أو اعتزل مدير مدرستي الذي شعرت معه بالأمان، فأحسست أني أصبحت كاليتيم على موائد اللئام، حيث إن «ميسم» العمالة مطبوع على جبيني وسجني خلع بابه كي يبقى مفتوحا في انتظار عودتي، والرجل الذي كان يعطف علي أبدل ببدل أعور وحل محله من لا يملأ ذلك المحل فجيء بمدير جديد لم يخيب ظني في ما كنت أخشاه من أن تجرفني موجة من موجات ذلك الصراع المسعور، وكأن ما عانيته في الماضي لا يكفيني. فقد بدأ المدير الجديد (البشير لهداد) باتهامي باستعمال القماش الأحمر كستائر لنوافذ الغرفة التي أسكنها مع بعض المعلمين، ورغم أن لا علاقة لي بوضع تلك الستائر إلا أن التهمة كانت كافية ليقرر حرماني من العطلة، فاللون الأحمر معروف أنه لون العلم المغربي، وفي تلك الأثناء قيل إن بعض النساء قد حملن العلم المغربي خلال المظاهرات التي شهدتها المخيمات للتعبير عن سخطهن على القيادة. كنت أنا «متعهد الحكومة» على رأي الفنان المصري عادل إمام في مسرحية (شاهد ما شاف شي حاجة)، فكلما كانت هناك تهمة لا يوجد من ترمى عليه يتم تقريبي من المربط لأسرج بها، ويبدو أن إشارة بموضوع القماش الأحمر قد أرسلت إلى مركز الاعتقال الذي يجاور المدرسة، فتم استدعائي أو على الأصح اختطافي إليه ليلا ليتم التحقيق معي حتى الفجر. وكان المحققون هذه المرة كرماء معي فلم يعذبوني واكتفوا بعصب عيني وقد علق في ذاكرتي صوت أحدهم عرفت لاحقا بعد أن رعى الحمل مع الذئب، أنه عبد الرحمن ولد بوه المعروف بلقب (ميتشل) والذي كان بعض الضحايا في معتقل الرشيد يلقبه ب«الرب»، حيث كان يعذب الضحية حتى يقول بأنه هو ربه، وقد آلمني أن أول مرة رأيته بعد ذلك وتعرفت على صوته. كان معي أخوه الأصغر من الأم يدعى الرايس، وكان أحد تلاميذي، ودرس معي في المدرسة نفسها بعد أن تخرج، وكان يكن لي الكثير من الاحترام وقد تأثر كثيرا حين أخبرته بالموضوع حتى أنه بكى ولم يستطع أن يكمل معي الطريق، حيث كنا متجهين من مخيم آوسرد إلى مخيم العيون الذي يبعد بعشرات الكيلومترات، فعاد أدراجه ومن يومها لم يحمل طبشورا والتحق بجبهات القتال، وتمضي السنون ليزورني في مقر عملي بنواكشوط كي يعتذر لي مجددا ويخبرني بأن أخاه الأكبر حذره من مصاحبة من يبيت وهو يعصر البصل في عينيه. أمضيت في مدرسة 9 يونيو سنتين دراسيتين (1987-1988، 1988-1989) أولاهما عسل، والثانية حنظل، لما تعرضت له فيها من مضايقات وإهانات حتى ممن أعمل معهم من المعلمين وكان من النادر أن يمر شهر دون أن أتعرض فيه للبحث والاستنطاق لأتفه الأسباب. غير أن أكثر شيء ألمني في تلك الفترة كلها وجعلني أفكر في أن السجن أرحم هو ذلك التشفي الذي كنت أسمعه حين اندلعت أحداث 1989 بين موريتانيا والسنغال. فقد كان البعض لا يخفي نشوته مما تعرض له الموريتانيون من قتل وتنكيل، ولن أنسى ذلك اليوم الذي قال فيه مراسل البي بي سي من دكار (....وكان السنغاليون يضربون الموريتانيين في الشوارع حتى الموت)، وكان رد أحد الحاضرين أن اللهم زدهم قتلا فأمن آخرون، وحين استهجن متدخل هذا الكلام ردوا عليه بأن الموريتانيين يستحقون القتل فقد شنوا حربا على الصحراويين. وما زاد حنقي وألمي ليس كوني لا أستطيع الحديث فقط، إنما لأن أغلب المتحدثين كانوا غثاء جاء بهم السيل من مدن جزائرية مثل تيندوف ولخبي ولعباضلة، ولم تكن الصحراء تعني لهم شيئا إلا بعد أن صار نزاعها بقرة حلوبا يقتاتون من حليبها بعد السنين العجاف التي عاشوها وعاشها أجدادهم في أرض كان أهلها يعتبرونهم درجة سفلى ويسمونهم (أعريب) فأصبحوا بقدرة قادر من أهل الصحراء الذين عرفوا بالنخوة والترفع عن النقائص.