تعد نازك خير من نظر لعروض الشعر الجديد من خلال كتابها "قضايا الشعر المعاصر"، ومن خلال مقدمات دواوينها. فقد حددت البحور التي تصلح لهذا الشعر، والبحور التي على الشاعر المعاصر أن يتجنبها. لقد قسمت بحور القصيدة الحرة إلى قسمين: 1-البحور الصافية: وهي تلك البحور التي تقوم على تفعيلة واحدة تتكرر حسب الحاجة النفسية للشاعر. وهذه البحور هي: الكامل، والرمل، والهزج، والرجز، والمتقارب، والخبب، والمتدارك. 2-البحور الممزوجة: وهي بحور تقوم على تفعيلتين. التفعيلةُ الأولى تتكرر حسب رغبة الشاعر، وينهي هذا التكرار بالتفعيلة الثانية. وهذه البحور هي السريع(1)، والوافر، والكامل الأحذ(2). السريع = (مستفعلن Xx) + فاعلن (أو: +فاعلان،أو فعْلن،أو فعْلان) الوافر = (مفاعلتن Xx) + فعولن الكامل الأحذ = (متفاعلن Xx) + فعْلن (أو فعِلن) (3). وترى نازك أن ثمة بحورا لا تصلح لهذا الشعر. وهي: الطويل والمديد والبسيط والمنسرح؛ لأن الوحدة الوزنية لكل بحر من هذه البحور مكونة من تفعيلتين(4). اعتبر بعض النقاد والشعراء هذه التحديدات قيودا. والحق أن السيدة نازك كانت مصيبة في ما ذكرته. ذلك بأنه ينبغي التمييز في هذا الشعر الجديد بين صنفين من الشعر: صنف ينبغي أن نطلق عليه اسم: شعر التفعيلة، وهو الشعر الذي يتخذ من التفعيلة وحدة تتكرر بحسب ما تتطلبه الحالة النفسية للشاعر. وهذا الصنف، وهو الغالب على إنجازات الشعراء المعاصرين، يصدق عليه ما ذكرته نازك. أما الصنف الثاني، فلا يقوم على وحدة التفعيلة، وإنما يقوم على وحدة الشطر. وهذا قليل الاستعمال، لم نجد له حضورا إلا في شعر أدونيس، والسياب، والطبال، والسرغيني وحجازي 5(...) ولهذا، سندرس أوزان القصيدة الحرة من خلال هذين الصنفين: 1-وحدة التفعيلة: إن بحور هذا الصنف، كما ذكرت نازك الملائكة، هي: الكامل والرمل، الهزج والرجز والمتقارب والخبب والمتدارك. يضاف إليها البحور الممزوجة: السريع والوافر، والكامل الأحذ. كما حددت نازك استعمالها. لأن لهذه البحور استعمالا آخر في ما أسميناه:وحدة الشطر، وسنعرض له في المبحث الثاني. ونحن لن نقف عند كل هذه البحور، لأن غيرنا سبقنا إلى دراستها. ولكن سنقتصر على بحرين اثنين هما: [الرجز/ السريع] و[الخبب/ المتدارك]، لأهميتهما في الإنجاز الشعري المعاصر. تقول نازك الملائكة: »كان البحر الأثير خلال السنوات 50-1954 هو الكامل، ثم اختفى في السنتين الماضيتين، وبرز في مكانه بحر الرجز، وكثر استعماله كثرة عجيبة، حتى لم يعد المرء يجرؤ على استعماله خوفا من الوقوع في الرتابة. أما في هذا العدد من الآداب [= دجنبر 1957]، فإن البحر الذي يتصدر هو الخبب الذي كتبت به أربع قصائد من مجموع عشر، يليه الرجز الذي كانت منه ثلاث قصائد. ولعل في هذا إرهاصا بمستقبل للخبب«(6). وهذا الكلام قائم على واقع الشعر، حيث إن القصيدة الحرة، منذ ميلادها إلى اليوم، موزعة على هذين البحرين. ساد الرجز المرحلة الأولى، ويسود الخبب/ المتدارك المرحلة الثانية التي ما تزال مستمرة إلى يومنا هذا. وقد لاحظ الأستاذ أحمد المجاطي الملاحظة نفسها(7). *الرجز/ السريع: يرى الدكتور محمد أحمد وريث أن الرجز الذي يجيء تاما ومنهوكا ومجزوءا ومشطورا، ويأتي متعدد القوافي هو الإرهاص الحقيقي للشعر الحر(8). والحق أن هذا الشعر أخذ من الأراجيز لا من الرجز. لأن الرجز بحر كباقي البحور، وقد لاحظت نازك أن »الشعر الحر كلُّه مزالقُ، ويَنْصِبُ شركا، فإذا لم يكن الشاعر على حذر، كان من السهل أن ينتقل فجأة من الرجز إلى السريع أو المنسرح لمجرد أن مستفعلن تتصدر البيت«(9). وهذا أمر طبيعي، لأن هذه البحور هي أوزان الأراجيز، وطبيعي أن يتم التداخل بينها، فقول الشاعر: يَا صَاحِبَيْ رَحْلِي أَقِلاَّ عَذْلِي هو من السريع. ويراه البعض من الرجز. وقول الشاعر: وَيْلُمِّ سَعْدٍ سَعْدَا هو عند البعض من المنسرح، ولا يمانع آخرون من عده رجزا. أما الشعراء، فيبدو أنهم يعدون كل هذا بحرا واحدا. يقول أحمد شوقي: يَحْكُونَ أَنَّ رَجُلاً كُرْدِيّا كَانَ عَظِيمَ الْجِسْمِ هَمْشَرِيّا (..) بَلْ قَالَ لِلْغالِبِ قَوْلاً لَيِّنَا اَلآنَ صِرْنَا اثْنَيْنِ أَنْتَ وَأَنَا(10) فالنص به أبيات من السريع السادس، وأخرى من الرجز الرابع. فهل يعني هذا أن النص من بحرين؟ لا نظن أن شوقيا يريد هذا، وإنما تفسير وجود هذين الوزنين في نص واحد أن الشاعر يعتبرهما وزنا واحدا. صحيح في النص ضربان مختلفان. وهذا أمر طبيعي، لأن الشاعر يكتب المزدوج، وهذا الشكل الشعري تتعدد أضربه. ويقول كذلك: مَرَّتْ عَلَى الْخُفَّاشِ مَلِيكَةُ الْفَرَاشِ(...) صِفْ لِي الصَّدِيقَ الأَسْوَدَا اَلْخَامِلَ الْمُجَرَّدَا(11) فالنص يشتمل على المنسرح الرابع، والرجز الخامس. والشاعر معروف عنه التزامه بتقاليد الشعر العربي لا يرغب في أن يعدد البحور في النص الواحد، وما قام به هنا ليس خروجا عن التقاليد. وإنما يعني أنه يعتبر الوزنين وزنا واحدا، خلافا لما يراه بعض العروضيين. والقصيدة الحرة عدت كل هذه الأنماط رجزا، لكن السريع يبقى متميزا حين ينتهي إما بفاعلن أو بفاعلان. فهل يؤكد هذا الكلام الإنجاز الشعري؟ إن الرجز عند الشعراء الرواد نوعان: نوع=(مستفعلن Xx) + فعولن أو فعولْ أو فعو، أو فعْلان، أو فعْلن، أو مفعولن وهذا النوع يمكن أن نطلق عليه اسم السريع. وقد مارسه البياتي، وأدونيس، والسياب، والمجاطي، وخليل حاوي؛ أي: إن هؤلاء الشعراء، حين يختارون هذا النوع، لا يدخلون "مستفعلن" في ضربه. وللتمثيل، نقدم النماذج التالية: يقول أدونيس: مَزَجْتُ بَيْنَ النَّارِ وَالثُلُوجْ لَنْ تَفْهَمَ النِّيرَانُ غَابَاتِي وَلاَ الثُّلُوجْ وَسَوْفَ أَبْقَى غَامِضاً أَلِيفَا أَسْكُنُ فِي الأَزْهَارِ وَالْحِجَارَهْ أَغِيبُ، أَسْتَقْصِي، أَرَى، أَمُوجْ كَالضَّوْءِ بَيْنَ السِّحْرِ وَالإِشَارَهْ(12) ويقول المجاطي(13): اَلْكِلْمَةُ الصَّغِيرَهْ تُقَالُ أَوْ تُخَطُّ فَوْقَ الْمَاءْ تَمْشِي بِهَا الرِّيَاحُ أَوْ تَبُثُّهَا الرِّمَالُ فِي الصَحْرَاءْ تُولَدُ أَوْ تَكُونُ أَوْ تَصُوغُهَا مُصَادَفَاتُ الصَّخْبِ وَالضَّوْضَاءْ اَلْكِلْمَةُ الصَّغِيرَهْ يَسْكُبُهَا الصَّبَاحُ أَوْ تَهْمِي بِهَا الظَّهِيرَهْ مَا بَالُهَا تَكْبُرُ فِي الْهَوَاءْ تَحْجُبُ وَجْهَ الشَّمْسِ؟ تُلْقِي ظِلَّهَا؟ تَغْمُرُنِي بِالرَّجْعِ وَالأَصْدَاءْ؟ مَا بَالُهَا؟ مَمْلَكَتِي مَمْلَكَةُ الصَّمْتِ، اخْسَأُوا أَمْقُتُهَا كَلِمَةً قِيلَتْ لِغَيْرِ الْمَدْحِ وَالْهِجَاءْ(14) ويقول السياب: عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ أَوْ شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا الْقَمَرْ عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسِمَانِ تُورِقُ الْكُرُومْ وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ.. كَالأَقْمَارِ فِي نَهَرْ (...)(15) هذه النماذج تشترك في كونها حافظت على القافية. فالنموذج الأول اتخذ الشكل القافوي التالي: أ أ ب ج أ ج. واتخذ النموذج الثاني الشكل التالي: أ ب ب ب أ أ ب ب ب. أما الثالث، فهو عبارة عن مقطع من قصيدة طويلة على الشكل القافوي التالي: أ أ ب أ أ ب ج د ج د د د أ ب أ ب أ أ أ أ أ (...) ولعل حرص هؤلاء الشعراء، وبعض شعراء جيلهم على القافية هو الذي أدى إلى التزامهم بوحدة الضرب في هذه القَصائد الحرة، وهي دعوة روجت لها الشاعرة نازك الملائكة. إن النموذج الأول يقوم على/ فعولْ/ ضربا، وهي صيغة لم تتغير رغم تنويع القافية. وهذا ينسجم مع الطابع الغنائي للشعر العربي. أما النموذج الثاني، فيقوم على قافيتين، وعلى ضربين، هما: فعولن/ مفعولن/. أما النموذج الثالث، فيجمع بين ضربين هما: / فعو/ و/ فعولْ/. النوع الثاني = (مستفعلن Xx) + مستفعلن [أو+ فعولن، أو + فعولْ أو+ فعْلن، أو + فَعو إلخ]. وهذا يعني أن هذا النوع متعدد الأضرب، مارسه بعض الشعراء الرواد، أمثال صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي ونازك الملائكة ! والخمار الكنوني، ثم جل شعراء الأجيال اللاحقة الذين كتبوا على الرجز. وظهورُه أو انتشاره يعود في تقديرنا إلى صلاح عبدالصبور الذي كان، بالنسبة لشعراء جيله، الشاعرَ الوحيد الذي لا يعتني بالقوافي، حيث غلب الإرسال على أكثر أبيات قصائده الحرة. وحين تغيب القافية، تتعدد الأضرب، فقد لاحظنا مثل هذا في ما أنجزه الزهاوي من شعر مرسل. لكن هذا لا يعني أن من خصائص هذا النوع أن تكون القصيدة الحرة مرسلة، فقد تكون أيضا مقفاة، كما في شعر حجازي والخمار مثلا. ونمثل لهذا النوع بما يأتي: تقول نازك الملائكة: اَلْحُبُّ وَالْعَذَابُ أَقْبَلاَ تَبَسَّمَا فِي وَلَهٍ عَذْبٍ وَذَابَا خَجَلاَ يَداً بِيَدْ خَدًّا لِخَدّْ اَلْحُبُّ وَالْعَذَابُ فِي فِنَاءِ قَلْبِي نَزَلاَ طِفْلَيْنِ قَادِمَيْنِ فِي مَجَاهِلِ الأَبَدْ (...)(16) ويقول صلاح عبدالصبور: لَحْنُ الْخِتَامِ يَا حَبِيبَتِي هُوَ السَّلامُ وَالدُّعَاءْ وَأَنْ تَكُونِي لِي... إِلَى الأَيَدْ وَأَنْ يَكُونَ حُبُّنَا مُبَارَكاً كَمَا الْحَيَاهْ وَنَامِياً عَمِيقَةً جُذُورُهُ فِي نَفْسِنَا وَأَنْ نَعِيشَ هَذِهِ الأَيَّامَ طَاهِرَيْنِ شَامِخَيْنِ مَمْزُوجَةٌ أَقْدَارُنَا فِي كَاسَةٍ نَعُبُّهَا مَعَا (...)(17) ويقول عبدالكريم الطبال: اَلشَّرْخُ فِي الْجِدَارْ اَلْكَلِمَاتُ شَاخَتْ فِي الْجَرِيدَةِ الْمُصَوَّرَهْ اَلسَّاعَةُ الَّتِي تَهْذِي تَمُوتُ فَجْأَةً بِالسَّكْتَةِ الْقَلْبِيه اَلصُّورَةُ الْمَطْلُوبَةُ عَلَى الْحِيطَانِ صَاغَ مِنْهَا الْوَجْهَ وَالْحَقِيقَهْ اَلاحْتِضَارُ فِي دِمَاءِ الْحَدْسِ وَعُرُوقِ الذَّاكِرَهْ(18). النموذج الأول يقوم على النظام القافوي التالي: أ أ ب ب أ ب. وأضربه هي: فعو/ مستعلن/ مستفعلن/ مستفعلن/ مستعلن/ فعو. وهذا أمر غريب في قصيدة حرة من إنجاز شاعرة كنازك الملائكة التي تدعو إلى وحدة الضرب. فليس في هذا النموذج انسجام بين ضربي البيت الأول والبيت الثاني، وحتى على مستوى القافية؛ إذ بينهما تنافر. فالأولى متدارك، والثانية متراكِب. وهذه لا تنسجم إلا مع قافية البيت الخامس. أما البيتان الثالث والرابع، فلهما ضرب واحد وقافية واحدة. لكن البيت الأخير الذي له الرويُّ نفسه لا ينسجم معهما، لأن به علة النقص. النموذجان الثاني والثالث يتفقان في كونهما مرسلين. وهذا الإرسال شجع تعدد الأضرب، حيث نجد النموذج الثاني يجمع بين: فعولن/ فعو/ متفعلان/ مستفعلن/ فعولن/. وفي النموذج الثالث، نجد: فعولن/ مستفعلن/ مفاعيلاتن/ مستفعلن/. وهذا النوع أكثر حضورا من النوع الأول. لكن ثمة نوعا آخر، وهو نادر، يجمع بين فعولن ومشتقاتها وبين فاعلن. وهذا وجدناه في بعض نماذج خليل حاوي. من ذلك ما يلي: 1= ضَحِكْتُ مِنْ بَصَّارَةِ الْحَيِّ وَمَاذَا ؟ عُدْتُ مِنْ مُفْتَرَقٍ يَغْلِي بِمَوْجِ الرَّمْلِ وَالأَصْدَاءِ وَالْبُرُوقْ مُشَوَّشَ الْعَيْنَيْنِ أَسْتَرْحِمُ مَا تَحْكِي لِعَيْنَيْهَا خُطُوطُ الْغَيْبِ فِي رَاحَتِي وَلَحْمُ عُمْرِي مَا نَوَايَا ضَوْئِهِ السَّحِيقْ إِصْبَعُهَا الْمُقَوَّسُ الْعَتِيقْ ضَوْءُ عَصاً بَيْضَاءَ فِي عَتْمَتِي يَمْسَحُ فِي جَبْهَتِي زَوْبَعَةَ الشَّوْكِ الَّتِي تَعْصِبُهَا الأَصْدَاءُ وَالْبُرُوقْ(19) 2=بَلَوْتُ ذَاكَ الرِّوَاقْ طِفْلاً جَرَتْ فِي دَمِهِ الْغَازَاتُ وَالسُّمُومْ وَكُنْتُ فِيهِ وَالصِّحَابَ الْعِتَاقْ (إلخ) (20) واضح من هذين النموذجين أن السريع قد دخل في سياق الرجز. ومن خلال إنجازات خليل حاوي الرجزية، أشرنا إلى أنه يكتب النوع الأول من الرجز. وهذان النموذجان يؤكدان أنه يعتبر هذا الرجز سريعا. وللسياب، نموذج يتيم يذكِّر بعمل خلل حاوي، وهو قوله: سَمِعْتُهُ يَضْحَكُ فِي مَسْمَعَيْكْ يَهْتِفُ يَا جَمِيلَهْ يَا أُخْتِيَ النَّبِيلَهْ يَا أُخْتِيَ الْقَتِيلَهْ لَكِ الْغَدُ الزَّاهِي كَمَا تَشْتَهِينْ(21) وكأن فعولن هي فاعلن. لكن الفيتوري ذهب إلى ما هو أبعد من هذا، حيث يقول: اَلسِّجْنُ لاَ يَسْمَعُ يَا جَمِيلَهْ إِلاّ انْقِضَاضَ الْمَعَاوِلْ إِلاّ دَوِيَّ الزَّلاَزِلْ إِلاّ انْفِجَارَ الزَّلاَزِلْ اَلسِّجْنُ سَكْرَانُ قَاتِلْ وَأَنْتِ لاَ فَأْسٌ وَلاَ مِعْوَلْ لاَ خِنْجَرٌ مَاضٍ وَلاَ مِنْجَلْ أَنْتِ هُنَا حَمَامَةٌ تَحْجِلْ فِي قَدَمَيْهَا السَّلاَسِلْ(22) فهذا النص يجمع بين فعولن وفاعلن وفاعلاتن، مما يوحي بوجود أبيات من المجتث. والحق أن بعض صور المجتث، كما مر بنا، يمكن عدها وزنا من أوزان المنسرح. والمجتث في هذا النص ليس غريبا على الرجز/السريع؛ لأن فاعلاتن هي فاعلن المرفلة. والملاحظ أن هذه الخروقات لم يقم بها سوى هؤلاء الشعراء الرواد. إذ لم تتسرب إلى زملائهم، ولا إلى الأجيال التي جاءت بعدهم. *الخبب/ المتدارك: هل الخبب والمتدارك بحر واحد؟ أو أن كلا منهما بحر قائم بذاته؟ وأيهما تداركه الأخفش على الخليل؟ إن كتب العروض المتأخرة التي تناولت المتدارك أجمعت على أن الأخفش هو الذي استنبطه من الدائرة الخامسة، على أساس أن وحداته هي نفسها وحدات المتقارب، لكنها في المتدارك، يتقدم السببُ الخفيف الوتدَ المجموع. والنماذج التي تقدمها كتب العروض عن هذا البحر هي عبارة عن أبيات تتكرر بنصها من مصدر لآخر، وكأن الشواهد من نظم العروضيين. فهل يعني هذا غياب إنجازات شعرية قديمة على هذا البحر؟ إذا كان الجواب بنعم، فكيف يقال إن الأخفش تداركه على الخليل؟ هل تداركه اعتمادا على الواقع الشعري؟ أو اعتمادا على التأمل النظري؟ وتحدث العروضيون عن الخبب باعتباره مشتقا من المتدارك. والحق أن ما وصلنا على الخبب يعود إلى القرن الخامس للهجرة. لكن بعض المصادر قدمت لنا نماذج أقدم. فقد جاء في إنباه الرواة ما يلي »وَلِلْخلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ، قَصِيدَةٌ عَلَى فَعِلُنْ فَعِلُنْ ثَلاَثَةِ مُتَحَرِّكَاتٍ وَسَاكِنٍ. وَلَهُ قَصِيدَةٌ أُخْرَى عَلَى فَعْلُنْ فَعْلُنْ مُتَحَرِّكٍ وَسَاكِنٍ. فَالَّتِي عَلَى ثَلاَثَةِ مُتَحَرِّكَاتٍ وَسَاكِن، قَصِيدَتُهُ الَّتِي فِيهَا: سُئِلُوا فَأَبَوْا فَلَقَدْ بَخِلُوا أَبَكَيْتَ عَلَى طَلَلٍ طَرَباً فَلَبِئْسَ لَعَمْرُكَ مَا فَعَلُوا فَشَجَاكَ وَأَحْزَنَكَ الطَّلَلُ وَاَّلِتي عَلَى فَعْلُنْ سَاكِنَةِ الْعَيْنِ، قَوْلُهُ: هَذَا عَمْرٌو يُسْعِفُنِي مِنْ فَانْهَوْا عَمْراً إِنِّي أَخْشَى لَيْسَ الْمَرْءُ الْحَامِي أَنْفاً زَيْدٍ عِنْدَ الْفَضْلِ الْقَاضِي صَوْلَ اللَّيْثِ الْعَادِي الْمَاضِي مِثْلَ الْمَرْءِ الضَّيْمَ الرَّاضِي فَاسْتَخْرَجَ الْمُحْدَثُونَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَزْنَيْنِ وَزْناً سَمَّوْهُ الْمُخَلَّعَ، وَخَلَطُوا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا وَأَجْزَاءِ هَذَا«(23). وذكر الدكتور مصطفى هداره أن شعراء القرن الثاني قد استحدثوا وزن الخبب أو المتدارك أو دق الناقوس كقول أبي العتاهية: هَمُّ الْقَاضِي بَيْتٌ يُطْرِبْ قَالَ الْقَاضِي لَمَّا عُوتِبْ مَا فِي الدُّنْيَا إِلاّ مُذْنِبْ هَذَا عُذْرُ الْقَاضِي وَاقْلِبْ(24) ويروى أن عليا (ض) مر بالْحِيرة، وهي كثيرة النصارى، فسمع صوت الناقوس. فقال: ما يقول الناقوس؟ فقال له أصحابه: ما يقول يا أمير المؤمنين؟ فقال: إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَغْوَتْنَا وَاسْتَغْوَتْنَا وَاسْتَهْوَتْنَا لََسْنَا نَدْرِي مَا قَدَّمْنَا مِنْهَا إِلاَّ لَوْ قَدْ مُتْنَا تَفْنَى الدُّنْيَا قَرْناً قَرْنَا يَا ابْنَ الدُّنْيَا مَهْلاً مَهْلاَ زِنْ مَا يَأْتِي وَزْناً وَزْنَا مَا منْ يَوْمٍ يَمْضِي عَنَّا إِلاَّ أَوْهَى مِنَّا رُكْنَا(25) وأغرب من هذا أن محقق ديوان امرئ القيس أورد بيتا لهذا الشاعر نقله من كتاب "الحور العين" لنشوان الحميري، وهو التالي: اَلشَّحْطُ خَلِيطُكَ إِذْ بَكَرُوا وَنَأَوْا فَمَضَى بِهِمُ السَّفَرُ(26) هل هذه النماذج صحيحة النسبة إلى أصحابها؟ لا نستطيع أن نتأكد من هذا. لكن نقول مع ذلك إن ما ينسب إلى الخليل يمكن رده على أساس قانونه. لأن هذا الخبب لا يخضع لقانون الشعر العربي فإن نظم عليه العرب، فالخليل أهمله لقلة ما نُظم عليه. فلا يعقل أن ينظم الخليل على وزن أهمله، وفي الوقت ذاته، لا يخضع لقوانينه. وقد قيل إن هذا الوزن لا يراه شعرا، حيث نص على طرحه(27). لكن هل هذه النماذج التي أشرنا إليها هي المتدارك؟ هل اطلع الأخفش عليها، فأطلق على وزنها اسم المتدارك؟ جاء في "وفيات الأعيان" ما يلي: »هُوَ [=الخليل] الَّذِي اسْتَنْبَطَ عِلْمَ الْعَرُوضِ، وَأَخْرَجَهُ إِلَى الْوُجُودِ، وَحَصَرَ أَقْسَامَهُ فِي خَمْسِ دَوَائِرَ، يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ بَحْراً، ثُمَّ زَادَ فِيهِ الأَخْفَشُ بَحْراً آخَرَ وَسَمَّاهُ الْخَبَبَ«(28). فهذا هو المصدر الوحيد، حسب علمنا، الذي صرح بأن الأخفش سمى ما تداركه على الخليل خببا. وهذا الكلام ينسجم مع تلك النماذج المنسوبة إلى الخليل ولأبي العتاهية، ولعلي (ض)، ولامرئ القيس، لكن هل ينسجم هذا الوزن مع ما وصف به المتدارك من أنه منفك من المتقارب؟ يرى أكثر الدارسين أن الخبب مشتق من المتدارك. يقول ابن رشيق: »وَالْمُتَدَارَكُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ مَقْلُوبٌ مِنْ دَائِرَةِ الْمُتَقَارِبِ. وَذِلكَ أَنَّ فَعُولُنْ يَخْلُفُهُ فَاعِلُنْ، وَيُخْبَنُ فَيَصِيرُ فَعِلُنْ (...) وَهَذَا الَّذِي يُسَمِّيهِ النَّاسُ الْيَوْمَ الْخَبَبَ«(29). وهذا الكلام يعني أن الأصل هو المتدارك. وفي عهد ابن رشيق أو قبله بقليل، اشتق منه الخبب عن طريق خبن فاعلن. لكن يفهم العكس من كلام الجوهري الذي ذكر أن المتدارك قديم ومحدث. فالقديم هو المثمن، والمحدث هو المسدس. وبيت مسدسه كما رواه هو: قِفْ عَلَى دَارِسَاتِ الدِّمَنْ بَيْنَ أَطْلاَلِهَا وَابْكِيَنْ وبيت مثمنه هو: أَشَجَاكَ تَشَتُّتُ شِعْبِ الْحَيِّ فَأَنْتَ لَهُ أَرِقٌ وَصِبُ(30) فالنموذج الأول على "فاعلن"، وهو المحدث. والثاني هو "فعِلن"، وهو القديم، وعليه وزن ما نُسب إلى امرئ القيس مما يجعلنا نميل إلى أن الجوهري يرى أن المتدارك هو المشتق من الخبب. وسواء أكان [أ] من [ب] أو [ب] من [أ]، فإن أكثر العروضيين اعتبروا [أ] و[ب] وزنا واحدا. فحين يتحدثون عن الخبب، يطلقون مصطلح المتدارك(31). لكن ثمة جماعة من الباحثين تعترف بأن الخبب غير المتدارك. وتم هذا الاعتراف على مستوى الإنجاز الشعري. إذ جاءت بعض الدواوين منذ القرن الخامس تشتمل على قصائد ?على قلتها- على وزن فعِلن فعْلن. وتأكد هذا في العصر الحديث حين ظهرت قصائد مستقلة بفاعلن/ فعِلن أو بفعِلن/ فعْلن. وفي القصيدة الحرة، نجد نصوصا إما من المتدارك، وإما من الخبب، بل قد نجد قصائد حرة طويلة موزعة على مقاطع يستقل كل مقطع إما بالمتدارك، وإما بالخبب، كقصيدة "المسيح بعد الصلب"(32) للسياب. وهو نص حر على المتدارك تخلله مقطع على الخبب. وكنص لعبدالله راجع بعنوان "الأرض الخراب تتمة حديثه"(33). تشتمل على خمسة مقاطع، لكل مقطع عنوان، موزعة على الشكل التالي: خبب- متدارك- خبب- متدارك- خبب. هذا الإنجاز جعل بعض المهتمين بالعروض يؤكدون أن الخبب بحر خاص لا علاقة له بالمتدارك، رغم اعتراف بعضهم باشتقاق الأول من الثاني. يقول الحساني حسن عبدالله: »أما الخبب، فهو شكل مزحف للمتدارك (فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن). وحدته الموسيقية فعِلن أو فعِلن. والملاحظ أن الشكل المزاحف للمتدارك لا يمت موسيقيا إلى الشكل الأصلي. ولذا، فمن الدقة أن تعتبرهما بحرين مستقلين، وبخاصة أن شعراء المدرسة الجديدة قد ميزوا بينهما تمييزا واضحا«(34). فهو رغم اعترافه بالتمييز بين البحرين، إلا أنه يعتبر الخبب شكلا من أشكال المتدارك. ويقول كمال خير بك: »بالرغم من التقارب التدويني بين المتدارك (أو المحدث) (فاعلن فاعلن...) والخبب (فعِلن فعْلن...) هذا التقارب الذي، ربما، كان ناتجا عن التطبيق الْمُلْتَبِس لمبدأ الاشتقاق العروضي وولادة تفعيلة معينة من أخرى، فسيكون من أشد الخطإ في رأيي ألا نميز بينهما بنحو أساسي، ونعتبرهما بحرين مختلفين. ونذكر بأن الخبب يقدم نفسه في شكلين اثنين قلما يُميّز بينهما بحسب تكونه من فعِلن، أو فعْلن كلاًّ على حدة. مع هذا، فإن الصيغة الأكثر شيوعا لهذا البحر تمثل مزيجا من هاتين التفعيلتين أو لهذين الشكلين الأخيرين(35). ويقول عبدالصاحب المختار: »لا علاقة للمتدارك ببحري دق الناقوس والخبب«(36). وهذا الكلام امتداد لما ذكره خير بك الذي ميز هو أيضا بين فعْلن باعتبارها وحدة البحر وفعِلن باعتبارها وحدة لبحر آخر. وكلاهما غير المتدارك. ولعل حازما، من القدماء، الوحيد الذي اعتبر الخبب بحرا خاصا. إذ جعل شطره مبنيا على جزأين "تساعيين"(37) كلاهما مركب من سبب ثقيل، ووتد مفروق ووتد مجموع: مُتَفَاعِلَتُنْ(38). وعنده أن الإضمار قد يلحقه في الفاصلتين فيصير على مفعولاتن(39). وهو، لذكره هذا الجزءَ المضمر، يلتقي بالخطيب التبريزي الذي يقول عن الخبب: »إِنْ شِئْتَ تَقْطِيعَ هَذِهِ الأَبْيَاتَ عَلَى فَعْلُنْ فَعْلُنْ فَتَكُونُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ. وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ تَقْطِيعَهَا عَلَى مَفْعُولاَتُنْ، فَتَكُونُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ(40)«(41). وهذا الجزء المضمر ?كما مر بنا- سيكون أهم الأجزاء في الموشحات الأندلسية. يستنتج من هذا أن حازما الذي عد جزء الخبب مُتَفَاعِلَتُنْ قد قطع كل صلة ممكنة بين الخبب والمتدارك؛ لأن هذا الجزء لا يمكن فكه من دائرة المتقارب. إحالات: (1) قضايا الشعر المعاصر. ص: 64و 67و 68و 71. (2) انظر نماذج منه: أحبك: صلاح عبدالصبور: 1/144. ?نامت أمي. ص: 69 ? لغة السكون والحلم. ص: 123 لأدونيس (قصائد أولى). - ترانيم لسنبلة العمر. ص: 12. - وغدا سألقاها. ص: 55. السياب. (3) نفسه. (4) قضايا الشعر المعاصر. ص: 68-69. لصاحب هذه الدراسة قصائد عديدة تقوم على وحدة الشطر. راجعها في رياحين الألم ( الأعمال الشعرية الكاملة)) - 5 (6) العروض والشعر الحر. نازك. م. الآداب. ع2. فبراير 1958. س. 6. (7) البنية الإيقاعية الجديدة للشعر العربي. المجاطي. م. الوحدة. ص: 70. (8) حول النظائر الإيقاعية للشعر العربي. محمد أحمد وريث. المنشأة العامة للنشر والتوزيع. طرابلس. ليبيا، ط1: 1985. ص: 165 و170. (9) قضايا الشعر المعاصر. ص: 40-41. (10) الشوقيات: 4/94. (11) الشوقيات: 4/116. (12) كتاب التحولات. ص: 16. (13) السقوط. المجاطي. ص: 10. (14) أنشودة المطر. السياب. ص: 142. (15) كتبنا البيت حسب وزنه خلافا لما في الديوان. (16) محلة الشعر القاهرية. ع. 35. يوليو 1984. (17) ديوان صلاح عبدالصبور: 1/77. (18) الطريق إلى الإنسان. منشورات أصدقاء المعتمد. تطوان. ص: 56. (19) ديوان خليل حاوي. ص: 151 وما بعدها. (20) ن.م. ص: 238. (21) أنشودة المطر. ص: 67. (22) ديوان الفيتوري: 1/299. (23) إنباه الرواة. القفطي. تح/محمد أبو الفضل إبراهيم. دار الفكر العربي. ط1: 1986. 1/377 وما بعدها. (24) اتجاهات الشعر العربي. هداره. دار العلوم العربية. بيروت. ط1: 1988. ص: 571 وما بعدها. (25) الوافي للتبريزي ، ص: 178 (26) ديوان امرئ القيس. ص: 460. (27) المعيار. الشنتريني. ص: 93. (28) وفيات الأعيان. تح/ إحسان عباس. دار الثقافة. بيروت. 2/244. (29) العمدة: 1/137. (30) عروض الورقة. ص: 68-69. (31) انظر منهاج البلغاء. ص: 230. وهذا الشعر الحديث. ص: 61. وقضايا الشعر المعاصر. ص: 316. البنية الإيقاعية للمجاطي. ص: 59. الشعر العربي الحديث. بنيس: 3/131-132. النقد الأدبي وقضايا الشكل الموسيقي. ص: 116-117. إلخ. (32) أنشودة المطر. ص: 128. (33) الهجرة إلى المدن السفلى. دار الكتاب. البيضاء. ط1: 1976. ص: 87. (34) نازك وعروض الشعر الحر. الحساني. م. الآداب. ع6. يونيو 1959. ص: 52. (35) حركة الحداثة. ص: 334. (36) دائرة الوحدة. عبدالصاحب المختار. ص: 85. (37) إن هذا الجزء من ثمانية ولا نفهم كيف عده تساعيا. (38) منهاج البلغاء. ص: 231. (39) ن.م. ص: 229. (40) إنه على ثمانية أحرف، ولا ندري كيف عده من أربعة حروف. (41) الوافي. التبريزي. ص: 197.