السياحة المستدامة والتحول الرقمي محور الدورة الثالثة لملتقى المقاولة بالحسيمة    المنتخب المغربي يصل إلى فرانسفيل    "الفعل الاجتماعي" في المغرب .. مسؤولية الحكومة وانتظارات المواطن    مسؤول برئاسة النيابة العامة يوضح النطاق المحمي بمقتضى قانون الصحافة وموجبات تطبيق القانون الجنائي    الولايات المتحدة.. ترامب يعين ماركو روبيو في منصب وزير الخارجية    المغرب والسعودية يتفقان على تسهيل عملية ترحيل المحكوم عليهم بين البلدين    مسؤول برئاسة النيابة العامة يُئوِّل ويبرر متابعة الصحفي المهداوي تحت طائلة القانون الجنائي (أوديو)    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي        هبات رياح قوية مع تطاير للغبار مرتقبة غدا الخميس بعدد من أقاليم المملكة    باليراريا" تنقل فرق مغربية ومعدات شفط المياه لدعم جهود الطوارئ في فالنسيا    جهة الداخلة تعزز الشراكة مع إسبانيا        رقم قياسي.. المغرب استقبل 14.6 مليون سائح حتى متم أكتوبر الماضي    أمن العيون يطيح بشبكة إجرامية تنشط في سرقة الأسلاك الكهربائية    تقرير: 16% فقط من المغاربة يعيشون حياة "مزدهرة" و69% يفكرون في تغيير وظائفهم    جمعية ثاويزا آيث شيشار تكتشف و ترصد دولمن مدفني بجماعة بني شيكر يعود لألاف السنين    لجنة المالية تصادق على مركزية الأجور والمناصب المالية وصفة موظف عمومي لمهنيي الصحة        لأول مرة.. "حزب الله" يعلن استهداف وزارة الدفاع الإسرائيلية بتل أبيب    المغرب يستقبل أكثر من 14 مليون سائح في 10 أشهر    في لقاء إعلامي قبل التوجه إلى الغابون : الركراكي يؤكد أن المنتخب الوطني يشهد تنافسية كبيرة وزياش يغيب بسبب ضعف الجاهزية    شاحنات مغربية تصل إلى إسبانيا للمساهمة في إزالة مخلفات "دانا" بفالنسيا    المغاربة يواصلون الاحتجاج ضد الإبادة في غزة ومطالب بتوضيح حكومي حول سفينة متجهة لإسرائيل    المغرب يحتضن المرحلة الأولى من الدوري الإفريقي لكرة السلة    تقديم 21 شخصا أمام وكيل الملك بتارودانت على خلفية أحداث شغب مباراة هوارة وأمل تزنيت    "ذي غارديان" تتوقف عن نشر محتوياتها على "اكس"    أخنوش يبرز تجربة المغرب في "كوب29"    هذا ما قرره وكيل الملك بتارودانت في حق المتورطين في أحداث شغب ملعب هوارة    فيضانات جديدة تجتاح جنوب وشرق إسبانيا    بعد قطع عملية الإعدام الأولى .. إعدام رجل شنقا "للمرة الثانية"    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (الجزء2 فيديو)    بمناسبة اليوم العالمي لداء السكري…كيف نقي أنفسنا من داء السكري؟ غزلان لحرش تجيب عبر "رسالة24"    احتفاء بالمنتخب الوطني للملاكمة بعد احرازه بطولة إفريقيا بكنشاسا    الركراكي يستدعي رضا بلحيان لتعويض أمير ريشاردسون المُصاب    ملف الطالب بدر يعود للمحكمة وهذه تفاصيل أولى الجلسات        صندوق النقد الدولي يشيد ب"التقدم المطرد" الذي يحققه المغرب    الدوري السعودي يضم 7 لاعبين بين أعلى الأفارقة أجرا عالميا ب 2.9 مليون إسترليني أسبوعيا    حميد زيان ينهي تصوير الشريط التلفزيوني "بنت العم"    فيلم "مورا يوشكاد".. يجوب قاعات السينما المغربية ويكشف مآساة الاستغلال القسري للعمال المغاربة بفرنسا    واقعة الصفعة تحيل الفنان عمرو دياب إلى محكمة الجنح    وليد الركراكي: لن نبكي على أحد.. من يريد تمثيل المغرب عليه بالصبر    فوز البريطانية سامانثا هارفي بجائزة بوكر الأدبية العريقة للعام 2024    اختبار أول شبكة اتصالات تجمع الذكاء الاصطناعي وتقنية الجيل الخامس    إفريقيا تعتمد اختبار "بي سي آر" مغربي الصنع للكشف عن جدري القردة    كيوسك الأربعاء | شركات إسبانية تستكشف فرص الاستثمار في قطاع السيارات بالمغرب    أسعار صرف العملات العالمية مقابل الدرهم .. التحليل الكامل    كابوس النظام الجزائري ماركو روبيو.. المرشح الأبرز لمنصب وزير للخارجية الأمريكية في إدارة ترامب    "أجيال" ينقل الجمهور إلى قطاع غزة    حملة توعية بضرورة الكشف المبكر عن سرطان الرئة    تقارير.. المغرب من أكبر مستوردي الأدوية الروسية في إفريقيا    دراسة: تناول الدهون الصحية يقلل من احتمالات الإصابة بالسرطان    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القصيدة الحرة: الجذور
نشر في العلم يوم 17 - 04 - 2011

-A-إن ازدهار الموشح بالأندلس أولا، وبالمشرق العربي ثانيا لم يلغ القصيدة التي ظلت تتصدر كل الأشكال الشعرية الجديدة. ومن يطلع على دواوين الأندلسيين ودواوين المشارقة في عصر الدول المتعاقبة سيُلاحظ أن نسبة حضور القصيدة تفوق 90%، بل ثمة دواوين عديدة ليس بها أي موشح. وخاصة الدواوين التي ظهرت في الفترة التي أصبح فيها تدوين الموشحات مألوفا. ومن علامات سيادة القصيدة أن الموشح الذي جاء ثورة عليها، أخذ في العصور المتأخرة يميل إلى إحياء بعض تقاليد القصيدة، بل ظل مع المشارقة مرتبطا منذ نشأته بهذه التقاليد.
ولكن، حين ظهرت القصيدة الحرة مع الشاعرة نازك الملائكة وجيلها، بدأت القصيدة تترك مكانها لهذا الشكل الجديد، حيث ظهرت، منذ الخمسينات والستينات، دواوين ليس بها قصيدة واحدة. علما أن بعض الشعراء المعاصرين نظموا على الشكلين، ولكنهم، حين أصدروا أعمالهم الشعرية، اقتصروا على إثبات القصيدة الحرة.
حين ظهر هذا الشكل الشعري على يد نازك الملائكة، سمته «الشعر الحر». وهو عندها شعر موزون تتعدد قوافيه، وتتنوع من غير نسق، يقوم على وحدة التفعيلة. لكن تجربة نازك زاحمتها تجربة جماعة «شعر»، إذ تخلص بعض شعراء هذه الجماعة من قيود الوزن والقافية. وأُطلق على كتاباتهم اسم «الشعر الحر». وهنا، بدأت الفوضى تتسرب إلى الشعر، خاصة وأن الشكلين يتخذان تشكيلا واحدا على صفحة الكتاب أو المجلة، أو الجريدة، مما يجعل القارئ، الذي ليس متمرسا على التقاط الوزن، لا يستطيع أن يميز بين هذا الشكل وذاك. وفي المرحلة نفسها، ظهرت دراسات في ظل «الخصومة» التي دارت بين نازك والسياب، حاولت أن تؤكد أن الشعر الحر لم يبدأ لا مع السياب ولا مع نازك، وإنما جذور هذا الشعر تمتد إلى مدرسة «أبولو»، وتزعم نازك أنها لم تطلع على مشروع أبي شادي وزملائه. على أن لمشروع هذه المدرسة خصوصية، فشعرها يشبه من بعض الوجوه ما أنجزته نازك، وفي الوقت ذاته، يخالفه، ومع ذلك، يبقى شعر هذه المدرسة الأساس الذي نهض عليه ما يسمى ب «شعر التفعيلة».
فما الشعر الحر؟
هذا المصطلح تسرب إلى الثقافة العربية من الغرب منذ مطلع هذا القرن. ولكي نفهم معناه لابد من العودة إلى كتب العروض التي ألفها الغربيون، حيث تحدثوا عن النظم الكلاسي الحر، والنظم الرومانسي الحر، والنظم الرمزي الحر. وحديثهم عن النظم الكلاسي الحر يعني أن هذا الشكل قديم في تراثهم. فقد ذكر P.Guiraud أن ما يمثل هذا النظم هو إنجازات La fontaine، وإنجازات أخرى ل Molière، وCorneille. ويذكر أن بعض المصادر ترجع البدايات إلى ما قبل هذا الجيل من الشعراء الفرنسيين.
إن الحرية عند هؤلاء الناس فعل يلحق العروض، أو القافية، أو عدد الأبيات في الأدوار الشعرية:
أ-1-إن النظم الحر، كما تجلى في إنجازات La fontaine وجيله، كان يقوم على المزج بين البحور في النص الواحد من غير أن تخضع لنسق معين. ونوضح هذا من خلال الشكلين التاليين :
الشكل ( 1 ) : 12-8-8-12/12-12-8-12/8-8-8-12/12-12-8-12/
الشكل ( 2 ) :12-8 -8-12/12-8-8-12/12-8-8-12/12-8-8-12/
إننا أمام شكلين [1] و[2]. كل شكل مؤلف من أربعة أدوار Strophes. وكل شكل يقوم على بحرين: L?alexandrin وl?octosylabe. لكن لأحدهما نظما منتظما régulier، وللآخر نظما حرا. إن النسق حاضر في [ش2]، وغائب في [ش1]. فإذن، الشكل الأول هو النظم الحر. وعلى غرار هذا الشكل، جاء النظم الشعري في التراث الشعري الكلاسي الحر.
وفي تراثنا الشعري، نجد أن الموشح هو الشكل الذي يقبل تعدد الأوزان. لنقرأ الدَّوْر التالي:
لِلْهَوَى فِي الْقُلُوبِ أَسْرَارُ
أَوْضَحَتْهَا الدُّمُوعْ
وَبِجِسْمِ الْمُحِبِّ آثَارُ
مَكَثَتْ بِالْولْوُعْ
أَرَّقَتْ مُقْلَتِي لَهَا نَارُ
كَمَنَتْ فِي الضُّلُوعْ(1)
هذا الدَّوْر على النظام القافوي التالي: أ ب أب أب. و[أ] أطول من [ب]، أي إن هذا الدور يقوم على وزنين: وزن [أ] هو: فاعلاتن مستفعلن فعْلن. وهو أحد أوزان الخفيف القليلة الاستعمال في القصيدة العربية، ووزن [ب] هو: فاعلاتن فعولْ. وهو أيضا أحد أوزان الخفيف، ويمكن عده كذلك أحد أوزان منهوك المتدارك.
يُمكن عَدُّ هذا الدَّوْرباعتباره مستقلا، نظما حرا. لكن حين ندخله في موشحه، سنكتشف أن الشكل الذي اتخذه سيتحول إلى قيد يلتزم في باقي الأدوار. وهكذا، فالموشح ليس نظما حرا، وهو شكل ثابت وهذا يعني أن النظم الحر، كما أنجزه جيل La fontaine لم يعرفه تراثنا القديم إلا في العصور المتأخرة، حيث ظهر فن البند بالعراق.
2-هذا النظم الحر سيعرف تطورا على مستوى آخر:
إن l?alexandrin classique يقوم على أربع تفعيلات. ويسمى عندهم le tétramètre. أما l?alexandrin الرومانسي، فيقوم على ثلاث تفعيلات، ويسمى عندهم le trimètre. ولكن الشاعر في القرن التاسع عشر جمع بين النمطين في النص الواحد من غير خضوع لنسق ثابت. وبهذا، تحققت صورة أخرى للنظم الحر. ونوضح هذه الصورة من خلال الشكلين التاليين:
ش1= 3-3-3-3 ش2= 3-3-3-3
4-4-4 4-4-4
4-4-4 4-4-4
3-3-3-3 3-3-3-3
3-3-3-3 3-3-3-3
3-3-3-3 4-4-4
3-3-3-3 4-4-4
4-4-4 3-3-3-3
4-4-4 3-3-3-3
4-4-4 4-4-4
3-3-3-3 4-4-4
4-4-4 3-3-3-3
الشكلان معا جَمَعا بين النمطين. لكن [ش1] لم يخضع لأي نسق خلافا ل [ش2] الذي يظهر النسق الثابت واضحا فيه؛ وبهذا، فالشكل الأول هو النظم الحر.
وفي تراثنا الشعري، نماذج من هذا النمط تمثله القصيدة، فهي، كما بينا، تقوم على تقسيمات، قد تكون عروضية قافوية أو مرسلة، وقد تكون غير عروضية. لكن الشاعر لا يلتزم تقسيما معينا. ولا يلتزم نسقا معينا، حين يعمد إلى الجمع بين كل أشكال التقسيمات في القصيدة الواحدة. ولا بأس أن نقدم هذا النموذج المأخوذ من «نقد الشعر» لقدامة بن جعفر:
لَوْ كَانَ للدَّهْرِ مَالٌ/ كَانَ مُتْلِدَهُ
لَكَانَ لِلدَّهْرِ صَخْرٌ/ مَالَ قُنْيَانِ
آبِي الْهَضِيمَةِ/ نَابٍ بِالْعَظِيمَةِ/ مِتْلاَفُ الْكَرِيمَةِ/ لاَ سِقْطٌ وَلاَ وَانِي
حَامِي الْحَقِيقَةِ/ نَسَّالُ الْوَدِيقَةِ/ مِعْتَاقُ الْوَسِيقَةَ/ جَلْدٌ غَيْرُ ثنْيَانِ(2)
رَبَّاءُ مَرْقَبَةٍ/ مَنَّاعُ مَغْلَبَةٍ/
هَبَّاطُ أَودِيَةٍ/ حَمَّالُ أَلْويَةٍ/
يُعْطِيكَ مَا لاَ تَكَادُ النَّفْسُ تُرْسِلُهُ
وَهَّابُ سَلْهَبَةٍ/ قَطَّاعُ أَقْرَانِ
شَهَّادُ أَنْدِيَةٍ/ سِرْحَانُ فِتْيَانِ
مِنَ التِّلاَدِ وَهُوبٌ غَيْرُ مَنَّانِ(3)
لقد جاء قُدَامَةُ بهذا النص مثالا على الترصيع. ونحن نعني بالتقسيم الترصيع وغيره. وفضلنا هذا النموذج لوضوح الظاهرة فيه. وعلى هذا، لابد أن نعيد كتابته على الشكل التالي لتلمس العين هذه التقسيمات:
لَوْ كَانَ لِلدَّهْرِ مَالٌ
كَانَ مُتْلِدُهُ
لَكَانَ لِلدَّهْرِ صَخْرٌ
مَالَ قُنْيَانِ
آبِي الْهَضِيمَةِ
نَابٍ بِالْعَظِيمَةِ
مِتْلاَفُ الْكَرِيمَةِ
لاَ سِقْطٌ وَلاَ وَانِي
حَامِي الْحَقِيقَةِ
نَسَّالُ الْوَدِيقَةِ
مِعْتَاقُ الْوَسِيقَةِ
جَلْدٌ غَيْرُ ثُنْيَانِ
رَبَّاءُ مَرْقَبَةٍ
مَنَّاعُ مَغْلَبَةٍ
وَهَّابُ سَلْهَبَةٍ
قَطَّاعُ أَقْرَانِ
هَبَّاطُ أَوْدِيَةٍ
حَمَّالُ أَلْوِيَةٍ
شَهَّادُ أَنْدِيَةٍ
سِرْحَانُ فِتْيَانِ
يُعْطِيكَ مَا لاَ
تَكَادُ النَّفْسُ تُرْسِلُهُ
مِنَ التِّلاَدِ
وَهُوبٌ غَيْرُ مَنَّانِ
فالبيت الأول أعطت أقسمتُه الأوزانَ التالية: مستفعلن فاعلاتن + فاعلن فعِلن + متفعلن فاعلاتن + فاعلن فعْلن.
البيتان الثاني والثالث: مستفعلن فعو+فاعيلن مفاعلن+ فاعيلن مفاعلن+فاعيلن مفاعيلن (يمكن اعتبار هذه الأقسمة الثلاثة الأخيرة هزجا مخروما مع الالتزام بقبض الجزء الثاني).
البيتان الرابع والخامس= [(مستفعلن فعِلن)?3]+ مستفعلن فعْلن.
البيت السادس= (مستفعلاتن+مفاعلْتن مفاعلَتن)?2.
وبهذا، يتضح أن القصيدة لم تلتزم نسقا معينا في تقسيماتها، وهذا شأن كل القصائد العربية؛ لهذا، نقول، كما مر بنا، إن في القصيدة شيئا من النظم الحر، والثابتُ فيها هو القافيةُ ووحدةُ الروي.
3-وفي العصر الحديث، مع المدرسة الرمزية، ظهر نظم تخلى عن الوزن، لكنه حافظ على القافية، وخير ممثل لهذا النوع هو Paul Claudel، حيث جعل أبيات قصائده على شكل «آيات» تتخذ الشكل القافوي التالي: أ أ ب ب ج ج د د ه ه.. إلخ.
ومثل هذا الشكل موجود في تراثنا العربي، وتمثله النصوص التي تقوم على السجع. حيث نفترض أن سجع الكهان الذي كان شعرا موزونا وزنا مخصوصا تخلى مع مرور الأيام عن الوزن، وحافظ على القافية، فكانت الخطب وما شابهها هي التي صارت تعتني بالقوافي، وقد اختارت عدة أنظمة لهذه القوافي، نحو: أ أ ب ب ج ج... أو أ أ أ ب ب ب ج ج ج ... أو أ أ أ أ ب ج ج ج ج... ولكن هذا الشكل لم يسم في تراثنا شعرا، رغم أن أكثر نصوصه تمتاز بأكثر خصوصيات الشعر. ولعل السبب يعود إلى أثر الدين الإسلامي في تصور النقاد والدارسين القدامى؛ لأنهم خافوا إن هم وصفوا هذا الجنس الأدبي بالشعر، اعْتُبِر القرآن «شعرا»؛ ولهذا، اشترطوا الوزن الخليلي عنصرا أساسيا في تحديد ماهية الشعر. ولكن لما لاحظوا أن بعض الآيات وافقت وزنا من أوزان القصيدة، أضافوا إلى حد الشعر عنصر النية. وفي العصر الحديث، لما ابتعد الدين عن حقل الثقافة العربية، سُمي الكلام الذي يفتقر إلى الوزن، ويتمتع بلغة الشعر «شعرا» تقليدا لما أنجزه الغرب.
ب-1-القافية عنصر أساسي من عناصر إيقاع الشعر، لم يعرفها الشعر اليوناني، ولم يعرفها الشعر الروماني »فقد بدءا وكبُرا ونُوعت فنونهما، ثم ماتا دون أن يعرفاها. وشعر أوربا من بعدهما نشأ وجرى مجراهما، ولم يعرف القافية إلا نقلا عن الشعر العربي بعد أن اتصل بالعرب في صقيلية وفي الأندلس«(4). لكن الشعر عندهم كان يقوم على »التقوية المطردة للتماثل الصوتي. ففي القرون الوسطى، اعتبر مجرد تكرار الصائت الأخير كافيا. وابتداء من القرن الثالث عشر، بدأ هذا النوع من القافية يفقد ميدانه، ويُخْلي المكان شيئا فشيئا للقافية الحق. ثم ظهر في القرن التاسع عشر أن اشترطت القافية الغنية؛ أي: القافية التي تضم الصامت المدعم للصائت الأخير«(5).
والملاحظ أن الأبيات المنظومة على بحر l?alexandrin تسير غالبا على النظام القافوي التالي: أ أ ب ب ج ج د د... وتُفضل الأشكال القافوية الأخرى مع الأبيات الأقل طولا. ومع الشعر الدَّوْري، صارت القافية، بنظامها، تُحدد بعض الأشكال الشعرية: ف Le Sonnet الذي يتألف من أربعة عشر بيتا موزعة على مقطعين، لكل مقطع أربعة أبيات، يضاف إليهما مقطعان بثلاثة أبيات لكل مقطع. لكن القافية فيه عنصر أساسي لتحديد شكله، فهو يتخذ الشكل القافوي التالي: ---- abba/abba/ccd/eed أو abba/abba/ccd/ede
فلابد من هذا النظام. وبهذا ف Sonnet شكل شعري ثابت. لكن هذا الشكل قد يتحول إلى نظم حر حين يختل النسق القافوي السابق.
وفي رأينا، نجد أن الموشح الذي يبدو أن الوقافي تتعدد فيه، وهي حرةٌ حين ننظر مثلا في القفل خارج الموشح؛ لكن حين نُرجعه إلى الموشح تنتفي هذه الحرية؛ إذ يصير القفل قافويا وحدةً تتكرر في باقي الأقفال. وبهذا، فالموشح ليس نظما حرا، على أن النظم الحر قافويا سيظهر مع العصر الحديث كما سنرى في هذا الباب.
*لكن مع المدرسة الرمزية، سيحافظ بعض شعرائها على الوزن، مع التخلص من القافية. وهذا عندهم نظم حر، وخير ممثل لهذا الاتجاه، حسب قراءتنا للشعر الفرنسي، هو: Jules supervielle:
Ne vous étonnez pas
Abaissez les paupières ش1
Jusqu?à ce qu?elles soient
De véritables pierres(6)
Le jour auprès de moi se fixe
Mais il m?ajourne dans l?oubli ش2
Si je m?approche du miroir
Je n?y découvre rien de moi(7)
إن الشكل الأول يسير على النظام القافوي التالي: ? أ ? أ. وهو شكل يذكِّر بالرباعيات في التراث الشعري العربي، وفي الوقت ذاته، يذكر ببعض أشكال أقفال الموشحات الأندلسية. أما الشكل الثاني، فهو النظم الحر حقا؛ لإهماله عنصر القافية إهمالا تاما. وقد أُطلق على هذا الشكل اسم «الشعر المرسل» الذي سيعرفه شعرنا العربي الحديث. أما في تراثنا، فلم نجد سوى النص تالي الذي - حسب علمنا- تفرد بنقله الباقلاني في إعجازه:
رُبَّ أَخٍ كُنْتُ بِهِ مُغْتَبِطاً
أَشُدُّ كَفِّي بِعُرَا صُحْبَتِهِ
تَمَسُّكاً مِنِّي بِالْوِدِّ وَلاَ
أَحْسِبُهُ يُغَيِّرُ الْعَهْدَ وَ لا َ
يَحولُ عَنْهُ أَبَداً
فَخَابَ فِيهِ أَمَلِي(8)
*إن الشعر الدَّوْري في التراث الغربي، وكذا في تراثنا العربي يعطي الدَّوْر الأول عددا معينا من الأبيات يحددها الشاعر بكامل الحرية. لكن العدد المختار يصير ضروريا في باقي الأدوار. وفي هذه الحال نقول إننا أمام نظم منتظم Régulier. لكن، إذا جاءت أدوار النص الشعري، كما في تراث الرومانسيين ثم الرمزيين، مختلفة من حيث عدد الأبيات، فإننا نقول إننا أمام نظم حر. فقصيدة » Cri de guerre du Mufti « للشاعر Victor Hugo(9) تتألف من ثلاثة أدوار. كل دور مكون من ستة أبيات على النظام التالي: (8-12-12-8-12-12) ? 3- فهذا النص ليس نظما حرا. أما قصيدة » Souvenirs d?enfance « الشاعر نفسه(10)، فإنها تتألف من عشرة مقاطع.
المقطع الأول= بيتان م6 = بيت واحد
م2 = 6 م7 = 3
م3 = 13 م8 = 36
م4 = 6 م9 = 32
م5 = 4 م10 = 20
وبهذا، تعد هذه القصيدة المقطعية داخلة ضمن إطار النظم الحر الذي سيكثر مع العصر الحديث، أما في الشعر العربي، فإن هذا الشكل سيشيع على يد الشعراء الرومانسيين.
إذن، فالشعر الحر عرف مفهومه في التراث الغربي تطورا: فهو أولا نظم تتعدد بحروه من غير نسق، أو هو نظم بلا وزن، وقد يكون مقفى، ولكن بلا نسق، أو يكون مرسلا. وقد يكون مكونا من مقاطع لا تشتمل على عدد ثابت من الأبيات.
(يتبع)
(1) ديوان الموشحات الأندلسية: 1/36.
(2) نقد الشعر. قدامة بن جعفر. ص: 49.
(3) ن.م. ص: 50.
(4) الشعر العربي في محيطه التاريخي القديم. البهبيتي. ص: 431.
(5) بنية اللغة الشعرية. جان كوهن. ص: 76.
(6) Le Forçat innocent suivi de Les amis inconnus. Jules Supervielle. Ed. Gallimard. P. 34.
(7) ن.م. ص: 75.
(8) إعجاز القرآن. الباقلاني. ص: 56.
(9) ?uvres poétiques de V.Hugo. Ed. Gallimard. 1964. p.616.
(10) ن.م. ص: 74.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.