شذرات التهييء لما سمي ب«المؤامرة الكبرى».. رخصة القتل والإرهاب حين انطلق الاثنان من طرابلس لتتبع أثري، كنت قد أمضيت يوما في بنغازي وانطلقت في مساء اليوم الثاني نحو مدينة المرج في الشرق الليبي لزيارة ابن خال لي أخبرت أنه يعمل هناك، وبعد عودتي إلى دار ابن عمي في بنغازي سألني إن كنت التقيت باثنين يستقلان سيارة بيجو بيضاء يبحثان عني وقد تبعاني إلى المكان الذي أخبرتهم بأني ذهبت إليه. كان الأمر غريبا عندي بعض الشيء، فلم أكن أعرف أي أحد في تلك البلاد ليبحث عني، ولكني لم أشغل بالي بالموضوع حتى علمت، بعد رحيلي إلى حيث أدرس، أن الاثنين عادا مرة أخرى من مدينة المرج لمعرفة ما إن كنت رجعت، بل إني صدقت (ع . ش) حين أخبرني بأنه هو ورفيقه من جاءا للبحث عني بحجة أنهما كانا في جولة على المراكز التي تأوي الأطفال الصحراويين وأرادا أن يصحباني معهما بدل السفر في وسائل النقل العمومية. لم أكن أتصور أن الرحلة العائلية التي قمت بها سيأتي اليوم الذي تستعمل ضدي كذبا، والادعاء بأنها كانت رحلة لجمع الأموال ل«شبكة الجواسيس الموريتانية » بوصفي أحد منسقيها، وأن قريبي الذي رافقني في تلك الرحلة هو الملحق العسكري للسفارة الموريتانية في طرابلس، وليس هو محمد يحظيه ولد البناني الذي كان متدربا في مركز للتكوين المهني ليفتح مطعما بعد ذلك بقليل في نواكشوط. ولو كنت أشك يوما أن الحرة تأكل ثدييها دون دواعي الجوع وأن الثورة لا تقتل غير أعدائها فيؤول حالي إلى ما آل إليه من سجن وتعذيب، لما ترددت لحظة واحدة في العمل بنصائح أقاربي الذين تعبوا دون جدوى لإقناعي بالعودة إلى بلادي وهم يتكفلون بإيصالي دون أية مشاكل، وكان ردي عليهم كردي في رسائلي إلى بعض الأصدقاء الذين مازالوا إلى اليوم يحتفظون بتلك الرسائل، وهو أنني لن أعود ما دام النساء والأطفال الصحراويون في أرض تتجنب الطيور التحليق فوقها تجنبا للحر الشديد والبرد القارس. وأذكر أنني بعد أن اختتمت السنة الدراسية وعدنا إلى مدينة طرابلس، أقمت فيها أسبوعا كاملا وفي جيبي جواز سفر جزائري ومبلغ من الدينار الليبي كان قد بعثه لي ابن عم لي يعمل في شركة للتنقيب عن النفط في نواحي مدينة سبها الليبية، كان هذا المبلغ يكفي لشراء عدة تذاكر لا تذكرة واحدة، ولم أفكر بأنها كانت فرصة سانح ، إلا بعد أن دخلت السجن وصرح لي أحد القتلة بأني لن أخرج حيا، ليكون ذلك المبلغ من نصيب سيدة صحراوية فاضلة هي زوجة وزير العدل يومها في حكومة البوليساريو. كانت هذه السيدة قد قدمت من المخيمات لإجراء عملية قيصرية، وسمعتها تطلب من زميلي (ع . ش) أن يعطيها مبلغا من الدينار الليبي على أن يستلمه بالدينار الجزائري في الرابوني من زوجها، فأعطيتها ذلك المبلغ دون مقابل ثم سرت إلى حيث أوشك أن يكون حتفي لولا لطف ربي. عدنا إلى المخيمات وكلنا سرور وحبور بما حققناه من تفوق على طلاب المعهد الذي درسنا فيه تلك السنة، على أمل العودة في السنة القادمة من أجل السنة الأهم التي يفترض أن نطبق فيها ما تلقيناه من طرق للتربية والتدريس، وبعد العودة بأسبوع استلمت عملي كالعادة في لجنة إعداد المناهج الدراسية وسارت الأمور بشكل طبيعي كما السنوات الدراسية السابقة إلى أن أوشكت العطلة الصيفية على الانتهاء مؤذنة ببداية السنة الدراسية الجديدة (1982-1983). طلب مني أنا وزملائي أن نحضر جوازاتنا استعدادا لعودتنا، وبعد أيام من الانتظار تم استدعاء ثلاثة منا فقط للسفر، كانوا من الجيل الذي يعتبر نفسه وصيا على النضال وغيره دخيل يهدد وجوده، ثم طلب منا نحن الأربعة الباقون من المجموعة أن ننتظر إلى الأسبوع الموالي لأن أحدنا لا يزال غائبا وهو المرحوم تغرة ولد باباه، وكنا نعتقد أن الأمر عاديا إلى أن جاءت ساعة الحقيقة لنعرف أنه تقرر إلغاء سفرنا بحجة الحاجة إلى مدرسين في معسكر 12 أكتوبر الذي أصبح من بين فروعه مدرسة متكاملة، وهنا أيضا اعتقدنا أن الأمر عادي قبل أن نعرف الحقيقة المرة وهي أن زميلنا الذي كنا ننتظره ليسافر معنا قد تم اعتقاله، وأن المدرسة قد أصبحت أهم محطة لتجميع المرشحين للاعتقال تنفيذا لبنود منشور «المؤامرة الكبرى» الذي أعدته الأيادي الآثمة في قيادة البوليساريو كي يصبح رخصة للقتل في حق كل من كان يحمل الجنسية الموريتانية أو قدم موريتانيا.