روى المستشار مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الوطني الانتقالي السابق في ليبيا، خلال مقابلة مع «الشرق الأوسط» في العاصمة المغربية الرباط، تنشرها الصحيفة على حلقتين، اليوم وغدا، خلفيات وتفاصيل عن ثورة 17فبراير (شباط) 2011. وفي حين أوضح أنه لم يكن ضمن منظومة الزعيم الليبي السابق معمر القذافي، فإنه قال في مستهل المقابلة إن عائلته كانت تربطها صلات وطيدة بالملك إدريس السنوسي وبالنظام الملكي السابق. وأردف أن انقلاب القذافي كان غير مفرح بالنسبة له ولعائلته، بل شكل كابوسا، وأنهم كانوا منذ البداية على قناعة بأن نظام القذافي لن يكون في صالح الليبيين. من جهة ثانية، أشار عبد الجليل إلى أن خطاب سيف الإسلام القذافي بعد اندلاع الثورة كان مفاجئا ومخيبا للآمال، وأوضح «كنت أعول على أن يكون خطاب سيف الإسلام متوازنا، وهو خطاب أعده له مستشاره محمد عبد المطلب الهوني.. ولو خرج به على عامة الشعب كان بإمكانه أن يخلف والده، وتسوى الأمور بشكل ودي ويعلن دستورا حسب متطلبات الناس». وقال إن «ثمة شخصيات محترمة، مثل جاد الله عزوز الطلحي وأبو زيد دوردة، لو جاءت وتولت الأمور بليبيا في ذلك الوقت لقبلت بها المنطقة الشرقية، وتحققت المصالحة». وتطرق إلى قضية الممرضات البلغاريات اللواتي حقنّ، مع طبيب فلسطيني، الأطفال الليبيين بفيروس الإيدز، فقال إن القضية كانت صحيحة ولم يلفقها نظام القذافي. وذكر أن العلاقات بين النظام وقطر كانت قوية، وأن السفير القطري في باريس جاء بالتعويضات المالية لأسر الأطفال. * بالنسبة لك، متى قررت ضرورة الوقوف مع الثورة الليبية؟ - منذ كنت يافعا كانت أسرتي مشمئزة وممتعضة من ذلك الانقلاب الذي جرى عام 1969. نحن في الشرق الليبي كانت تربطنا صلات وطيدة بالملك إدريس السنوسي وبالنظام الملكي السابق، فكان الانقلاب غير مفرح بالنسبة لنا، بل مثّل كابوسا. وكنا منذ البداية على قناعة بأن هذا النظام لن يكون في صالح الليبيين، وبالتالي نشأت في هذه البيئة. ثم عندما مارست العمل القضائي في عام 1975 بدأت تطرح علينا في القضاء بعض المشكلات الطارئة من خلال تطبيق بعض القوانين التي استحدثت في عهد معمر القذافي، فكانت لدينا كقضاة لليبيا بشكل عام، وقضاة منطقة الجبل الأخضر بشكل خاص، سوابق قضائية في التصدي للكثير من القوانين التي أصدرها القذافي. فمنذ عام 1979 بدأ التعرض للنظام بشكل واضح وجلي من خلال بعض الأحكام. لكننا في الحقيقة لم نتعرض لأي أذى أو ضرر سواء كان شخصيا أو وظيفيا جراء ذلك. وبالتالي، منذ البداية كانت هناك ألفاظ في أسباب الأحكام، وأنا من القضاة الذين أعطاهم الله - سبحانه وتعالى - موهبة تسبيب الأحكام، وهي موهبة أتميز بها عن بقية زملائي. ومنذ ذلك الحين كانت الألفاظ تشير بشكل واضح إلى الفساد الذي رسخه القذافي في ليبيا، ومن ثم لم أكن من المنظومة القذافية. وحتى عام 2007 عملت رئيسا للمحكمة الابتدائية في البيضاء (شرق)، وقبلها عملت في بنغازي ودرنة، ومن خلال البرنامج الإصلاحي الذي بدأ آنذاك بعدما يئس الليبيون جميعهم من تغيير معمر. وهنا أود الإشارة إلى أنه (أي معمر القذافي) تعرض منذ السنة الأولى لحكمه للكثير من المؤامرات، أولاها كانت بقيادة وزير الداخلية ووزير الدفاع، والاثنان كانا ينتميان للمنطقة الشرقية، بيد أنها لم يكتب لها النجاح، ويقال إنه وقعت أكثر من خمسين حركة ضد القذافي من مؤامرات ومحاولات اغتيال. إذن عندما يئس الليبيون من إمكانية تغيير نظام القذافي، خاصة أنه أصلح وضعه العالمي من خلال تسوية قضية لوكيربي، ووضع حدا لبرنامجه النووي الذي أراد من خلاله إزعاج العالم، اتجهوا إلى الإصلاح. وبدأ صوت الإصلاح يرتفع من خلال ابن القذافي، سيف، الذي أنشأ صحيفتين حرتين، واحدة في بنغازي وأخرى في طرابلس، تنتقدان الأوضاع في البلاد بشكل علني. كذلك جرى الترخيص للكتّاب أن يعملوا فيهما، وهو ما عُد شيئا جديدا. أيضا جرى التصالح مع «الإخوان المسلمين» وأفرج عنهم جميعا من السجون، كما أفرج عن عدد من السجناء الذين تعهدوا بالكف عن العودة لمثل الأفعال التي اعتقلوا بسببها على الرغم من أن كثيرين منهم لم يوقعوا على هذا التعهد، وظلوا في السجن. آنذاك عُرض علي أن أكون وزيرا للعدل، وسلمت إلي نحو خمسة ملفات هي في أغلبها ملفات مالية، أولها يتعلق بتعويض الليبيين عن إصدار قانون عام 1978 الذي حد من الملكية العقارية، وفرض على كل مواطن أن يختار بيتا واحدا بينما تخضع بقية البيوت لشعار «البيت لساكنه»، أي أن يمتلكها مستأجرها. والثاني متصل بإلغاء الاقتصاد الحر عام 1979، ومعه جرى إلغاء جميع الشركات الخاصة تحت شعار «شركاء لا أجراء»، وتولى العاملون فيها إدارتها بشكل جماعي وأبعد ملاكها. وهكذا بدأ تعويض الأشخاص الذين لحقتهم الأضرار، وشكلت لجان في كل محكمة ابتدائية برئاسة قضاة وعضوية خبراء ماليين ومهندسين لتقدير هذه الأضرار، ومن ثم بدأ ضخ أموال التعويضات على وزارة العدل. أما الملف الثالث فكان يتعلق بتعويض السجناء الذين ظلوا في السجن لسنوات طويلة من دون أن تدينهم المحاكم القانونية، بل محاكم ثورية لا يعتد بها، ولقد خصص لكل سجين مبلغ مالي شهري، وهناك سجناء أفرج عنهم وعادوا إلى أعمالهم، وصرفت لهم مستحقات مالية بحسب المدة التي أمضوها في السجن، فهناك من منح 1000 دينار عن كل شهر قضاه في السجن، أما السجناء الذين ليست لهم أعمال أو لم يعودوا لممارسة أعمالهم فقد جرى منحهم 2000 دينار عن الشهر الواحد في السجن. وكان الملف الرابع ذلك الذي يتعلق بمذبحة أبو سليم، الذي كنت أنوي من خلاله الإفصاح عن أسماء شهداء المذبحة التي وقعت عام 1996 بعد تمرد مساجين شبان على الأوضاع في السجن، وقتل بعض الحراس. وبعد مفاوضات قرر القذافي قتل هؤلاء الشبان جميعا. وبالفعل هذا ما حدث خلال ثلاث ساعات، والأمر المؤكد أنه قتل 1269 شابا. وهكذا جرى إبلاغ ذويهم رسميا بمقتلهم.. وفتحنا لهم فرصة لطلب التعويض.. وحددنا التعويض عن كل شهيد ب200 ألف دينار ليبي، أي ما يعادل 160 ألف دولار تقريبا، وشكلت لهذا الغرض اللجان نفسها التي كانت في المحاكم الابتدائية، وبدأت الأمور تسير قدما إلى الأمام. وأخيرا كانت أيضا قضية الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني، الذين حقنوا دماء أطفال في المنطقة الشرقية بفيروس الإيدز. * هل كانت القضية الأخيرة حقيقية أم مفتعلة من نظام القذافي؟ - كانت قضية حقيقية وليست مفتعلة من النظام، والممرضات والطبيب حكمت عليهم المحكمة العليا بالإعدام مرتين. * هل الدم كان ملوثا أم أن الأمر كان مقصودا؟ - حسب اعترافات الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني فإن ما قاموا به كان مقصودا. * ماذا كان الهدف من ذلك؟ - ماذا أقول لك؟ القذافي في كثير من خطاباته كان يقول لليبيين اذهبوا عن ليبيا التي لا يوجد فيها ماء، اذهبوا إلى أفريقيا جنة الله في الأرض. وعندما يقول له البعض سنذهب إلى أوروبا كان يرد بالقول لا، إن أوروبا «صاقعة عليكم» (باردة عليكم).. إذ كان يهدف من وراء ذلك أن يذهب الليبيون ويأتي بآخرين مطيعين له من آسيا وأفريقيا، فيمنحهم الجنسية الليبية، ويحكم الناس من خلال وضعية أو سياسة معينة. * كم كلفت ماليا هذه الملفات جميعا؟ - صرفنا عليها نحو مليارين وسبعمائة مليون دينار ليبي. * وهكذا أصبحت ضمن المنظومة القذافية..؟ - لم أكن في يوم من الأيام ضمن هذه المنظومة، بل بالعكس، وأتذكر أنني عندما اطلعت على كشف قاعدة البيانات التي من خلالها جرى إعلام الأسر التي قتل أبناؤها في مذبحة أبو سليم، أنه كانت هناك أسرة في مصراتة كان منها أربعة أشقاء قتلوا خلال المذبحة، أرسلت لهم بصفتي وزيرا للعدل برقية تعزية وقلت لهم فيها إنهم سوف يكونون شفعاء لهم يوم القيامة مثلما سيكونون شهداء على من كان سببا في قمعهم. لا لم أكن في يوم من الأيام من ضمن هذه المنظومة. زد على ذلك أننا قمنا بتنفيذ الأحكام، فكان أي حكم يصدر من المحاكم يقضي بالتعويضات المالية ننفذه في الحين.. مثلا، كنا ننفذ بشكل فوري أي حكم يقضي بإخلاء السبيل، بمعنى أننا ذهبنا في اتجاه معين، بيد أنني صادفتني بعض الصعاب. * مثل ماذا؟ - هناك متهمون في قضية اسمها «قضية الجماعة الإسلامية المقاتلة» والتي قضت فيها محكمة الجنايات والمحكمة العليا ببراءة نحو 300 سجين، بيد أن الإفراج عنهم لم ينفذ، فوجهت عدة مراسلات للمؤتمر الشعبي العام (البرلمان) واللجنة الشعبية العامة (رئاسة الوزراء) لكن أحدا لم ينصع لقرار القضاء. كما أن القذافي وقع أمر الإفراج عن محكومين بالاعدام بعد إدانتهم بالقتل العمد, عندما كان يقول إنه ليس رئيسا للدولة. وقال «هؤلاء الأشخاص يخرجون من السجن حتى وإن لم يتنازل أولياء الدم عن حقوقهم». لقد تحينت الفرصة في المؤتمر الشعبي العام في شهر فبراير (شباط) 2010، وقلت إن هناك بندا في جدول الأعمال يسمى «بند المساءلة»، ولم تكن هناك أي مساءلة لوزارة العدل. أنا طلبت الكلمة، وعبّرت عن استغرابي من كون وزارة العدل لم توجه لها أي مساءلة، خاصة أننا أخفقنا في كثير من المسائل، أولاها أننا لم نجتمع خلال سنتين، وهذا طبعا مخالف لسلطة الشعب، لأنني أتعامل مع رؤساء المحاكم والنيابات من دون أن أجتمع مع أمناء العدل، الذين جرى زرعهم في كل بلدية وفي كل مكون إداري. وقلت أيضا إن هناك أكثر من 300 سجين حكمت المحكمة العليا ببراءتهم ولكن لم يفرج عنهم، وهناك أيضا من صدر في حقهم حكم بالإعدام بعد إدانتهم بالقتل العمد بيد أنهم جرى الإفراج عنهم من دون أن يتنازل أولياء الدم، وبالتالي فإنني أقدم استقالتي لأنني عاجز عن تحقيق العدالة في ليبيا. بعد نصف ساعة جاء القذافي إلى المؤتمر الشعبي، وواجهني في القاعة قائلا إن وزير العدل لم يختر المكان المناسب ليقول كذا أو كذا، وإنني لم أختر الوقت الصحيح. وزاد قائلا «المتهمون هؤلاء ينتمون إلى تنظيم القاعدة، ولو أفرجنا عنهم ستبدأ التفجيرات في ليبيا، ومن أفرجت عنهم قَتَلوا دفاعا عن أعراضهم وأموالهم، وبالتالي كيف يحكم القضاء بالإعدام على شخص دافع عن عرضه أو ماله أو نفسه؟». عندها ناقشته في سابقة معروفة عند الليبيين، وربما هي التي رفعت من أسهمي عندما اختارني الليبيون لرئاسة المجلس الوطني الانتقالي. إضافة إلى ما سبق فإن مدينتي البيضاء سقط فيها أول شهيدين في الثورة يوم 16 فبراير، وأيضا جرى إخراج كل السجناء من السجن، وأحرقت المحاكم، وبالتالي لم يكن أمامي بد من أن أنضم إلى الثوار في وقت مبكر. هذه الخلفية هي التي جعلتني أتبوأ هذه المنزلة المتقدمة في الثورة مقارنة مع بقية المسؤولين الليبيين. * كيف جرى اختيارك لتمثيل الثورة.. وهل كان لديك تواصل مع نشطاء فيها؟ - مدينة البيضاء كانت أول من تحرك.. وشكل الثوار فيها مجلسا محليا كنت أنا رئيسه. ومن ثم اختاروا لجنة لإدارة الأزمة أوكلوها لأساتذة في الجامعة، وخبراء متخصصين. وبعد ذلك بدأت المناطق الشرقية تتحرك، وباشرت تشكيل مجالس محلية تضم بعض الساسة ممن لديهم بعد نظر، مثل (محمود) جبريل و(عبد الرحمن) شلقم، والذين ألحوا على ضرورة تشكيل إطار سياسي يتعامل معه العالم الخارجي، واجتمعت الشخصيات المكونة لهذا الإطار في بنغازي يوم 26 فبراير، أي بعد تسعة أيام من اندلاع الثورة، واختاروني رئيسا للمجلس. * ما أول القرارات التي اتخذتها عندما تسلمت هذه المسؤولية.. وكيف كانت رؤيتك.. وما الذي كنت تراه ضروريا عمله في ذلك الوقت؟ - كانت الأمور في ذلك الوقت صعبة للغاية. أولا، أمرنا المجالس المحلية في طبرق ودرنة والمرج وبنغازي باختيار ممثليهم، وحددنا يوم الخامس من مارس للاجتماع في بنغازي. وجاء ممثلو هذه المجالس المحلية، وتشكل المجلس الوطني الانتقالي من أحد عشر شخصا يمثلون المجالس المحلية والشباب والمرأة والسجناء السياسيين والعسكريين. وكانت الأولويات كالآتي: الأولوية السياسية، التي تكمن في التعامل مع العالم الخارجي والتواصل معه للحصول على الدعم للمجلس الوطني الانتقالي كمحاور أو كممثل شرعي وحيد للشعب الليبي. والأولوية الاقتصادية، ذلك أننا كنا قد انعزلنا عن المنطقة الغربية بالكامل، وهي المنطقة التي توجد فيها الحكومة.. وكان همنا وشغلنا الشاغل توفير الكهرباء والمحروقات والمواد الغذائية الأساسية. والأولوية الثالثة تكمن في الموضوع العسكري الداخلي.. طبعا، نحن واجهنا قوات القذافي، وهي قوات رهيبة، بينما لم يكن لدى الثوار السلاح الكافي، وعلى الرغم من ذلك تقدموا نحو الجبهات، وانضم إليهم بعض القادة والضباط في الجيش وكذلك البدو. * ما هو مقدار الثقة الذي كان لديك في ذلك الوقت بشأن نجاح الثورة؟ - لم يساورني أي شك. كانت لدي رؤى غيبية مفادها أن هذه الثورة ستنجح، وأن القذافي أزفت أيامه، ولم يساورني شك أيضا في أنني سأتعرض في يوم من الأيام لأي ضرر، حتى بعد وفاة القذافي. * بعدما بدأتم تتعاطون مع الأزمة، هل حاول النظام في وقت من الأوقات أن يتواصل معكم في محاولة منه لإقناعكم بالعدول عن مساركم الجديد؟ - يوم 17 فبراير اتصل بي أمين اللجنة الشعبية العامة (رئيس الوزراء)، وكنت وقتذاك في المنطقة الشرقية، وسألني عما حصل هناك. ففي ذلك اليوم سقط 15 شهيدا في مدينة البيضاء، وقبل ذلك بيوم سقط شهيدان في المدينة. فأعطيته فكرة عن الأوضاع السائدة في ذلك الوقت، وسألني عن طلبات الثوار، فقلت له وقف إطلاق النار، وإخراج المرتزقة، ومنحهم ميدانا للتعبير عن تطلعاتهم. * سيف الإسلام كان يعرفك في ذلك الوقت.. هل حاول الاتصال بك؟ - حاول الاتصال بي، لكننا لم نتواصل. مدير مكتبي قال لي إن سيف يريد الحديث معي، وسألني هل يتصل به، فكان جوابي اتركه هو من يتصل. لكن سيف الإسلام لم يحاول الاتصال بي مجددا. والحقيقة أنه لا القذافي ولا أولاده يعرفون حقيقة وضعي. الوحيد الذي اتصل به هو رئيس الوزراء (البغدادي المحمودي). * هل تفاجأت من موقف سيف الإسلام وبعض إخوانه.. من انحيازهم للعائلة؟ - كنت أعول على أن يكون خطاب سيف الإسلام متوازنا، وهو خطاب أعده له شخص اسمه محمد عبد المطلب الهوني، فلو خرج به على عامة الشعب لكان بإمكانه أن يخلف والده، وتسوى الأمور بشكل ودي ويعلن دستورا حسب متطلبات الناس، لأن الناس أصبحوا يرفضون القذافي، ويريدون دستورا وتنمية، وهذه أمور كانت في ذلك الوقت أقرب إلى الواقع من أي شيء آخر. لكن سيف الإسلام خرج بتهديد ووعيد وقال إن البلاد ستقسم. لقد كان خطابا غير متوقع. * خيب ظنك إذن؟ - طبعا. * متى أحسستم بأنه أصبح بالإمكان فعلا القضاء على القذافي.. وهل كانت هناك لحظات شك؟ - كما سبق لي القول، لم يساورني أي شك على المستوى الشخصي، على الرغم من العقبات والعراقيل. * مررتم بلحظة تراجعت فيها بعض قوات مقاتليكم.. كيف كان الشعور حينها، وهل كان هناك من يطالب بالحوار مع النظام لوقف القتال.. أم كنتم مقتنعين بأنه لا يمكن التفاوض معه؟ - كنا نعول في الحقيقة على شخصيات ليبية محترمة، لو جاءت وتولت الأمور في ذلك الوقت لقبلت بها المنطقة الشرقية وتحققت المصالحة، ومنها على سبيل المثال جاد الله عزوز الطلحي الذي كان رئيسا للوزراء كما كان مندوب ليبيا لدى الأممالمتحدة ووزيرا للصناعة، وهو شخص يكن له الليبيون كل التقدير والاحترام. وكان هناك أيضا شخص آخر اسمه أبو زيد دوردة، عمل هو الآخر رئيسا للوزراء ووزيرا للزراعة ومندوبا لليبيا لدى الأممالمتحدة. هاتان الشخصيتان كان يعول عليهما في الشرق الليبي، إذا ما تولى أي منهما أو كلاهما الأمور في ليبيا. في غضون ذلك جاءنا مبعوث الاتحاد الأفريقي وعرض الصلح لكن ليس عن طريق هؤلاء الأشخاص، بل عن طريق تشكيل حكومة ممزوجة بشخصيات يختارها النظام والثوار، لكننا رفضنا هذه الفكرة. زارنا أيضا مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، عبد الإله الخطيب (وزير خارجية الأردن الأسبق)، ثلاث مرات عارضا موضوع المصالحة. كان هدفنا الأول والأساسي من المصالحة هو مطلب لا يمكن للقذافي أن يقبل به، وهو يكمن في وقف إطلاق النار، وإخراج قواته من طرابلس لإعطاء فرصة لليبيين في العاصمة للتعبير عن تطلعاتهم. قلنا أيضا فليخرج أهل طرابلس، فإن قالوا نحن مع الثورة فليكن، وإن قالوا مع القذافي فليكن. نحن عندها لا يمكننا أن ننفصل عن المنطقة الغربية. بالطبع عرضوا علينا الانفصال على مساحة 40 كيلومترا غرب أجدابيا، فقلنا إن هذا غير ممكن، إلا إذا خرجت الجماهير في طرابلس مؤيدة للقذافي، ولن يكون لدينا مانع حينها. * حينما قررتم التواصل مع العالم الخارجي، ما هو الانطباع الذي كان لديكم إزاء ما يمكن أن يحدث.. وكيف كانت رؤيتكم لما حدث بعد ذلك بشأن مواقف الدول؟ - لم نكن نتصور من القذافي أن يواجهنا بهذه القوة، ولولا وقوف المجتمع الدولي لما تمكنا من الوصول إلى ما يصبو إليه الليبيون في ذلك الوقت. لقد كان لي أول اتصال مع شخص اسمه خالد من مكتب أمير قطر، وأنا على يقين وأعرف جيدا مدى صلة النظام القطري بالقذافي، خاصة رئيس الوزراء الذي كان على صلة وطيدة به. وفي هذا السياق أعلم جيدا أنه عندما قرر النظام تعويض أسر الأطفال الليبيين المصابين بالإيدز كان التعويض عاليا، وحصل كل طفل على ما يعادل مليون دولار، وهذا مبلغ كبير في ليبيا، ذلك أنه حتى مبلغ مائة ألف دولار يظل مبلغا كبير في ليبيا في ذلك الوقت. مَن أتى بمبلغ التعويضات إلى ليبيا هو السفير القطري في باريس، وباعتباري وزيرا للعدل كانت لدي صورة من مراسلة تتعلق بذلك، إلا أنها للأسف أحرقت بسبب حريق تعرض له مكتبي في طرابلس. كنت على يقين أيضا بأن النظام الفرنسي كان على علاقة وطيدة بنظام القذافي، فزوجة الرئيس (يومذاك) نيكولا ساركوزي هي التي حضرت إلى طرابلس لتسلم الممرضات عندما تنازل أولياء أمور الأطفال. وبموجب القانون عندما يتنازل ولي الأمر تخفض عقوبة الإعدام إلى السجن المؤبد، وهو ما قمنا به كمجلس قضاء مختص. وبموجب اتفاقية قضائية سابقة بين ليبيا وبلغاريا نقلت الممرضات لتمضية بقية عقوبتهن في بلغاريا. نحن لم نكن نتوقع هذا الدور المتقدم في مساندة الثورة الليبية سواء من الحكومة القطرية أو من الحكومة الفرنسية، اللتين كانت لهما الريادة في مناصرتنا. أيضا نسجل لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي دورهم كأول مؤسسة أو أول منظومة سياسية تؤيد الثورة الليبية، من بعد ذلك جاءت جامعة الدول العربية وإيطاليا، وهكذا دواليك.