الوصول إلى ليبيا وبداية جحيم الشك في الأطر الموريتانية.. وهم الدولة يعمي بصيرة قادة البوليساريو بعد وصولنا وتسلمنا للغرف التي سنسكنها وجدناها شبه محطمة، وكان من حسن حظنا أن كان هناك مجموعة من الموريتانيين يدرسون في مركز للتكوين المهني وفي اختصاص الكهرباء والسمكرة، وحين علموا بوجودنا جاؤوا للسلام وأصلحوا لنا كل شيء، والأهم من ذلك أنهم أحضروا لنا ما كنا نفتقر إليه، وبالخصوص الشاي وأدواته. وخلال الحديث على جلسة الشاي تلك، كان أحدهم يسأل عني شخصيا، حيث استفسر إن كان فينا أحد يعرف قريبا له اسمه محمد فال ولد القاضي ولد أكاه، اختفى منذ سنين وسمعوا أنه ربما يكون قد التحق بالبوليساريو، وخلال حديثه رأيت أحد زملائي وكان ذكيا ونبيها ينظر نحوي وإلى السائل فأشرت إليه بأن يسكت، لأني في تلك اللحظة كنت أقلب في ذاكرتي عمن يكون السائل الذي كنت متأكدا منذ رأيته أن صورته ليست غريبة علي. كنت خجولا من أن يتعرف علي، ويصبح الأمر محرجا لي إن سألته عمن يكون، وبمجرد صدفة سعيدة نودي عليه من طرف أحد زملائه، فعرفت أنه فعلا قريبي «محمد يحظيه ولد ألبناني» الذي كان أخي الصغير المدلل ينادي على والده بأن يعطيه حبيبات تؤكل، حينها قلت له بأنني أنا الشخص الذي يسأل عنه. صدم من شدة الفرحة وعانقني ثم بكى كالطفل، وبعد أن سألني عن أحوالي استأذن مني ليذهب من أجل أن يراسل العائلة بأخباري ليكون ذلك أول وأخر نبأ يسمعونه عني. كانت السنة الدراسة قد بدأت قبل ذلك بأسبوع أو اثنين، وكانت مدة التكوين في ذلك المعهد تدوم خمس سنوات، أربع منها للتكوين النظري وواحدة للتطبيق في المدارس الإعدادية الموجودة في المدينة، إلا أن مستوياتنا سمحت لنا بالتجاوز مباشرة إلى السنة الرابعة، مما يعني أن فترة التكوين التي سنقضيها في ليبيا سنتان، وإن كان الأمر سيتغير بالنسبة لأربعة منا - وأنا منهم - بعد سنة، حيث رأت فينا قيادة البوليساريو أعضاء مفترضين في كذبة «الشبكة الموريتانية الفرنسية للتجسس والتخريب»، التي افترتها لتصفية الكوادر الموريتانيين الموجودين في صفوفها، وهو الأمر الذي وثقه الرئيس الموريتاني الأسبق محمد خونا ولد هيدالة في مذكراته حيث يقول في الصفحة 116: «كما كنت ألتقي الرئيس الصحراوي بشكل مستمر وأنسق معه وظل هذا حال علاقتنا إلى آخر فترة، حيث قالوا إنهم اكتشفوا شبكة من الجواسيس بين الموريتانيين الذين التحقوا بهم تعمل لصالحنا، وحقيقة هذا أن المسألة التي تعرض فيها الموريتانيون الموجودون معهم لتصفية كبيرة أنه بعد أن خرجنا نحن من الحرب ووقفنا إلى جانبهم في المحافل الإفريقية، واعترف بهم عدد كبير من دول القارة كانوا يظنون أنهم أصبحوا على وشك إقامة دولة فرأوا أن غالبية الكوادر من الموريتانيين وهم لا كوادر لهم، فتصوروا أنهم إن أقاموا الدولة والموريتانيون مازالوا معهم سيسيطرون على دولتهم، وتكون موريتانيا ثانية فاختلقوا هذه الذريعة (ذريعة شبكة الجواسيس) لتصفية الكوادرالموريتانية في البوليساريو«. وهنا لا بد لي من الإشارة إلى بعض المواقف التي حدثت معي في ليبيا ولم أعطها أي اهتمام إلا بعد أن أعادوني إلى المخيمات بعد نهاية السنة الدراسية. كان قد بدأ الحديث عن جريمة الاختلاق التي تحدث عنها الرئيس ولد هيدالة، ذلك أنه حينما حلت عطلة مارس من تلك السنة وكنت قد قررت مع قريبي القيام بزيارة لعائلات من أبناء عمومتي، علمت أنهم يسكنون في مدينة بنغازي التي تبعد عنا 600 كلم. أخبرت جماعتي بذلك، وكان من بين الجماعة عنصران هما (ع . ش) و(خ .ح) معروفان حسب من عملوا معهما بعلاقتهما بجهاز الأمن للبوليساريو ويوصفان بالتجسس على زملائهم من المعلمين فطلب مني (ع . ش) أن يرافقني، وحين اعتذرت له سافر هو إلى طرابلس ويبدو أنه أخبر مسؤول البعثة التعليمية للبوليساريو في ليبيا المسمى محمد سالم ولد حمده بأنه مرتاب في سفري وعدم قبولي بمرافقته لي فشد الاثنان الرحال إلى بنغازي للبحث عن (الهارب) الذي هو أنا.