أخذت الإنسانية، ضمن مسار الحضارة الغربية، وجهين متناقضين. يتمثل الوجه الأول، في شبه تأليه لإنسان، منقطع للطبيعة. إنه، في الواقع ديانة إنسان، حل محل إله متقادم، وتعبير عن مزايا الإنسان الحديث المتطور بيولوجيا، الصانع، الاقتصادي. بهذا المعنى، الإنسان مقياس كل شيء، ومصدر لكل قيمة، يبتغي التطور. يُطرح باعتباره، ذاتا للعالم، والأخير بالنسبة إليه، عالما-موضوعا، تشكله موضوعات. هو سيد، على هذا العالم، يتمتع بسلطة لانهائية على كل شيء، ضمنها حقه اللانهائي في التدبير. بناء على أسطورة (الإنسان المتطور بيولوجيا) قدرات تقنيته ثم استئثاره بالذاتية، أرسى دعائم الشرعية المطلقة لتمركزه الأنثروبولوجي. وجه كهذا للإنسانية، يلزمه الاختفاء ثم نتوقف عن التحمس للصورة البربرية، المشوهة، المعتوهة، عن إنسان مكتف بذاته، فوق الطبيعة، محور للعالم، وهدف للتطور، متسيد على الطبيعة. أما الثاني، فقد صاغه مونتين بجملتين: "أكتشف في كل إنسان مواطنا لي"، و"ننعت بالمتوحشين، شعوب الحضارات الأخرى". لقد مارس مونتين، إنسانيته عبر الإقرار لسكان أمريكا الأصليين بمنتهى إنسانيتهم، والذين تعرضوا لغزو أليم واستعبادهم ثم انتقاده لمستعبديهم. هذه النزعة الإنسانية، أغناها مونتسكيو بمكون إتيقي مفاده، أنه إذا استلزم الأمر الاختيار بين وطنه والإنسانية، فيجب الانحياز للإنسانية. أخيرا، صارت هذه الإنسانية مناضلة لدى فلاسفة القرن الثامن عشر، وعثرت على تعبيرها الكوني في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن سنة 1789. هذه النزعة الإنسانية، أقرت في مبدئها أوج الخاصية الإنسانية، لدى كل كائن ينتمي لنوعنا. تجد في كائن بشري، هوية مشتركة، وراء التباينات مرتكزة ضمنيا على المبدأ الذي طرحه إيمانويل كانط: تعامل مع الآخرين، مثلما تتوخى، أن يتعاملوا معك. أيضا، تضمر تصور هيغل: كل كائن بشري، في حاجة إلى الاعتراف بأقصى درجات إنسانيته، من طرف الآخر. يطلب احترام مانسميه "كرامة" كل إنسان، بمعنى أن لا تعرضه لمعاملة فظة. هذه النزعة الإنسانية، غذتها فيما بعد طاقة للأخوة والحب، خاصية إنجيلية اكتست طابعا علمانيا. بما أن هذه النزعة الإنسانية، تهم مبدئيا جميع الكائنات البشرية، فقد احتكرها الرجل الأبيض، الراشد، الغربي. هكذا، أقصي البدائيون، المتخلفون، الطفوليون، الذين لم يدركوا كرامة الإنسان المتطور بيولوجيا، فعوملوا كأشياء واستعبدوا، إلى غاية الحقبة الحديثة، جراء التحرر من الاستعمار. لسنا في حاجة إلى نزعة إنسانية جديدة، بل أخرى تستعيد أصالتها ومتجددة. تحوي النزعة الإنسانية في ذاتها، فكرة التقدم، وتهتدي به. لقد اعتُبر التقدم، منذ كوندورسي Condorcet، قاعدة يخضع لها التاريخ البشري. بحيث، يبدو أن العقل والديمقراطية والتطور العلمي والاقتصادي والأخلاقي، كانت غير منفصلة. اعتقاد، ولد في الغرب، تكرس، ثم عٌمم عالميا، بالرغم من التفنيدات المرعبة، الناتجة عن التوتاليتاريات، وكذا الحروب العالمية فترة القرن العشرين. سنة 1960، وعد الغرب بمستقبل متناغم، والشرق بمستقبل مشرق. هذان المستقبلان، انهارا قليلا قبل نهاية القرن العشرين، وحلت محلهما الشكوك والمخاوف، كما أن الإيمان بالتقدم، لم يعد قابلا لإدراجه ضمن مستقبل للوعود، بل الممكنات. بهذا المعنى، تقترح النزعة الإنسانية الجديدة، متابعة تطور الإنسان نحو أنسنة، بتبني المقتضيات الأنثروبو- إيتيقية (لنخلق الإنسان). بالضرورة، النزعة الإنسانية المتجددة، هي كونية، بينما تضمنت السابقة كونية محتملة، وغاب هذا الترابط الملموس بين جميع البشر، فصارت رابطة للمصير، خلقت ووسعت العولمة، بغير توقف. بما أن الإنسانية مهددة حاليا، بأخطار قاتلة (ازدياد الأسلحة النووية، الحروب الأهلية التي اتخذت بعدا دوليا، هيجان مختلف أنواع التعصب، التقهقر المتسارع للمحيط الجوي، أزمات واختلالات اقتصاد تهيمن عليه مضاربات غير مراقبة)، فحياة النوع الإنساني المتلازمة مع حياة المحيط الجوي، أضحيا قيمة أولية، ومقتضى مبدئيا. علينا أن ندرك، أنه إذا توخينا للإنسانية البقاء، فيلزمها أن تعرف تحولا، وهو ما عبر عنه كارل ياسبرز فترة قليلة، بعد الحرب العالمية الثانية: "إذا ابتغت البشرية مواصلة الحياة، فعليها أن تتغير" بالتالي، فالقضية الأولى للحياة اليوم، صارت أولوية وعي جديد، يستدعي مسارا مغايرا. ترتكز بوعي، الأنسنة المتجددة، على المنابع الأنثروبولوجية للإيتيقا. منابع، حاضرة لدى كل مجتمع بشري، وتتمثل في التضامن والمسؤولية. التضامن نحو الجماعة، يحث على المسؤولية، والأخيرة توقظ التضامن. تبقى، هذه الروافد حاضرة، لكنها في قسم منها قد نضبت وجفت بالنسبة لحضاراتنا، نتيجة تأثير الفردانية وسيادة منطق المنفعة، وكذا البيروقراطية المعممة. يجب، على النزعة الإنسانية الجديدة، أن تظهر إحياء التضامن والمسؤولية، بهدف مواصلة تطور الأنسنة، في إطار نزعة إنسانية، أي من أجل كل تقدم بشري. لكن بينما تبقى الثنائية، تضامن-مسؤولية، منحصرة ضمن جماعات محدودة أو منغلقة (أسرة، وطن)، وقبل ذلك، فالنزعة الإنسانية عند مونتين ومونتسكيو، اتخذت معنى إنسانيا كونيا. غير أن هذه الكونية، لم تصبح ملموسة إلا مع جماعة المصير الكوني. أن تصير النزعة الإنسانية كونية، يقتضي إذن، من ثنائية تضامن-مسؤولية، الاستمرار في الاشتغال دون توقف، داخل الجماعات المتواجدة، وأن تتضخم لدى جماعة المصير الكوني. أيضا: يلزم البشرية أكثر، أن تتحمل على عاتقها بوعي، الطموح الكبير الذي يخترق كل التاريخ الإنساني، فبقدر نزوع الجماعات إلى خنق الأفراد، تبتغي الفردانية، تفتيت الجماعات: تنمية شخصيته وسط جماعة، ثم تفتّح الأنا بين طيات تفتّق النحن. أخيرا، هل يصل الوعي الكوني من تلقاء ذاته، إلى فكرة الأرض-الوطن، كما كتبت في مؤلف يحمل نفس العنوان: (ها نحن بشر جد صغار، حول القشرة الصغيرة جدا، للحياة المحيطة بالكون الصغير جدا، التائه وسط الكوكب العملاق. مع ذلك، فهذا الكوكب عالم، إنه عالمنا. كوكب، يشكل في ذات الآن منزلنا وحديقتنا، نكتشف أسرار شجرة جينيالوجيتنا وكذا بطاقة هويتنا الأرضية، والتي تجعلنا نكتشف أمّنا الأرضية، في لحظة صارت معها المجتمعات المتناثرة حول الكرة الأرضية، مستقلة ثم يراهن جماعيا على المصير البشري). ينبغي أن يشكل امتلاك وعي جماعي، عن مصير الأرض، الحدث المفتاح لعصرنا. إننا، متآزرون في هذا الكون، باعتبارنا كائنات أنثروبو- طبيعية- فيزيائية، أبناء لهذا الكون. إنها، أرضنا-الوطن. إن اكتمال الإنسانية عند إنسانية الجماعة الجديدة المندمجة في الأرض-الوطن، ثم تحول البشرية، يمثلان وجهي المغامرة الإنسانية الجديدة، المتوخاة والممكنة. بالتأكيد، تراكم المخاطر وسباق السفن الفضائية،حيث ترتكز محركاتها على التطورات غير المضبوطة للعلوم والتقنية والاقتصاد، تجعل المنفذ بعيد الاحتمال. لكن، ذلك لايعني الاستحالة. حتما، يبدو من غير الممكن، تغيير السبيل، غير أن مختلف المسالك الجديدة التي عرفها التاريخ البشري، لم تكن منتظرة، بل هي وليدة انحرافات استطاعت التجذر، ثم صارت نزوعات وقوى تاريخية. تبدو، ضرورة عدد من التحولات، بنفس ذات إيقاع مطلب الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والشخصية والإيتيقية. لكن قليلا على امتداد كل العالم، يظهر عدد لا يحصى من الإنبات، كما يجري عدد لايحصى من المجاري الصغيرة بحيث تتلاقى كي تشكل جداول، يمكنها أن تصب في أنهار، ستلتقي عند نهر كبير. هنا، يكمن الأمل، ورغم هشاشته يبقى أملا، يلزمنا أن نفهم ضرورة أخذ الرهان والأمل، مكان اليقينيات. تطوي في ذاتها، صيرورتنا الحالية، لبنات تحولين. الأول، أشرنا إليه، وهو حاليا بعيد الاحتمال، ينفتح على مجتمع-عالَم، يصير الأرض-الوطن. أما الثاني، فيتعلق بما بعد الإنسانية transhumanisme، والتي تقوم على احتمالات قوية، كانت مجهولة قبل عشرين سنة: إطالة الحياة الإنسانية، دون شيخوخة بفضل الخلايا الجذعية، الماثلة في الجهاز العضوي لكل واحد منا. ثم، تطوير تعايش حميمي أكثر فأكثر، بين الإنسان ومنتوجات تقنيته، لاسيما الأجهزة الإعلامية، والقدرة الكبيرة أكثر فأكثر لآلات تكتسب مزايا بشرية، ضمنها الوعي ربما. كل هذا، يفتح وعيا للخيال العلمي، حيث يتحول فعلا المعطى الإنساني، إلى ما بعد الإنساني. بل، يمكن لما بعد الإنسانية هاته، التحول إلى أسطورة، من خلال نبوءة كون الإنسان، سيكتسب الخلود. لكن هذه التطورات العلمية والتقنية، لن تكون لها خاصية إيجابية، إلا إذا صاحبها تقدم إنساني، هو في الآن ذاته، ذهني وإيتيقي وسياسي ومجتمعي. إذا لم يكن تحول المعطى البيولوجي والتقني مصحوبا بالتطور الإنساني، فسيؤدي إلى استفحال مشاكل، متفاقمة أصلا. من جهة، اتساع الفوارق الطبقية، بين الأغنياء والأقوياء، أول المستفيدين الوحيدين من إطالة عمر الحياة، ثم الفقراء والمحرومين. قضية، الإقرار بحقوق بشرية، لروبوتات robots مفكرة، حين إثرائها بالوعي. إن إمكانية التحول العلمي-التقني، المستشرف لما بعد الإنساني، يستدعي حتما وبالضرورة، تحولا سيكولوجيا وثقافيا واجتماعيا، ينبثق من سبيل جديد، تغذيه إنسانية متجددة. أريد أن أنهي مع مكون آخر للوعي الإنسي، مثلما ينبغي في اعتقادي أن يكون حاضرا، لدى كل واحد منا. فأن تكون إنسانيا، لايعني فقط الاعتقاد، أننا نشكل جزءا من جماعة المصير هاته، وأننا بشرا جميعا، قدر اختلافنا، وليس فقط الرغبة في التخلص من الكارثة واستشراف عالم أفضل، ولكن الشعور ثانية، في عمق الذات، بأن كل واحد منا هو لحظة وقطعة صغيرتين جدا، ضمن مغامرة عجيبة ومدهشة، ونحن نواصل مغامرة الحياة. بدأت مغامرة تطور الأنسنة، منذ سبعة آلاف سنة، مع تعدد للأنواع وهي تتابع وتتلاقى، وصولا إلى الإنسان المتطور بيولوجيا. خلال، حقبة إنسان كرومانيون cro-magnon، ورسوماته الصخرية الرائعة، فقد امتلك سلفا دماغ ألبير أينشتاين، وليوناردو دافينتشي، وأدولف هيتلر، وكل الفنانين الكبار والفلاسفة والمجرمين، دماغا متقدما على فكره وكذا حاجاته. اليوم، لازال دماغنا يمتلك بلا شك كفاءات، لم نكتشفها بعد، وبالتالي توظيفها. إننا في مغامرة عجيبة، مع تلك الإمكانيات العلمية، الأكثر إدهاشا ورعبا في الوقت نفسه. الإنسانية، بحسبي، لاتحمل فقط في ذاتها الشعور بالتضامن الإنساني، لكنه أيضا الشعور، بأن تكون ضمن مغامرة مجهولة ومذهلة، والرغبة كي تواصل، صوب تحول، حيث يولد مستقبل جديد. أنا فرد-ذات، بمعنى كل شيء في حوزتي تقريبا، ولاشيء بالنسبة للكون. كِسرة صغيرة جدا وعاجزة ضمن العلاقة مع الكون، وكذا الفكر البشري، حيث أساهم، ثم شيئا قويا، كغريزة تصل ما هو أكثر حميمية في ذاتي، بهذا الكون والفكر البشري، أي المصير البشري. أساهم، في هذا اللانهائي واللا-اكتمال والحقيقة التي نسجها الحلم بقوة، وكائن الألم هذا والسعادة والارتيابِ، الذي يسكننا، مثلما نسكنه. وسط هذه المغامرة الجميلة، أمثل جزءا ضمن كائن كبير، كما يتجلى مع سبعة مليار التي بلغها عدد البشرية، مثل خلية تنتمي إلى جسد بجانب مئات مليارات الخلايا، ألف مرة زيادة للخلايا عند شخص، كي نكون كائنات بشرية على الأرض. أجسّد جزءا ضمن هذه المغامرة الخارقة، المندرجة في قلب مغامرة الكون ذاتها المذهلة. تحمل بين طياتها، جهلها ومجهولها ولغزها، ثم جنونها في عقلها، لاوعيها في وعيها، مثلما تطوي ذاتي الجهل والمجهول واللغز والجنون وعقل المغامرة. المغامرة، أكثر من ذي قبل، مريبة ومهولة ومثيرة، لكن: ليس لك من طريق أيها المشاء، بل تتأتى لك الطريق، وأنت تمشي. هامش: * le monde diplomatique :octobre ;2015.