الورقة التي أتلوها على مسامعكم في هذا المساء السعيد مدخل لقراءة كتاب الحق في الشعر،وهي ورقة لم تعتمد الصرامة النقدية والنظرية بقدر ما حاولت محاورة الكتاب من خلال قضايا وإشكالات بدت لي مركزية وجامعة لخيط ناظم لكل النصوص التي يضمها بين دفتيه. تروم هذه القراءة إذن إضاءة ما سماه دوفيليبان باستعجال الشعر أو بما يجعل الشعر حاجة ملحة على الإنسانية أن تعمل على صيانتها والحفاظ على أسئلتها مشعة حاضرة تقاوم كل مظاهر النفي والهجران.لذلك ستعجز هذه الورقة عن استيفاء الإحاطةبكل الإشكالات التي يعالجها الكتاب. بدلا من ذلك سنقف على إشكالات بعينها تفرض على المشتغل بالشعر، شاعرا وقارئا وناقدا كامل اليقظة في مواجهة عناصر التدمير التي تتعرض لها اللغة ومعها الشعر. 1. الشعر ضرورة / الشعر ضوء Mettez de la poésie dans votre vie ! ضعواشعرا في حياتكم. إنه قادر على أن يغيرنا في العمق ويصير أداة لتنمية النفس وتغيير العالم. الشعر بأصواته وإيقاعاته وصوره يعبر عن الحالة الأكثر اكتمالالبيت الكائن. والإنسان يبني نفسه ويعيد بناءها بالشعر كذلك. الشعر يعالج الأدواء. وكما قال دوفيليبان: «يتوخى الشعر مساعدة الإنسان على مجاوزة تحديات: أولها تحدي الحياة...»استعجال الشعر ص13 كتاب «الحق في الشعر» يدخلنا مباشرة في عمق القراءة المتعددة للشعر باعتباره ضرورة وأساسا لفهم الكون وتغييره وشكلا من أشكال المقاومة للقبح في كل تجلياته.وإني لأزعم أنه يضع الشعر لا في مرتبة الخطاب الذي يفجر اللغة ويطور المعجم فحسب، بل إنه يضعه كذلك في مصاف اللغة التي تغير الكائن. الحق في الشعر كتاب يؤسس من خلال تجربة عميقة وخاصة، لأصول ما ينبغي أن يكون عليها لخطاب النقدي والإبداعي حول الشعر. وهو يحتل أهمية بارزة من حيث انتماؤه إلى سلسلة الكتابات حول الشعر التي كتبها الشعراء أنفسهم جامعين فيها بين التجربة والخلفية النقدية الدقيقة. كتاب الحق في الشعر إنجاز أساسي وضع فيه محمد بنيس خلاصات صداقة يومية لصيقة بالشعر فألف حوله بين عناصر خلافية، ولكنها متجاورة. إن قارئ هذا الكتاب يكتشف مقومات نظرية شعرية شاملة وأصيلة صاغها محمد بنيس من خلال الشهادة والتحليل الثقافي والتاريخي والمساءلة النقدية لوضعية الشعر العربي الحديث في عالم متغير، عالم يقاوم الشعر وهو يحتاج إليه. ومن هنا المفارقة بين ثنائيتين تعبران النص بأكمله يمكن تلخيصهما في أن الشعر ضرورة ومستودع أسرار في زمن يبعد الإنسان عن الإنسان. يطرح هذا الكتاب أسئلة كبرى حول الكتابة الشعرية وتلقيها، حول الشعر والتاريخ، حول الشعر والأسئلة الوجودية، حول الحداثة الشعرية العربية وحدود المغامرة، حول ماهية الشعر وضرورته في مسارات الإنسانية الخطية حينا والمتعرجة أحيانا أخرى. لكن الأساسي كما يقول بنيس في بداية هذا الكتاب، أن الشعر مستودع أسرار كبرى من خلاله يضع الشاعر المجهول في الكلمات. الكلمات التي تفتقد شيئا وتنقصها أشياء حين يتخلى عنها الشعر. 2. الشعر ومنفى العولمة / الشعر والأسئلة الإنسانية الحارقة في بداية هذا الكتاب، وفي نص أساسي بعنوان: الشعر مستودع أسرار كبرى»، سبق لمحمد بنيس ان نشره في مجلة البيت الصادرة عن بيت الشعر في المغرب سنة 2000، نقرأ ما يلي: «أنشدت البشرية الشعر منذ القدم، وهي تستكين فيه إلى ما يختفي وراء الكلمات، هواء يتحرك من نفَس إلى نفَس، من دون استئذان. في الشعر كان الناس، على الدوام، يحسون بكون ينشأ ولا ينتهي، متكلما بأسرار كلَّ مرة يتسابقون نحوها فلا يصلون. تلك كانت طريقة الشعراء الأساسيين، في لغات وحضارات، وهم ينقلون الكلام البشري إلى مرتبة النشيد الأصفى، المتفرد واللامقارن. من نفَس إلى نفَس. وها هو تاريخ بكامله للقصيدة يعيد تشكيل ذاته مع كل شاعر يبلغ تلك النقطة التي هي سر التكوين.» ص11 في هذا النص ما يفسر ضرورة الشعر ومركزيته بغض النظر عن الزمان والمكان والثقافات التي تستضيف بعضها في حوار شعري كوني. غير أن الملفت للنظر أن محمد بنيس وهو يضع أسس التلقي الشعري وتداوله داخل منظومة تحفظ للشعر مركزيته وأوليته، ينطلق من سؤال مقلق: ما الذي يستطيعه الشعر في زمن العولمة، وهوكما يقول، صدى مكبر لسؤال هولدلين: لماذا الشعراء في زمن الشدة؟ هو سؤال موجع يواجهنا في بداية الكتاب، ومعه تتناسل الأسئلة الموجعة: - ما الذي يستطيع العالم لإنقاذ الشعر حتى ينقذ اللغة؟ - ما الذي يستطيعه الشعر أمام انحصار اللغة في وظيفة التواصل؟ - لماذا تهجر الشعوب لغاتها؟ مقام الجواب يعود بنا إلى ربط هذه الشدة بهيمنة «نموذج معمم له سطوة الاستهلاك واستبداد الإعلام. توجهان جديدان -يقول بنيس - يستحوذان على السياسات الدولية والجهوية، القائمة على منطق المنفعة السريعة التي تحرم الإنسان من الأساسي، الذي هو اللغة. هذه المعاينة لم تعد تسمح لنا بمواجهة مسألة التمييز بين زمن المدينة الكونية، مدينة العولمة، وبين الشعر، دون أن نواجه، في البدء، هجران اللغة، وديعة الوعد.» ص 17 الشعر في هذا السياق يضطلع بمهمة صعبة وعاجلة، تحاصر منطق العولمة السائد وهجران اللغة. يقول بنيس: «يقتضي كل استئناف للوعد إلحاحا على أن من واجب الشعراء تأمل أوضاع اللغة في المدينة الكونية، بما هو تأمل مستعجل.» ص26. خطاب أساسي يلح محمد بنيس على تكراره والتأكيد عليه هو أن اللغة لا تتطور من تلقاء نفسها. وبغض النظر عن أوضاع الاستعمال والتبادل والتفاعل بين اللغات والثقافات التي تخلق دينامية في المعجم البشري، فإن الشعر يختص بمهمة حاسمة هي تطوير اللغة وخلق المعنى من المعنى والزيادة في المعاني من المباني التي يبتكرها المتخيل الشعري. وقد ركزت دراسات علم النفس المعرفي والدراسات اللغوية العصبية على هذه الخصيصة حين أشارت إلى أن الدماغ لا يختار الكلمات اعتباطا وأن هناك سيرورات دقيقة في عملية الإبداع تساهم في دينامية التطور الطبيعي للغة لكنه تطور تكون لمخيلة الشاعر مكانة بالغة في خلق سياقاته الجديدة وإخراج الكلمات من عدم الاستعمال إلى ألق المعنى الجديد والمبتكر، إلى فائض المعنى على حد قول محمد بنيس. في نص «مصير القصيدة، مصير الكلام»، يقول محمد بنيس: «فالقصيدة كلام يديم الكلام لأنه فيها يبلغ حد الشطح، الذي ينقل اللغة إلى الصفاء. الشطح هو قوة انبثاق اللغة من الكلام الشعري في بدء لم يكن لها وإقبال على ما لم يكن فيها. والقصيدة تأتي من نفَس ينفخ في الكلام، واهبا إياه لا ما يُعبر بل ما يخلق لك ولي ميلادا متجددا، إبداعا إنسانيا، لا نهائيا للكلام.» ص39 لا ينبغي أن ننسى أن وظيفة الشعر في هذا السياق لا تكتفي بتفجير المعاني بل في حماية اللغة نفسها من بطش العولمة والمؤسسات المنتجة للثورة على حساب المعنى والحوار والتواصل.مقامات كثيرة في هذا الكتاب تدق ناقوس الخطر، تحذر من خطاب المصلحة والاستهلاك و»سلطة المغلق الذي يشمل التعصب للهوية والعقيدة». يقول ص20: «لكن تمجيد المصلحة، الذي تعممه العولمة، اليوم، لا يهجر الشعر وحده، بل هو يعمل أيضا على هجران اللغة. وضعيتان، بدقة، متكاملتان. ولا دهشة. فمن يهجر الشعر مجبر على التخلي عن اللغة. هجران الشعر هو، في الوقت ذاته، هجران اللغة، رغم كل شيء، مختفيا خلف ايدولوجيات متصارعة.» ص20 ليس غريبا إذن أن نستشف من وراء الخطاب دعوة قلقة للشعراء إلى الوعي بدورهم التاريخي في نهج سبيل المقاومة، المقاومة باللغة حتى لا تفقد القصيدة هويتها ولا يفقد الإبداع جوهره ولا تفقد الكلمات قدرتها على خلق المعنى وسيرورته في الزمن وتثبيت لغة الميراث الثقافي: «إنه وضع جديد للكلام في زمن العولمة. وضع ينتفي فيه الإبداع، الشطح، اللقاء الحوار. وهو ما يمنع الكلام من أن يديم الكلام، ويمنع الكلام من المستقبل مثلما يمنع المستقبل من الكلام. رهان القصيدة صوتها. المقاومة. على أن تعيين مكان المقاومة هو ما على القصيدة ألا تخطئه. فالتعيين يتم في زمن يختلف عن الأزمنة السابقة. ومكان المقاومة الذي على القصيدة أن تعينه اليوم هو الكلام الذي يديم الكلام، حتى تبقى القصيدة تستحق تسمية القصيدة وحتى يبقى الكلام يديم الكلام. على الشاعر ألا يرتاب في الصوت. وألا يخطئ في تعيين المكان. وجها لوجه. بين الشاعر ومصير القصيدة، الكلام.» ص44 في سنة 1989 نشرت مجلة كلمات لجمال الدين ابن الشيخ نصا عميقا حول الغموض في الشعر، وفيه يؤكد على مبدأ أساسي هو شعرية كل الكلمات. يقول: «إن الشاعر هو من يعرف كيف يحيي اللغة بكاملها فالكلمات تعلن عن الأراضي المغمورة بالمياه، وبمجرد ما يستعملها الشاعر تخرج الدلالات المتعددة عن مكمنها. إن الشاعر يحيي من جديد كنزا متراكما ليرغم قارئه على تواصل أقصى. فليست هناك كلمة أكثر شعرية من غيرها. والميزة الوحيدة التي لنا اعتبارها هي قوة الدلالة». كلمات، ع 10/11، 1998، ص 90 هو المسعى نفسه للشاعر الذي «يأمل أن يبعث الحياة داخل الكلمات، على حد تعبير دوفيلبان، كلمات غالبا ما تكون ذابلة ويتوجب نفخها بالحياة، بالدم...» استعجال الشعر، ص18 3. مغامرة القصيدة العربية الحديثة المغامرة في القصيدة الحديثة ترتبط عند بنيس مباشرة بتبني السؤال: ما معنى الشعر وما معنى الحداثة؟ محمد بنيس كان واضحا ومباشرا في تشخيصه لعوائق التحديث وفي إلحاحه على إصرار الشاعر الحديث على مقاومة التيار وتأسيس مقومات نموذج شعري جديد: «فالذهنية العربية لم تتقبل بعد جرأة الشاعر العربي الحديث على إعطاء القصيدة إمكانية الجمالية المضادة، ومن ثم فإن هذه الذهنية تظل بعيدة عن المشروع التحديثي، الذي أصبح عمره يناهز القرن. ومن غير تنازل أيضا، يواصل الشاعر مغامرته، متأملا في الزمن المتبدل، معيدا صياغة القصيدة في ضوء اللانهائي، الذي تقيم فيه بلا هوادة، متشككة، على الدوام، في المطمئن وهو يرغمها على التخلي عن مغامرتها». ص55 النموذج الشعري الذي يتطور من خلال المغامرة والسؤال، ترتبط بدايته كما يشير بنيس بجبران خليل جبران في سياق شعري وتاريخي موسوم بالتعقد، لكنه تعقد لم يمنع القصيدة من مواصلة مسارها نحو التحديث واختراق الحواجز واستكشاف المجهول والدخول في حوارات عميقة مع شعريات أخرى. يقول ص 56: «المغامرة التي افتتحها جبران، كانت متزامنة مع مغامرات مثيلة، لدى كل من خليل مطران وأمين الريحاني. وبدون إصدار أحكام القيمة على هذه أو تلك، بسبب تعقد المرحلة التاريخية والنماذج الشعرية، يمكن التأكيد على أن مشروع التحديث لم يعثر على خط مستقيم. في المنعرجات، كانت المغامرة تستكشف الطرق. وعلى هذا النحو شهدت القصيدة العربية الحديثة، بين مشرق العالم العربي ومغربه، نخبة من الشعراء، الذين بادروا إلى تبني السؤال، قيمة عليا لغزو الماضي الواحد، باحثة عن الماضي المتعدد، أو الإنصات إلى الحداثة الشعرية، في كل من أوربا وأمريكا. إن الشعراء الحديثين، رومانسيين ومعاصرين، لم يستكينوا للكسل الذي يغري عندما تصبح القصيدة مجرد صدى لسواها، أكان خطابا أو واقعا خارجا عن عالم القصيدة. فالشك والقلق تمت ترجمتهما من خلال نوعية المعرفة التي كان الشاعر العربي الحديث يسعى إلى إعطائها مكانتها المفتقدة. وفي هذا كانت المغامرة مستعدة لاختراق الحواجز التي تعترض سبيلها. ولربما، كنا اليوم، ذوي بصيرة نفاذة في قراءة اتجاهات المغامرة. وذلك لا يرجع إلى الزمن الطويل ولا إلى ما أصبحنا نعيشه من فقدان الثقة في الآراء المسبقة التي فعلت سلبا في تقديم القصيدة العربية الحديثة، بل إلى استعادة قوة هذه الجمالية كلما تأملنا في ديوان الشعر العربي الحديث بوعي يتعدى الظرفي كما يتعدى الشعر.» إن أهمية تحليل محمد بنيس للمغامرة التي عاشتها القصيدة الحديثة في النصف الثاني من القرن، تكمن في عدة مقومات أهمها انتساب القصيدة إلى الفضاء المتوسطي وتحول الأسئلة من الهوية إلى الضرورة دون أن نغفل قصور القراءة على اختراق الأسئلة الجوهرية التي يقاربها الشعر نفسه، أسئلة تحتاج إلى منظور أقل كسلا وأكثر إشعاعا ودينامية وقوة رؤيا في التداول حول المسألة الشعرية ومركزيتها أمام كل الموانع المحيطة والناتجة عن مختلف التحولات في المجتمع ووسائطه: «عندما نقرأ الشعر العربي، من منظور كهذا، نفاجأ، بقوة المغامرة، وبالرؤية الكونية التي تجعل هذا الشعر منتسبا عن جدارة إلى الفضاء المتوسطي. فالسؤال الشعري الآن، في القصيدة العربية، لم يعد محدودا ضمن الأفكار التي سيطرت لفترة عن علاقة الذات بالآخر، أو عن الهوية والأصالة والتراث، أو عن حدود الفكر. تلك الأفكار، التي شغلت القصيدة العربية لأكثر من نصف قرن، حلت محلها أفكار تتعلق بالسؤال مجددا عن ضرورة الشعر، من منظور ما اصبحت عليه وضعية القصيدة على الصعيد الإنساني. أسئلة القصيدة، التي تكتب الآن، عربيا، هي من صنف مختلف تماما، دون أن يعني ذلك أن القراءة استطاعت الاهتداء إليها. إذا كانت النظرية الشعرية، والنظرية الأدبية إجمالا، تعرف مأزقا على الصعيد الدولي، وهو ينعكس بسلبية مضاعفة على القراءة العربية، فإن القصيدة تسعى، من جهتها، للانفلات من كسل الآراء المتداولة عن الشعر، وهي التي لا تزال متأثرة بالحركات النقدية للستينيات أو ما قبل الستينيات.إن هذه القصيدة تندمج، شيئا فشيئا، في النسيج الكوني للسؤال الشعري، متحدية بذلك ما يتردد عن جنازة القصيدة، في زمن لا يستجيب للشعر، بفعل سيادة الرواية أو بفعل سيادة أنساق تواصلية، سمعية - بصرية. ص58 4. الشعر المغربي ومغامرة التحديث لا يبدو الشعر المغربي الحديث بعيدا عن سيرورة المغامرة التي تعبر الخيط الإبداعي الناظم لتأمل الشعر ومساره ومآله وضرورته في هذا الكتاب. غير أن ما تجب الإشارة إليه أن خطاب محمد حول بنيس حول تجربة المغامرة وعوائق التحديث في الشعر المغربي الحديث تمثل جزء بنيويا من تجربة الشاعر في التأمل والقراءة والنقد والاكتشاف والممارسة. إن النص الذي كتبه محمد بنيس عن الانقطاع في والاستمرارية في القصيدة المغربية الحديثة وهو عنوان فرعي لعنوان أصلي: من بلاغة الأخلاق إلى مضايق الشعر، يختصر زمنا لا يقاس بمنطق الزمن عن صداقة خاصة وألفة مع ما أسس ويؤسس لتجربة عرفت الأزمة والانقطاع كما عرفت هيمنة النموذج التقليدي والاهتمام بالمشرق الشعري دون الانكباب على ما يمكن أن يؤسس الحداثة الشعرية المغربية في علاقاتها بحداثات أخرى شرقية وغربية ومتوسطية وآسيوية. وضعية يصعب تفسيرها ولا يصعب في آن واحد إذا ما اخذنا بعين الاعتبار سطوة النموذج الفقهي على مقومات الثقافة المغربية عموما: «حالة غامضة كنت أعيشها آنذاك مع الشعر المغربي الحديث، ومع الشعر المغربي بكامله. ما كان يشغل المجتمع الأدبي هو إما النقاش في الشعر العربي الواصل من الشرق منشورا في مجلة أو ديوان، أو الكلام عن عدم اهتمام المشارقة بالمغاربة. وما لم أكن أفهمه هو لماذا لا يهتم المغاربة أنفسهم بشعرهم الحديث. أو لماذا يفضلون نسيان هذا الشعر وإلغاءه في آن.» ص 109 كل العوائق التي يمكن الوقوف عندها بين ثنايا هذا الكتاب سواء فيما يتعلق بالحداثة الشعرية في المغرب أو بما ميز الثقافة الشعرية العربية عامة في فترة من التاريخ الثقافي والسياسي العربي الحديث، تجعلنا نفهم فرضية الانقطاع التي ناقشها محمد بنيس في هذا النص وفي مشروعه النقدي والنظري على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الانصات الهادئ والعميق لما تقوله الثقافة المغربية الحديثة وما لا تقوله، وذلك رغم الجدل النقدي الموضوعي حينا والمتحامل أحيانا أخرى والذي رافق تجربة خطاب نظري ونقدي صارم وغير مألوف عن الشعر وعن الثقافة المغربية الحديثة التي تمزج في الآن نفسه بين عناصر القوة والهشاشة. خطاب محمد بنيس في هذه المرحلة من قراءة القصيدة المغربية أو بالأحرى نداؤه، شديد الوضوح، إنه حاجة الشعر المغربي الحديث لإعادة القراءة بمقومات وأدوات نظرية وثقافية أخرى تجيب عن الأسئلة المقلقة، التي ربما كانت مركزية الحضور في التجارب والممارسات الثقافية التي خاضها محمد بنيس من خلال الثقافة الجديدة ومن خلال تجربة البحث والتأطير داخل الجامعة. هي أسئلة أكثر من مقلقة لأنها تفكيكها حسم في تشخيص وفك الألغاز المحيطة بفرضية الانقطاع: كيف ينتج الشاعر المغربي قصيدته؟، متى ينتج؟، ما المسالك التي تقطعها القصيدة للوصول إلى قارئها؟ من قارئها؟ هي أسئلة لتجنب المسكوت عنه في الشعر المغربي وهو ما سماه بنيس ببلاغة الأخلاق، ومعها سؤال آخر مزعج: ما الذي يمنع التفكير في الشعر وتاريخيته أو يجعل التفكير لا ممكنا؟. يقول محمد بنيس: «هذا الأساس في بلورة فرضية الانقطاع الشعري في المغرب الحديث أصبح يتطلب تتبعا في حركية الانقطاع. فرضية مندمجة في الزمن المعيش، وهو ما يغني الفرضية ونقيضها في آن. عدم التنازل صعب، لأنه مواجهة للمسكوت عنه ولما لا يقبل التفكير فيه. رهان شديد القسوة في حياة مضطربة في قيمها الثقافية، في أوضاعها العامة، وفي صورة الذات. كنت أعلم أن التصريح بمثل هذه الفرضية سيكون مفاجئا، وقد يكون تشهيرا بنفسي. فكيف تتحدث عما لا أحد يتحدث عنه؟ ومن غير اختراع بطولة كنت أتابع الملاحظة، بهدف معرفة موضوعية لما يؤدي إلى هذا الانقطاع.» 113 وفي هذا السياق كانت أولى الاستنتاجات بخصوص الحداثة المعطوبة في الشعر المغربي، خلاصات يمكن العودة إلى تفاصيلها في الكتابات النظرية الأكاديمية التي بنى بها بنيس مشروعه في الشعر وحول الشعر. يقول: ص117 «إذا لم تكن الحداثة العربية، في جميع أطوارها، تصدر عن وعي بالحداثة، كممارسة نصية ونظرية، ممارسة بالسلب، فهي تحققت كاستمرارية. أما الشعر المغربي الحديث فلم تتحقق له، قبل السبعينيات، الاستمرارية، مثلما لم يتوصل إلى الوعي بالحداثة كممارسة. بدلا من ذلك، هناك الانقطاع، من جيل إلى جيل، من فترة إلى فترة، من مرحلة أولى لشاعر بعينه إلى مرحلة موالية.» حين نتحدث عن تجربة الكتابة حول الشعر عند محمد بنيس، تفرض نفسها بعمق شمولية التجربة، تجربة الشاعر المسكون بسؤال الكتابة وسؤال الحداثة الشعرية. كان محمد بنيس واضحا في كل كتاباته حول الموضوع، وفي مختلف نصوص هذا الكتاب، واضحا في بسط خلفية المسألة الكامنة في التمرد الشعري على القيم الثقافية السائدة مع وعي عميق بما يترتب عليها من توتر مع المؤسسة الثقافية المهيمنة: «ما الذي وقع لهذا الشاب المغربي، المسكون بالجمالية الحديثة، بالخروج على القيم المتداولة، بالتمرد على المؤسسة الشعرية التقليدية، حتى أقطع، انقطع شعره؟ هنا كان «بيان الكتابة» افترق عن الخطاب السائد في مغرب السبعينيات. خطاب اليقين، الذي يتآلف فيه الشعر المعاصر مع غيره. في السؤال، وفي التصريح بالسؤال، تم الافتراق»