النظام الجزائري.. تحولات السياسة الروسية من حليف إلى خصم في مواجهة الساحل الإفريقي    تفاعلا مع الورش الملكي لإصلاح المنظومة الصحية.. مهنيو الصحة 'الأحرار' يناقشون مواكبتهم لإصلاح القطاع    كأس أمم إفريقيا لأقل من 17 سنة.. نبيل باها: من أجل التتويج باللقب لابد من بذل مجهودات أكثر    كأس أمم إفريقيا لأقل من 17 سنة (ربع النهائي).. المنتخب المغربي يواجه نظيره الجنوب الإفريقي يوم الخميس المقبل    روعة مركب الامير مولاي عبد الله بالرباط …    توقيف إفريقيين مقيمان بدول أوروبية بمطار طنجة لحيازتهما ل46 كيلوغرام من المخدرات    تحطم طائرة مسيّرة تابعة للجيش المالي.. التحقيقات تكشف إسقاطها بهجوم صاروخي من الجيش الجزائري    اتحاد دول الساحل يتهم الجزائر ب"العدوان والترويج للإرهاب" ويستدعي سفراءه للتشاور (وثيقة)    أمم إفريقيا : منتخب U17 يضرب موعدا مع جنوب إفريقيا في ربع النهائي بعد فوزه على تنزانيا    خريبكة تلاقي تطوان بكأس العرش    ولد الرشيد: المغرب يدافع "بكل حزم" عن احترام الوحدة الترابية للدول    توقيف شخص بإنزكان بشبهة السكر العلني البين وإلحاق خسائر مادية بممتلكات الغير    الذكاء الاصطناعي في الصفوف الأمامية خلال المؤتمر 23 لجمعية مكافحة الأمراض المعدية    عطاف يستقبل دي ميستورا بالجزائر    الإيطالي 'لوتشيانو دارديري' يتوج بلقب النسخة 39 من جائزة الحسن الثاني الكبرى للتنس    عودة حركة الملاحة إلى طبيعتها بين طنجة وطريفة بعد تحسن الأحوال الجوية    رولينغ ستونز إفريقيا في قلب صحراء امحاميد الغزلان    عشرات آلاف المغاربة يتظاهرون في الرباط "ضد الإبادة والتجويع" في غزة    وقفة تضامنية حاشدة في الحسيمة نصرة لفل سطين وتنديداً بالعدوان على غ زة    وزير الخارجية الفرنسي يعلن الاتفاق على بناء "شراكة هادئة" مع الجزائر    بيانات: المغرب ثاني أكبر مستورد للقمح الطري من الاتحاد الأوروبي    العربية للطيران تطلق خطا جويا جديدا بين الناظور ومورسيا    بعد انخفاض أسعار المحروقات وطنياً.. هذا هو ثمن البيع بمحطات الوقود في الحسيمة    آلاف المعتمرين المغاربة عالقون في السعودية    جدل الساعة الإضافية : كلفة نفسية على حساب اقتصاد طاقي غير مبرر    "أساتذة الزنزانة 10" يعلنون الإضراب    تأجيل تجمع "مواليد 2000 فما فوق"    الوكالة الوطنية للمياه والغابات تواجه رفضا واسعا للتعديلات القانونية الجديدة    بوزنيقة: المكتب الوطني المغربي للسياحة: افتتاح أشغال مؤتمر Welcom' Travel Group'    المغرب يحدد منحة استيراد القمح    الرصاص يوقف هائجا ويشل حركة كلبه    توقيف مروجين للمخدرات الصلبة بحي الوفاء بالعرائش    لوبن تدين "تسييس القضاء" بفرنسا    لاف دياز: حكومات الجنوب تستبعد القضايا الثقافية من قائمة الأولويات    وزان تحتضن الدورة الأولي لمهرجان ربيع وزان السينمائي الدولي    الجسد في الثقافة الغربية 11- الجسد: لغة تتحدثنا    الذكاء الاصطناعي.. سوق عملاق يُهدد العدالة الرقمية    سجل عشاق الراكليت يحطم رقمًا قياسيًا في مدينة مارتيني السويسرية    دش الأنف يخفف أعراض التهاب الأنف التحسسي ويعزز التنفس    "قافلة أعصاب" تحل بالقصر الكبير    أوبك بلس تؤكد عدم إجراء أي تغيير على سياسة إنتاج النفط    الرباط تصدح بصوت الشعب: لا للتطبيع..نعم لفلسطين    السفارة الأمريكية توجه تحذيرا لرعاياها بالمغرب    لسعد الشابي: الثقة الزائدة وراء إقصاء الرجاء من كأس العرش    أمن طنجة يوقف أربعينيا روج لعمليات اختطاف فتيات وهمية    توضيحات تنفي ادعاءات فرنسا وبلجيكا الموجهة للمغرب..    توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    ترامب يدعو لخفض أسعار الفائدة: الفرصة المثالية لإثبات الجدارة    المغرب يتوعد بالرد الحازم عقب إحباط محاولة إرهابية في المنطقة العازلة    طنجة .. وفد شبابي إماراتي يطلع على تجربة المغرب في تدبير قطاعي الثقافة والشباب    دعم الدورة 30 لمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط ب 130 مليون سنتيم    بحضور عائلتها.. دنيا بطمة تعانق جمهورها في سهرة "العودة" بالدار البيضاء    الوديع يقدم "ميموزا سيرة ناج من القرن العشرين".. الوطن ليس فندقا    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحق في الشعر.. حرية الكتابة في زمن العولمة

الورقة التي أتلوها على مسامعكم في هذا المساء السعيد مدخل لقراءة كتاب الحق في الشعر،وهي ورقة لم تعتمد الصرامة النقدية والنظرية بقدر ما حاولت محاورة الكتاب من خلال قضايا وإشكالات بدت لي مركزية وجامعة لخيط ناظم لكل النصوص التي يضمها بين دفتيه.
تروم هذه القراءة إذن إضاءة ما سماه دوفيليبان باستعجال الشعر أو بما يجعل الشعر حاجة ملحة على الإنسانية أن تعمل على صيانتها والحفاظ على أسئلتها مشعة حاضرة تقاوم كل مظاهر النفي والهجران.لذلك ستعجز هذه الورقة عن استيفاء الإحاطةبكل الإشكالات التي يعالجها الكتاب. بدلا من ذلك سنقف على إشكالات بعينها تفرض على المشتغل بالشعر، شاعرا وقارئا وناقدا كامل اليقظة في مواجهة عناصر التدمير التي تتعرض لها اللغة ومعها الشعر.
1. الشعر ضرورة / الشعر ضوء
Mettez de la poésie dans votre vie !
ضعواشعرا في حياتكم. إنه قادر على أن يغيرنا في العمق ويصير أداة لتنمية النفس وتغيير العالم. الشعر بأصواته وإيقاعاته وصوره يعبر عن الحالة الأكثر اكتمالالبيت الكائن. والإنسان يبني نفسه ويعيد بناءها بالشعر كذلك. الشعر يعالج الأدواء. وكما قال دوفيليبان: «يتوخى الشعر مساعدة الإنسان على مجاوزة تحديات: أولها تحدي الحياة...»استعجال الشعر ص13
كتاب «الحق في الشعر» يدخلنا مباشرة في عمق القراءة المتعددة للشعر باعتباره ضرورة وأساسا لفهم الكون وتغييره وشكلا من أشكال المقاومة للقبح في كل تجلياته.وإني لأزعم أنه يضع الشعر لا في مرتبة الخطاب الذي يفجر اللغة ويطور المعجم فحسب، بل إنه يضعه كذلك في مصاف اللغة التي تغير الكائن.
الحق في الشعر كتاب يؤسس من خلال تجربة عميقة وخاصة، لأصول ما ينبغي أن يكون عليها لخطاب النقدي والإبداعي حول الشعر. وهو يحتل أهمية بارزة من حيث انتماؤه إلى سلسلة الكتابات حول الشعر التي كتبها الشعراء أنفسهم جامعين فيها بين التجربة والخلفية النقدية الدقيقة. كتاب الحق في الشعر إنجاز أساسي وضع فيه محمد بنيس خلاصات صداقة يومية لصيقة بالشعر فألف حوله بين عناصر خلافية، ولكنها متجاورة. إن قارئ هذا الكتاب يكتشف مقومات نظرية شعرية شاملة وأصيلة صاغها محمد بنيس من خلال الشهادة والتحليل الثقافي والتاريخي والمساءلة النقدية لوضعية الشعر العربي الحديث في عالم متغير، عالم يقاوم الشعر وهو يحتاج إليه. ومن هنا المفارقة بين ثنائيتين تعبران النص بأكمله يمكن تلخيصهما في أن الشعر ضرورة ومستودع أسرار في زمن يبعد الإنسان عن الإنسان.
يطرح هذا الكتاب أسئلة كبرى حول الكتابة الشعرية وتلقيها، حول الشعر والتاريخ، حول الشعر والأسئلة الوجودية، حول الحداثة الشعرية العربية وحدود المغامرة، حول ماهية الشعر وضرورته في مسارات الإنسانية الخطية حينا والمتعرجة أحيانا أخرى. لكن الأساسي كما يقول بنيس في بداية هذا الكتاب، أن الشعر مستودع أسرار كبرى من خلاله يضع الشاعر المجهول في الكلمات. الكلمات التي تفتقد شيئا وتنقصها أشياء حين يتخلى عنها الشعر.
2. الشعر ومنفى العولمة / الشعر والأسئلة الإنسانية الحارقة
في بداية هذا الكتاب، وفي نص أساسي بعنوان: الشعر مستودع أسرار كبرى»، سبق لمحمد بنيس ان نشره في مجلة البيت الصادرة عن بيت الشعر في المغرب سنة 2000، نقرأ ما يلي:
«أنشدت البشرية الشعر منذ القدم، وهي تستكين فيه إلى ما يختفي وراء الكلمات، هواء يتحرك من نفَس إلى نفَس، من دون استئذان. في الشعر كان الناس، على الدوام، يحسون بكون ينشأ ولا ينتهي، متكلما بأسرار كلَّ مرة يتسابقون نحوها فلا يصلون. تلك كانت طريقة الشعراء الأساسيين، في لغات وحضارات، وهم ينقلون الكلام البشري إلى مرتبة النشيد الأصفى، المتفرد واللامقارن. من نفَس إلى نفَس. وها هو تاريخ بكامله للقصيدة يعيد تشكيل ذاته مع كل شاعر يبلغ تلك النقطة التي هي سر التكوين.» ص11
في هذا النص ما يفسر ضرورة الشعر ومركزيته بغض النظر عن الزمان والمكان والثقافات التي تستضيف بعضها في حوار شعري كوني. غير أن الملفت للنظر أن محمد بنيس وهو يضع أسس التلقي الشعري وتداوله داخل منظومة تحفظ للشعر مركزيته وأوليته، ينطلق من سؤال مقلق: ما الذي يستطيعه الشعر في زمن العولمة، وهوكما يقول، صدى مكبر لسؤال هولدلين: لماذا الشعراء في زمن الشدة؟
هو سؤال موجع يواجهنا في بداية الكتاب، ومعه تتناسل الأسئلة الموجعة:
- ما الذي يستطيع العالم لإنقاذ الشعر حتى ينقذ اللغة؟
- ما الذي يستطيعه الشعر أمام انحصار اللغة في وظيفة التواصل؟
- لماذا تهجر الشعوب لغاتها؟
مقام الجواب يعود بنا إلى ربط هذه الشدة بهيمنة «نموذج معمم له سطوة الاستهلاك واستبداد الإعلام. توجهان جديدان -يقول بنيس - يستحوذان على السياسات الدولية والجهوية، القائمة على منطق المنفعة السريعة التي تحرم الإنسان من الأساسي، الذي هو اللغة. هذه المعاينة لم تعد تسمح لنا بمواجهة مسألة التمييز بين زمن المدينة الكونية، مدينة العولمة، وبين الشعر، دون أن نواجه، في البدء، هجران اللغة، وديعة الوعد.» ص 17
الشعر في هذا السياق يضطلع بمهمة صعبة وعاجلة، تحاصر منطق العولمة السائد وهجران اللغة. يقول بنيس: «يقتضي كل استئناف للوعد إلحاحا على أن من واجب الشعراء تأمل أوضاع اللغة في المدينة الكونية، بما هو تأمل مستعجل.» ص26.
خطاب أساسي يلح محمد بنيس على تكراره والتأكيد عليه هو أن اللغة لا تتطور من تلقاء نفسها. وبغض النظر عن أوضاع الاستعمال والتبادل والتفاعل بين اللغات والثقافات التي تخلق دينامية في المعجم البشري، فإن الشعر يختص بمهمة حاسمة هي تطوير اللغة وخلق المعنى من المعنى والزيادة في المعاني من المباني التي يبتكرها المتخيل الشعري. وقد ركزت دراسات علم النفس المعرفي والدراسات اللغوية العصبية على هذه الخصيصة حين أشارت إلى أن الدماغ لا يختار الكلمات اعتباطا وأن هناك سيرورات دقيقة في عملية الإبداع تساهم في دينامية التطور الطبيعي للغة لكنه تطور تكون لمخيلة الشاعر مكانة بالغة في خلق سياقاته الجديدة وإخراج الكلمات من عدم الاستعمال إلى ألق المعنى الجديد والمبتكر، إلى فائض المعنى على حد قول محمد بنيس. في نص «مصير القصيدة، مصير الكلام»، يقول محمد بنيس:
«فالقصيدة كلام يديم الكلام لأنه فيها يبلغ حد الشطح، الذي ينقل اللغة إلى الصفاء. الشطح هو قوة انبثاق اللغة من الكلام الشعري في بدء لم يكن لها وإقبال على ما لم يكن فيها. والقصيدة تأتي من نفَس ينفخ في الكلام، واهبا إياه لا ما يُعبر بل ما يخلق لك ولي ميلادا متجددا، إبداعا إنسانيا، لا نهائيا للكلام.» ص39
لا ينبغي أن ننسى أن وظيفة الشعر في هذا السياق لا تكتفي بتفجير المعاني بل في حماية اللغة نفسها من بطش العولمة والمؤسسات المنتجة للثورة على حساب المعنى والحوار والتواصل.مقامات كثيرة في هذا الكتاب تدق ناقوس الخطر، تحذر من خطاب المصلحة والاستهلاك و»سلطة المغلق الذي يشمل التعصب للهوية والعقيدة». يقول ص20:
«لكن تمجيد المصلحة، الذي تعممه العولمة، اليوم، لا يهجر الشعر وحده، بل هو يعمل أيضا على هجران اللغة. وضعيتان، بدقة، متكاملتان. ولا دهشة. فمن يهجر الشعر مجبر على التخلي عن اللغة. هجران الشعر هو، في الوقت ذاته، هجران اللغة، رغم كل شيء، مختفيا خلف ايدولوجيات متصارعة.» ص20
ليس غريبا إذن أن نستشف من وراء الخطاب دعوة قلقة للشعراء إلى الوعي بدورهم التاريخي في نهج سبيل المقاومة، المقاومة باللغة حتى لا تفقد القصيدة هويتها ولا يفقد الإبداع جوهره ولا تفقد الكلمات قدرتها على خلق المعنى وسيرورته في الزمن وتثبيت لغة الميراث الثقافي:
«إنه وضع جديد للكلام في زمن العولمة. وضع ينتفي فيه الإبداع، الشطح، اللقاء الحوار. وهو ما يمنع الكلام من أن يديم الكلام، ويمنع الكلام من المستقبل مثلما يمنع المستقبل من الكلام. رهان القصيدة صوتها. المقاومة. على أن تعيين مكان المقاومة هو ما على القصيدة ألا تخطئه. فالتعيين يتم في زمن يختلف عن الأزمنة السابقة. ومكان المقاومة الذي على القصيدة أن تعينه اليوم هو الكلام الذي يديم الكلام، حتى تبقى القصيدة تستحق تسمية القصيدة وحتى يبقى الكلام يديم الكلام. على الشاعر ألا يرتاب في الصوت. وألا يخطئ في تعيين المكان. وجها لوجه. بين الشاعر ومصير القصيدة، الكلام.» ص44
في سنة 1989 نشرت مجلة كلمات لجمال الدين ابن الشيخ نصا عميقا حول الغموض في الشعر، وفيه يؤكد على مبدأ أساسي هو شعرية كل الكلمات. يقول:
«إن الشاعر هو من يعرف كيف يحيي اللغة بكاملها فالكلمات تعلن عن الأراضي المغمورة بالمياه، وبمجرد ما يستعملها الشاعر تخرج الدلالات المتعددة عن مكمنها. إن الشاعر يحيي من جديد كنزا متراكما ليرغم قارئه على تواصل أقصى. فليست هناك كلمة أكثر شعرية من غيرها. والميزة الوحيدة التي لنا اعتبارها هي قوة الدلالة». كلمات، ع 10/11، 1998، ص 90
هو المسعى نفسه للشاعر الذي «يأمل أن يبعث الحياة داخل الكلمات، على حد تعبير دوفيلبان، كلمات غالبا ما تكون ذابلة ويتوجب نفخها بالحياة، بالدم...» استعجال الشعر، ص18
3. مغامرة القصيدة العربية الحديثة
المغامرة في القصيدة الحديثة ترتبط عند بنيس مباشرة بتبني السؤال: ما معنى الشعر وما معنى الحداثة؟
محمد بنيس كان واضحا ومباشرا في تشخيصه لعوائق التحديث وفي إلحاحه على إصرار الشاعر الحديث على مقاومة التيار وتأسيس مقومات نموذج شعري جديد:
«فالذهنية العربية لم تتقبل بعد جرأة الشاعر العربي الحديث على إعطاء القصيدة إمكانية الجمالية المضادة، ومن ثم فإن هذه الذهنية تظل بعيدة عن المشروع التحديثي، الذي أصبح عمره يناهز القرن. ومن غير تنازل أيضا، يواصل الشاعر مغامرته، متأملا في الزمن المتبدل، معيدا صياغة القصيدة في ضوء اللانهائي، الذي تقيم فيه بلا هوادة، متشككة، على الدوام، في المطمئن وهو يرغمها على التخلي عن مغامرتها». ص55
النموذج الشعري الذي يتطور من خلال المغامرة والسؤال، ترتبط بدايته كما يشير بنيس بجبران خليل جبران في سياق شعري وتاريخي موسوم بالتعقد، لكنه تعقد لم يمنع القصيدة من مواصلة مسارها نحو التحديث واختراق الحواجز واستكشاف المجهول والدخول في حوارات عميقة مع شعريات أخرى. يقول ص 56:
«المغامرة التي افتتحها جبران، كانت متزامنة مع مغامرات مثيلة، لدى كل من خليل مطران وأمين الريحاني. وبدون إصدار أحكام القيمة على هذه أو تلك، بسبب تعقد المرحلة التاريخية والنماذج الشعرية، يمكن التأكيد على أن مشروع التحديث لم يعثر على خط مستقيم. في المنعرجات، كانت المغامرة تستكشف الطرق. وعلى هذا النحو شهدت القصيدة العربية الحديثة، بين مشرق العالم العربي ومغربه، نخبة من الشعراء، الذين بادروا إلى تبني السؤال، قيمة عليا لغزو الماضي الواحد، باحثة عن الماضي المتعدد، أو الإنصات إلى الحداثة الشعرية، في كل من أوربا وأمريكا.
إن الشعراء الحديثين، رومانسيين ومعاصرين، لم يستكينوا للكسل الذي يغري عندما تصبح القصيدة مجرد صدى لسواها، أكان خطابا أو واقعا خارجا عن عالم القصيدة. فالشك والقلق تمت ترجمتهما من خلال نوعية المعرفة التي كان الشاعر العربي الحديث يسعى إلى إعطائها مكانتها المفتقدة. وفي هذا كانت المغامرة مستعدة لاختراق الحواجز التي تعترض سبيلها. ولربما، كنا اليوم، ذوي بصيرة نفاذة في قراءة اتجاهات المغامرة. وذلك لا يرجع إلى الزمن الطويل ولا إلى ما أصبحنا نعيشه من فقدان الثقة في الآراء المسبقة التي فعلت سلبا في تقديم القصيدة العربية الحديثة، بل إلى استعادة قوة هذه الجمالية كلما تأملنا في ديوان الشعر العربي الحديث بوعي يتعدى الظرفي كما يتعدى الشعر.»
إن أهمية تحليل محمد بنيس للمغامرة التي عاشتها القصيدة الحديثة في النصف الثاني من القرن، تكمن في عدة مقومات أهمها انتساب القصيدة إلى الفضاء المتوسطي وتحول الأسئلة من الهوية إلى الضرورة دون أن نغفل قصور القراءة على اختراق الأسئلة الجوهرية التي يقاربها الشعر نفسه، أسئلة تحتاج إلى منظور أقل كسلا وأكثر إشعاعا ودينامية وقوة رؤيا في التداول حول المسألة الشعرية ومركزيتها أمام كل الموانع المحيطة والناتجة عن مختلف التحولات في المجتمع ووسائطه:
«عندما نقرأ الشعر العربي، من منظور كهذا، نفاجأ، بقوة المغامرة، وبالرؤية الكونية التي تجعل هذا الشعر منتسبا عن جدارة إلى الفضاء المتوسطي. فالسؤال الشعري الآن، في القصيدة العربية، لم يعد محدودا ضمن الأفكار التي سيطرت لفترة عن علاقة الذات بالآخر، أو عن الهوية والأصالة والتراث، أو عن حدود الفكر. تلك الأفكار، التي شغلت القصيدة العربية لأكثر من نصف قرن، حلت محلها أفكار تتعلق بالسؤال مجددا عن ضرورة الشعر، من منظور ما اصبحت عليه وضعية القصيدة على الصعيد الإنساني. أسئلة القصيدة، التي تكتب الآن، عربيا، هي من صنف مختلف تماما، دون أن يعني ذلك أن القراءة استطاعت الاهتداء إليها.
إذا كانت النظرية الشعرية، والنظرية الأدبية إجمالا، تعرف مأزقا على الصعيد الدولي، وهو ينعكس بسلبية مضاعفة على القراءة العربية، فإن القصيدة تسعى، من جهتها، للانفلات من كسل الآراء المتداولة عن الشعر، وهي التي لا تزال متأثرة بالحركات النقدية للستينيات أو ما قبل الستينيات.إن هذه القصيدة تندمج، شيئا فشيئا، في النسيج الكوني للسؤال الشعري، متحدية بذلك ما يتردد عن جنازة القصيدة، في زمن لا يستجيب للشعر، بفعل سيادة الرواية أو بفعل سيادة أنساق تواصلية، سمعية - بصرية. ص58
4. الشعر المغربي ومغامرة التحديث
لا يبدو الشعر المغربي الحديث بعيدا عن سيرورة المغامرة التي تعبر الخيط الإبداعي الناظم لتأمل الشعر ومساره ومآله وضرورته في هذا الكتاب. غير أن ما تجب الإشارة إليه أن خطاب محمد حول بنيس حول تجربة المغامرة وعوائق التحديث في الشعر المغربي الحديث تمثل جزء بنيويا من تجربة الشاعر في التأمل والقراءة والنقد والاكتشاف والممارسة. إن النص الذي كتبه محمد بنيس عن الانقطاع في والاستمرارية في القصيدة المغربية الحديثة وهو عنوان فرعي لعنوان أصلي: من بلاغة الأخلاق إلى مضايق الشعر، يختصر زمنا لا يقاس بمنطق الزمن عن صداقة خاصة وألفة مع ما أسس ويؤسس لتجربة عرفت الأزمة والانقطاع كما عرفت هيمنة النموذج التقليدي والاهتمام بالمشرق الشعري دون الانكباب على ما يمكن أن يؤسس الحداثة الشعرية المغربية في علاقاتها بحداثات أخرى شرقية وغربية ومتوسطية وآسيوية. وضعية يصعب تفسيرها ولا يصعب في آن واحد إذا ما اخذنا بعين الاعتبار سطوة النموذج الفقهي على مقومات الثقافة المغربية عموما:
«حالة غامضة كنت أعيشها آنذاك مع الشعر المغربي الحديث، ومع الشعر المغربي بكامله. ما كان يشغل المجتمع الأدبي هو إما النقاش في الشعر العربي الواصل من الشرق منشورا في مجلة أو ديوان، أو الكلام عن عدم اهتمام المشارقة بالمغاربة. وما لم أكن أفهمه هو لماذا لا يهتم المغاربة أنفسهم بشعرهم الحديث. أو لماذا يفضلون نسيان هذا الشعر وإلغاءه في آن.» ص 109
كل العوائق التي يمكن الوقوف عندها بين ثنايا هذا الكتاب سواء فيما يتعلق بالحداثة الشعرية في المغرب أو بما ميز الثقافة الشعرية العربية عامة في فترة من التاريخ الثقافي والسياسي العربي الحديث، تجعلنا نفهم فرضية الانقطاع التي ناقشها محمد بنيس في هذا النص وفي مشروعه النقدي والنظري على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الانصات الهادئ والعميق لما تقوله الثقافة المغربية الحديثة وما لا تقوله، وذلك رغم الجدل النقدي الموضوعي حينا والمتحامل أحيانا أخرى والذي رافق تجربة خطاب نظري ونقدي صارم وغير مألوف عن الشعر وعن الثقافة المغربية الحديثة التي تمزج في الآن نفسه بين عناصر القوة والهشاشة. خطاب محمد بنيس في هذه المرحلة من قراءة القصيدة المغربية أو بالأحرى نداؤه، شديد الوضوح، إنه حاجة الشعر المغربي الحديث لإعادة القراءة بمقومات وأدوات نظرية وثقافية أخرى تجيب عن الأسئلة المقلقة، التي ربما كانت مركزية الحضور في التجارب والممارسات الثقافية التي خاضها محمد بنيس من خلال الثقافة الجديدة ومن خلال تجربة البحث والتأطير داخل الجامعة. هي أسئلة أكثر من مقلقة لأنها تفكيكها حسم في تشخيص وفك الألغاز المحيطة بفرضية الانقطاع: كيف ينتج الشاعر المغربي قصيدته؟، متى ينتج؟، ما المسالك التي تقطعها القصيدة للوصول إلى قارئها؟ من قارئها؟
هي أسئلة لتجنب المسكوت عنه في الشعر المغربي وهو ما سماه بنيس ببلاغة الأخلاق، ومعها سؤال آخر مزعج: ما الذي يمنع التفكير في الشعر وتاريخيته أو يجعل التفكير لا ممكنا؟. يقول محمد بنيس:
«هذا الأساس في بلورة فرضية الانقطاع الشعري في المغرب الحديث أصبح يتطلب تتبعا في حركية الانقطاع. فرضية مندمجة في الزمن المعيش، وهو ما يغني الفرضية ونقيضها في آن. عدم التنازل صعب، لأنه مواجهة للمسكوت عنه ولما لا يقبل التفكير فيه. رهان شديد القسوة في حياة مضطربة في قيمها الثقافية، في أوضاعها العامة، وفي صورة الذات. كنت أعلم أن التصريح بمثل هذه الفرضية سيكون مفاجئا، وقد يكون تشهيرا بنفسي. فكيف تتحدث عما لا أحد يتحدث عنه؟ ومن غير اختراع بطولة كنت أتابع الملاحظة، بهدف معرفة موضوعية لما يؤدي إلى هذا الانقطاع.» 113
وفي هذا السياق كانت أولى الاستنتاجات بخصوص الحداثة المعطوبة في الشعر المغربي، خلاصات يمكن العودة إلى تفاصيلها في الكتابات النظرية الأكاديمية التي بنى بها بنيس مشروعه في الشعر وحول الشعر. يقول: ص117
«إذا لم تكن الحداثة العربية، في جميع أطوارها، تصدر عن وعي بالحداثة، كممارسة نصية ونظرية، ممارسة بالسلب، فهي تحققت كاستمرارية. أما الشعر المغربي الحديث فلم تتحقق له، قبل السبعينيات، الاستمرارية، مثلما لم يتوصل إلى الوعي بالحداثة كممارسة. بدلا من ذلك، هناك الانقطاع، من جيل إلى جيل، من فترة إلى فترة، من مرحلة أولى لشاعر بعينه إلى مرحلة موالية.»
حين نتحدث عن تجربة الكتابة حول الشعر عند محمد بنيس، تفرض نفسها بعمق شمولية التجربة، تجربة الشاعر المسكون بسؤال الكتابة وسؤال الحداثة الشعرية. كان محمد بنيس واضحا في كل كتاباته حول الموضوع، وفي مختلف نصوص هذا الكتاب، واضحا في بسط خلفية المسألة الكامنة في التمرد الشعري على القيم الثقافية السائدة مع وعي عميق بما يترتب عليها من توتر مع المؤسسة الثقافية المهيمنة:
«ما الذي وقع لهذا الشاب المغربي، المسكون بالجمالية الحديثة، بالخروج على القيم المتداولة، بالتمرد على المؤسسة الشعرية التقليدية، حتى أقطع، انقطع شعره؟ هنا كان «بيان الكتابة» افترق عن الخطاب السائد في مغرب السبعينيات. خطاب اليقين، الذي يتآلف فيه الشعر المعاصر مع غيره. في السؤال، وفي التصريح بالسؤال، تم الافتراق»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.