ولد تزفيتان تودوروف سنة 1939، بمدينة صوفيا البلغارية. سنة 1963 حصل على تأشيرة للقيام بزيارة إلى فرنسا، لكنه استقر بها نهائيا. قريب من رولان بارت وجيرار جنيت، حيث أصبح أحد رواد النقد النصي. بداية سنوات الثمانينيات، التفت تودوروف شيئا فشيئا نحو القضايا التاريخية والأخلاقية لتنصب اهتماماته على محاور : [* التوتاليتارية : (مواجهة المغالاة (1991). ذاكرة الخير، السعي إلى الشر (2000)). * العلاقة مع الآخر : (الحياة المشتركة (1995)). * التداخل الثقافي : (غزو أمريكا (1982). الخوف من الأجانب (2008)). * تاريخ النزعة الإنسانية والأنوار : (نحن والآخرين (1989)، الحديقة اللامكتملة (1998). فاز، تودوروف سنة 2008 بجائزة : [Prince des Asturies]، تقديرا لمجمل لبنات مشروعه الذي ترجمت أطروحاته إلى أكثر من خمس وعشرين لغة. أما، آخر ما كشف عنه قلم تودوروف، فقد جاء في غضون السنة الجارية (2009)، تحت عنوان: [la signature Humaine]. كتاب، جمع بين دفتيه، أهم الدراسات التي أنجزها بين سنوات 1983 و 2008، يتحدث تودوروف هنا بلسان رموز كبيرة في ساحة الفن والفكر بناء على الحدس التالي: إن الإنساني، لا يؤسس ما هو ذو دلالة إلا انطلاقا من تاريخه الخاص. قطعا، هو سيميولوجي، وليس «كليا بالفيلسوف»، فقد تميز تودوروف دائما بمواهبه التأويلية : وظف مجمل ذكائه في خدمة كتابات الآخرين. فكره متمرد، لأنه قائم على الارتياب، تطوراته النظرية من السيميوطيقا إلى فلسفة النزعة الإنسانية واستطراداته حول الشر ثم خطاباته المرتجلة عن الفن والحب، وكذا ولاءاته وصراعاته : كل ذلك أكسبه صوتا فريدا بين مَشَاهد الفكر الأوروبي. يمتزج عند تودوروف التواضع الحقيقي بطموح لا حد له. يريد تناول الماهية الإنسانية، اقتناعا منه بأن الحكمة الإنسانية تتوقف على هاته المعرفة، وقد بلغ من العمر سبعين سنة، بوسع تودوروف التوقف عن العمل والتفرغ للاعتناء بحديقته، لكنه فضل باستمرار الانخراط في مشاريع جديدة، محاضرات، أبحاث، مُؤلفات. يقول : (يبدو لي أنه يمكننا الذهاب أبعد في فهم الكائنات الإنسانية، مادام أن كثيرا من الأمور ليست واضحة بعد) . حتى أقصى الحدود، قرر فحص أوضاع وتصدعات وكذا تحققات الكائنات البشرية التي هي نحن. فيما يلي نص لقاء أجري معه أخيرا . أية دلالة لكتابكم الجديد : [La signature Humaine] ؟ فكرت سابقا في هاته العبارة : الإمضاء البشري، وأنا أصادفها في كتاب ل (جيرمان تيليون). أثارتني، لأنها تختزل على نحو ما، مساري الذاتي، وجدت فيها (الإمضاء) نقطة انطلاقي ثم إشارة انتهاء «الكائن الإنساني» ! حينما شرعت في إنجاز أبحاثي سنوات 1960، مثلت دراسة العلامات عبر كل تنوعها إطارا عاما. توخيت سبر أوجهها من خلال نظرية للغة، الأدب والفنون. بعدها، حاولت تبين ما يتوارى خلف العلامات. أحسست، بانجذاب لفهم سلوكات البشر كما هي في ذاتها، وليس مجرد الاكتفاء بحالات تعبيرهم. في الآن ذاته، وجدت نفسي ضمن تيار الأنسية، أو التقليد الفلسفي القائم على نزعة إنسانية. بالتالي، تساءلت دوما عن طبيعة الاختيارات الإنسانية : السياسية، الأخلاقية والاجتماعية. لا أتوفر على تعريف مطلق للإنسان، لأنني تأملت بالأحرى المواقف التي يتبناها البشر في مواجهة تحدياتهم الوجودية. في هذا العمل، رسمتم سلسلة من الصور ل : جيرمان تيليون، ريمون آرون، إدوارد سعيد، ميخائيل باختين، إلخ. هل يمكن لحياة الكُتَّاب أن تضيء أعمالهم؟ أتذكر، حينما كنت طالبا تلك الصيغة الدوغماطيقية : ينبغي علينا معرفة «الرجل» و»عمله». كما، أن أساتذتنا سلموا بعلاقة سببية بين المصير الفردي لكاتب ما ثم مضمون إنتاجه، لكن أفراد جيلي، رفضوا هذه العقيدة. و في سنوات 1960، اعتبرنا أن حياة كاتب ما، كيفما هي ، تقدم قليلا من المساعدة لتوجيه القراءة. لقد كنا جميعا، مثل مارسيل بروست «ضد سانت بوف». أما، مع المنظور البنيوي، فقد اتجه الاهتمام إلى القوانين التي تحكم الحكايا والمعاني المجازية للقصيدة، بالتالي لا توجد من أهمية للإحالة على السيرة الذاتية. اليوم، لا أظن في كل لحظة تفسير الحياة للعمل، بل «الحياة» بدورها عمل. كما، أن حياتنا ليست إلا سلسلة آثار، بعضها شفوي والآخر سلوكي، والتفاعل بينهما دال جدا. بأي طريقة ؟ نقف مع (جيرمان تيليون) على مثال حاسم. فقد قامت بأبحاث إثنولوجية سنوات 1930، ثم انتقلت إلى الميدان في الجزائر. بعد الهزيمة، انضمت إلى المقاومة، لكنها اعتُقلت وسُجنت ثم أبعدت إلى معسكر للاحتجاز. حين رجوعها، طُلب منها تهييء تقرير عن جماعة «الشاوية» التي كانت موضوع دراستها. غير أنها أدركت عدم إمكانية تكرار أطروحاتها لفترة ما قبل الحرب، ولم تتوصل إلى أية معلومة جديدة عن تلك الإتنية! الشيء الوحيد الذي تغير هو السيدة تيليون ذاتها. حياتها، ب (رافنسبروك Ravensbrück) علمتها تفسيرا تعدديا للتصرفات الإنسانية : تأثيرات الجوع، مكانة الشرف، معنى التضامن. إذن هويتها امتزجت باشتغالها العلمي. نفس الأمر، يمتد إلى العلوم الإنسانية الأخرى. ما يجعل منك مؤرخا كبيرا وسوسيولوجيا متميزا أو فضلا عن ذلك كاتبا عظيما، ليس الاكتفاء بتجميع الوقائع، بل موضعتها في إطار علاقة تضفي عليها دلالة ما. عمل، تنجزه الذات بمساعدة جهاز ذهني يشكل ثمرة وجودنا ذاته. كي ندرك العمل، لا ينبغي أن نضع بين قوسين هوية العالِم أو الكاتب. ذلك، ما سعيت إليه في «لوحاتي». بناء على حياتكم الخاصة، ما الذي قادكم إلى إعادة توجيه فكركم ؟ تبرز في المقام الأول تجربة «الأبُوّة»، كأفضل تأطير للسياق الذي أتواجد فيه. حين ولادة ابني الأول سنة 1974، انتابتني أحاسيس جديدة، اتصفت بحدتها الانقلابية، كما انطوت أيضا على شعور بالمسؤولية. في إطار حياة شخص ما، ينعدم لديه كل إرساء اجتماعي، ويعيش خاصة بدون أطفال، يبقى احتمال تأمل العمل مثلا الأطروحة التي نقاربها كشيء قائم في ذاته . إذا أحسستم دوما بنداء طفلكم، سيصبح من الصعب الاحتفاظ بحد فاصل بين حياتكم وفكركم. لقد، سعدت وأنا أتجاوز مرحلة الاحتجاز داخل عالم منفصل في أفق البحث عن علاقة ذات مغزى بين ما كنت أعيشه ثم ما اشتغلت عليه بغير توظيف للسيرة الذاتية. هذا، قادني إلى الاهتمام أكثر بالعالم الذي يحيطني وليس فقط المعرفة المجردة. بين صفحات مؤلفكم الأخير، تهتمون بمبدعين انطلاقا من شبح اختبارات مؤلمة : المرض، الحزن، معسكرات الاعتقال...، هل ينبغي على المرء أن يعاني كي يفكر ؟ إنه سؤال مرعب، ولا أمتلك جرأة الإجابة عنه. ربما، لأني لم أكابد إلا قليلا في حياتي...، مع ذلك ألاحظ وجود صلة مزعجة بين الانكسار والمعاناة، ثم القدرة على الذهاب بعيدا جدا في معرفة الإنسان، كما لو أن السعادة تسد الطريق أمام الفهم الأكثر توقدا... . قد تخطئ نظريتي، فأكون مطمئنا، أو العكس صحيح ،وبالتالي أنا مفكر تافه ! ربما، أهدف إلى تعويض غياب هذه التجربة المؤلمة على مستوى مسار وجودي الذاتي، وذلك بالافتتان بوجود الآخرين ! وبالضبط، الأفراد الذين تميزت حياتهم بالانكسار والجرح بل والتراجيديا. لا يستهويني، الأبطال ولا «الأشرار»، أفضل، فهم كائنات قابلة للوقوع في الخطأ، تشبه حياتهم «حديقة غير مكتملة» كما جاء على لسان مونتين. لأنهم في ظني، يجسدون الوضع الإنساني، أكثر من غيرهم. لقد كتبتم الآتي : (كل مفكر هو بمثابة مغترب عن معطيات ولادته) . أنتم بدوركم، عشتم المنفى بعد مغادرتكم بلغاريا نحو فرنسا. كيف لواقعة كهاته أن تمكن من تأمل العالم ؟ أعتبر نفسي «شخصا مغتربا»، ليس فقط لأنني غيرت البلد، لكن في إطار سعيي بالتأكيد، إلى رؤية اغترابية للعالم. بهذا المعنى، يختلف المفكر عن المناضل. لا يتحدد دوره في الاهتداء لسيرورة تنتهي عند غاية، لكن أن يفهم العالم بطريقة أفضل، حينما ينتشله من البداهات. يرفض المنفيُّ اقتسام العادات، يقف مستغربا أمام ما يمارسه بسهولة مواطنوه الجدد، فيؤسس مسافة بين ما هو في ذاته ثم ما يحيط بنا باعتباره ملائما للفكر. لكن، ليس ضروريا !. كثيرة هي الشخصيات التي عانت من هذا الانفصال، دون أن تختبر واقعيا تجربة الاغتراب الفيزيقي. نقول فقط، انه حينما ننتقل من بلد إلى آخر بغير مأساة، يسهل التخلص من التمزق كأساس للعمل الذهني والذي يتحقق بشكل سيء حينما يحدث تداخل مع الفاعلين الذين ندرسهم. طبيعة الصلة التي تحافظون عليها مع الالتزام السياسي ؟ لقد ترعرعت في بلغاريا سنوات ما بعد الحرب، حيث ترفض التوتاليتارية السائدة آنذاك داخل الحزب الشيوعي مبدأ الالتزام، ولا تبقي إلا على طريقتين أساسيتين : إما أن ترتقي داخل الحزب الشيوعي، أو تنسحب كليا من الحياة العمومية. مثل كثير من المواطنين البلغاريين، اخترت المسلك الثاني، فأقمت قطيعة جذرية بيني ومن يدبرون شؤون البلد. هكذا، تمتعت بنوع من التلقيح أعطاني مناعة ضد كل مصلحة سياسية. لكنني، تغيرت ابتداء من سنة 1973، وهي فترة حصولي على الجنسية الفرنسية، فبدأ اهتمامي يتوجه تدريجيا صوب موضوعات مشبعة بمضامين أخلاقية وسياسية : الالتقاء مع الآخرين، مصادر العنف، تجربة المعتقلات، تجاوزات الذاكرة، في هذا السياق يتموضع كتابي الصغير عن حرب العراق ! لا يعني الأمر، أني صرت مناضلا.فأنا لا أتوفر على بطاقة أي حزب ونادرا ما أوقع على عرائض. لكن، حدث أن اتخذت موقفا. مثلا، تدخلت لحظة الإعلان عن مشروع وزارة الهوية الوطنية، بدت لي الفكرة في الآن ذاته غير منطقية على المستوى الأنثروبولوجي ثم غير ناضجة سياسيا. سياسيا، يتم تعريفكم كرجل معتدل، قد نعتدل بإفراط ؟ أهم نموذج يقدمه التاريخ الحديث، بخصوص «الاعتدال» الزائد، يحيلنا على مؤتمر ميونيخ سنة 1938، حينما توخت القوى الغربية مداهنة العدوان النازي ومن ثمة الاستسلام. لكن، هل الأمر يتعلق بموقف معتدل ؟ لقد كانت بالأحرى رؤية غير متبصرة بالعواقب. عدم اللجوء إلى العنف، يصبح جائزا حينما ينعدم الخطر. لكن سنة 1938، تجلى التهديد الهتليري بشكل واضح لكل من أراد فتح أعينه. لقد اكتشفت نفسي، داخل بنية للاعتدال. تعلمنا مع مونتسكيو، انتفاء الشرعية عن كل سلطة تفتقد للضوابط. لا يعني الاعتدال الليونة، لكن تقييدا لسلطة من قبل سلطة ثانية مضادة. إنه تنظيم للفضاء العمومي، حيث يؤخذ في الحسبان التعدد الإنساني. لا نستسلم للعنف، بل يجب أن يقع العكس. من خلال الفكر ذاته، أدافع عن ما اصطلح عليه بالتحضُّر أي قدرتنا على استيعاب اختلافات الآخرين، دون أن نذمها بالضرورة. هل أنا معتدل جدا؟ يبقى الحكم لكم. في كتابكم، عدتم مرات عديدة إلى مسألة الشر. وبحسبكم، فإن الشر متجذر في الطبيعة البشرية. إذا كنا جميعا أشرارا، كيف نقاومه ؟ لا أعتقد، بوجود «شر» كوني وراسخ. صحيح، أننا نعثر على مختلف تمظهراته في كل حقبة تاريخية. أساسه، أن كل واحد في حاجة للآخرين، لكنهم يرفضون منحه تلقائيا ما يريده. نمط للتمركز الذاتي، يصير خاصة خطيرا حينما يأخذ بعدا جماعيا. فأقبح الجرائم، ارتُكبت بدواعي حماية «ذواتنا» في مواجهة تهديد ينبعث من مكان آخر. هذه المانوية، التي تخلط بين «النحن والآخرين»، «الصديق والعدو» أو الأسوأ «الخير والشر»تعتبر مميتة للجسد. بكل ما أستطيعه من قوتي رغم ضعفها أسعى إلى مقاومة الشر. لذا، أتملى تمظهراته وكيفيات التصدي لها، وقد حكيت عن ذلك بين طيات أعمالي. وفق هذه الدلالة، بقيت قريبا من أفكار الأنوار : أقاوم الشر بواسطة المعرفة. ما هي النزعة الإنسانية ؟ تشير النزعة الإنسانية إلى حركة فلسفية تطورت في أوروبا منذ عصر النهضة. اليوم، يُوظف المفهوم في غير ما وضع له : إنه، لا يحدد غالبا غير صيغة لعشق الإنسانية، لكن بطريقة ساذجة شيئا ما.( هنا يرفض تزفيتان تودوروف هذه الكاريكاتورية، مدافعا عن نزعة إنسانية تتخلص من كل رؤية مثالية، حيث تبنى موقفا قويا جدا، تأسس تاريخيا بناء على ثلاثة اختيارات أنثروبولوجية وأخلاقية كبرى : * الكونية : كل الكائنات الإنسانية، تنتمي إلى ذات النوع، بحيث تنعم بنفس الكرامة. * الحرية الإنسانية : إن الحتمية بيولوجيا، تاريخيا، اجتماعيا، نفسيا ليست قط كلية. لا يعتبر الإنسان، محض ألعوبة في يد قوى تتجاوزه وتحدد مصيره، ما دام يملك دائما وسيلة أن «يمتثل أو يقاوم» (جان جاك روسو). * الكائن الإنساني، قيمة عليا: تشكل سعادة الكائنات البشرية أقصى أهداف الحياة المجتمعية، بناء عليه، يتميز فكر النزعة الإنسانية عن المشاريع الطوباوية التي تبتغي مستقبلا مُشرقا. تتعارض، أيضا مع النظريات الدينية الملزمة لكل سلوك إنساني بضرورة سعيه إلى خدمة تتصل بالله.) 1 للإطلاع على الحوار في نصه الأصلي، يمكن القارئ الرجوع إلى : Héloïse Lhérété/Catherine Halpern : IN Sciences Humaines Décembre 2009, n? 210, PP : 26-29-. ملحوظة؛اضطررنا الى نشر مقتطف فقط من المقدمة بسبب طولها..