ترجمة وتقديم: مصطفى النحال بمبادرة من حركة «ضمير» وبشراكة مع مؤسسة مسجد الحسن الثاني بالدارالبيضاء، ألقى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسيّ إدغار موران، العضو الشرفي بالحركة، محاضرة بمدينة الدارالبيضاء، يوم الجمعة 28 مارس 2014 بقاعة المحاضرات بالمكتبة الوسائطية للمؤسسة. في هذه المحاضرة القيّمة، التي تنفرد «الاتحاد الاشتراكي» بترجمتها كاملة، استعاد موران تساؤلاته عن كيفيّة أن نتجاوز التهميش والإقصاء والعنف والفوضى التي تلفّ عالمنا المعاصر؟ كيف يمكن أن تجاوز كل هذه التناقضات التي تزداد يوما بعد يوم ما بين «الخير» و»الشر»؟ وكيف يمكن بالخصوص أن نأتمن هذا المستقبل الذي يتجه نحو اللايقين والعَماء المطلق؟ يوضّح موران بأنّ الهوية الإنسانية هوية قائمة على الكثرة، كثرة هي من صلب الوجود الإنساني ذاته، كثرة تتجلى في كون الإنسان هو كائن صانع و كائن اقتصادي وكائن المعرفة وكائن الانفعالات والرغبة، وهو الكائن الخير كما الكائن القادر على الإتيان بأعتى صنوف الشر. من ثمّ لا يمكن مقاربة الإنسان من زاوية الوحدة، ولا تعيين هويته كهوية بسيطة. إن الهوية الإنسانية هي هوية مركبة. وهذه الهوية المركبة، والتي من مهمة الفكر المركب الكشف عنها، هي نتاج لترابط أبعاد ثلاثة هي التي تشكل حقيقة الوجود الإنساني: البعد البيولوجي والبعد الاجتماعي والبعد الثقافي. أنا سعيد بوجودي هنا بينكم، وبدعوتي الكريمة من طرف جمعية «ضمير»، التي لم أتردّد في تلبية دعوتها، ليس فقط بحكم الصداقة، ولكن كذلك لكوْن كلمة »ضمير» ، أي «وعي»، كانتْ بالنسبة لي، وماتزال، واحدة من أهمّ الكلمات وأجمل الكلمات التي يمكن أن تتجلّى عند الكائن الإنساني. ينبغي القول بأن الوعي هي النتيجة النهائية والأثمن للروح الإنسانية، وللشرط الإنساني.فالوعي ليس هو فقط المعرفة والمعارف. نعرف أن الحيوانات تعرف طعامها، مثلما نعرف أن بنْيتنا الجسمانية هي التي تحرك روحنا. الوعي هو شيء انعكاسي يعود باستمرار إلينا، وهو شيء جاء في وقت جد متأخر، وهو هَشّ للغاية.إن ضميرنا هو بمثابة تلك الشعلة الضعيفة التي تنبثق عن الشمعة، والتي يُمكن أنْ تطفئها ريحٌ سَيّئة كالغضب والجموح والاحتكاك والهوى سرعان ما نفقد وعينا. ثم إنه لا يكفي القول بأننا واعون لكي نعرف أنّ لنا وعياً شقيّاً.المسألة في غاية الصعوبة. هناك شكلان من الوعي. الوعي الأخلاقي الذي يكتسي أهمية بالغة، وثانياً الوعي الفكري. والوَعْيان معاً مترابطان، لأنه إذا كنتَ ترغب في فعل الخير، وتستعمل وسائل سيّئة، فإنك تقوم بالشرّ، من ثمّ يتعين استحضار الوعي الثقافي الفكري من أجل الوعي الأخلاقي لكي يكون فعّالاً. الوعي يأتي متأخراً عن الحدث. نعرف ما حدث فجأة من مظاهرات في كييف، نعلم بأمور تحدث ولا نعي بها. يجب توفر عناصر معلوماتية كثيرة ومعارف ونقاشات من أجل محاولة الفهم. أكرانيا. تاريخها، بنيتها المركّبة إلخ? والشيء نفسه يصدق على أحداث الهجوم على المركز التجاري العالمي بنيويورك، فقد تطلب الوعي بها، سنوات، وربما لم نصل إلى الوعي النهائي لها. وإذن، فإننا نحتاج أكثر فأكثر إلى الوعي، لأننا نعيش في عالم نحن معرّضون فيه للخطأ والوهم. المعرفة ليست دائماً موثوقا في صدقيتها. ومن ثمّ، فإنّ الوعي هو الثروة التي ينبغي صيانتها وجعلها دائماً يقظة ومتأهبة. إن ما أثارني في اسم «ضمير» هو هذه الإرادة التي تشتغل في عالم غير واضح المعالم، عالم من الصّعب فهمه، إرادة التوفر على وعي. ضمير صائب حول ما يجري حولنا، وعي جيّد يمكن أن يحقق الخير للجميع. أنتقل الآن للحديث عن كلمة »إنسانية»، هذه الكلمة نستعملها غالباً، ونعرف عموماً ماذا تعني. إنها تعني أنْ يكون الإنسان لطيفاً تجاه الآخرين، ينبغي احترامهم، مهما كان أصلهم، ومهما كانت جنسيّتهم وجنسهم وديانتهم وسنّهم. الإنسانية فضيلة ذات طابع عامّ، لأنّ الكائنات البشرية جدّ مختلفة وجدّ متنوّعة، وسوف أعود إلى التنوع البشري والتنوّع الثقافي، لأنه يكتسي أولوية كبيرة بالنسبة للإنسانية. الإنسانية واحدة كما نحن جميعاً. نحن جميعاً متشابهون كبشر. لنا نفس الموروث الجينيّ، نفس البنْية الجسمانية، نفسُ الصورة البشرية، نفس القُدرة على العواطف والانفعالات والحب، غير أنّ كل وحد منا يختلف عن الآخر بالمزاج والوجه، والثقافات بدورها كلها مختلفة عن بعضها البعض. هذه الوحدة داخل التنوع هامّة، فالتنوع هو كنْز الوحدة البشرية، والوحدة هي كنز التنوّع البشري. البعد الإنساني الحقيقي هو الذي ينبغي أن يفهم بأن الآخرين همْ في الآن ذاته مشابهون لنا ومختلفون عنا. ليس فقط مشابهون معناه أننا سَنُبعد المختلفين، ولكن معناه أنه حتى وهم مختلفون عنا في الثقافة، فإن لهم نفس القدرة على الانفعالية، والقدرة على المعاناة والألم والسعادة والحبّ مثلنا نحن تماما، وهذا أمْرٌ في غاية الأهمّيّة. والسؤال المطروح هو: ما هو البعد الإنساني؟ يكفي أنْ نلقي نظرة عابرة على برامجنا الدّراسية ليتبيّن بأنها لا تتحدّث عن البعد الإنساني، ولا عن التنوّع. نحن نتوفّر على العلوم الإنسانية، غير أنّ هذه العلوم مجزّأة: علم النفس، علم الاجتماع، الاقتصاد، التاريخ. وعندما نذهب إلى الجانب المتعلق بعلم النفس، فإننا لا نجد سوى حديث عن الفرد بينما يتمّ إهمال المجتمع. وعندما تذهب إلى موادّ علم الاجتماع، فإنك تجد حديثا عن البنيات الاجتماعيّة، بينما الأفراد مثلهم مثل الدمى والكزاكيز داخل المجتمع. الملاحظ، إذنْ، أنّ العلوم الاجتماعية تقطّع وتجزّئ الواقع الإنساني دونما الانتباه إلى ذلك. وحتى فيما يهمّ الاقتصاد، فإنهمْ يعرضون أرقاما هامة، وهو أمر لا يُستهان به، غير أنّ الحساب لا يمكنه أنْ يعرف ما معنى الحبّ والسعادة والسلام والمعاناة. وإذن فإنّ العلوم الاجتماعية غير قابلة للتقسيم والتجزئ. إنّ الكائن البشري كائن بيولوجيّ، ومن ثمّ فنحنُ عبارة عن حيوانات تنتمي إلى فصيلة خاصّة. وإذا ما فكّرنا في أنّ الإنسان هو، في الوقت ذاته، فرد وجماعة، فإنه لنْ نكتفي بتحديدٍ واحدٍ وتعريفٍ واحدٍ ووحيدٍ للنوع البشري، بقدْر ما سنلفي أنفسنا أمام تعريف ثلاثيّ، تعريف ثلاثيّ الأبعاد. ستقولون لي: وإذن، فإنّ ثلثنا فرد، وثلثاً مجتمع، وثلثاً بيولوجي. كلاّ، فنحن أفراد مائة بالمائة، ومجتمع مائة بالمائة، وبيولوجيا مائة بالمائة. لماذا. لأنه من الزاوية البيولوجيّة، فنحن نتاج إلى عملية إعادة الإنتاج، فقد رأينا النور بناءً على لقاء تمّ ما بين حيوان منويّ وبين بويْضة، وحين نبلغُ سنّ الرّشد، فإن عملية إعادة الإنتاج تحتاج إلينا كأفراد من أجل المواصلة. نحن منتوجات منْتِجة، داخل دورة تكون فيها المنتوجات في حاجة إلى إعادة إنتاج نفسها، نحن أفراد غير أن النوع الحيواني موجود فينا، بمعنى أن موّرثاتنا موجودة في كل خلية من خلايانا الجسمانية، بمعنى أنّ دماغي، وأنا أتحدث الآن، تتحكم فيه عمليات بيولوجية خاصة بالدماغ. فكلّ شيء بيولوجيّ، مثلما أنّ كل شيء فرديّ. ما معنى هذا الكلام. معناه أنّ الفرد يوجد داخل النوع البشري، تماماً كما أنّ النوع البشري يوجد داخل الفرْد. والشيء نفسه يصدق على المجتمع. نعرف أنّ أرسطو هو الذي اعتبر الإنسان حيوانا سياسيّا، أي اجتماعيا ومدنيا. فكلمة politique، التي استعملها، تعني أنه ينتمي إلى المدينة «البُّوليسْ» باليونانية. نحنُ جزْء صغير من المجتمع، وهذا المجتمع لا وجود له إلا إذا تفاعل داخله جميع أطراف المجتمع فيما بينهم، في علاقتهم التواصلية الدائمة. والمجتمع لا يعيش إلا بهؤلاء الأفراد الذين يتفاعلون فيما بينهم. لأنه إذا حصل وفجّرتْ قنبلة ذرّيّة مجتمعنا، فستبقى الآثار والساحات العمومية، ولنْ يبقى ثمّة لا مجتمع ولا أفراد ولا حياة. وإذن، فإنّ المجتمع هو نتاج الأفراد، لكنْ هو نفسه، بمميزاته ولغته وثقافته، يؤثر على الأفراد. فلسْنا فقط داخل المجتمع، بل إن المجتمع نفسه يوجد فينا. فأنْ يكون المرءُ إنسانيا، فذلك أمر شديدُ الخصوصية. وسوف أفْحص الآن بسرعة هذه الاتجاهات الثلاثة: الأولى بيولوجيّة، والثانية اجتماعية، والثالثة فرْدية متّصلة بالإنسان الفرد. 1. على المستوى البيولوجيّ، كنا نعتقد بأن النوع البشري ظهر للوجود فجأة لا ندري كيف، في ضرب من المعجزة، بينما نعلم اليوم، مع الاكتشافات حول ما قبل التاريخ، التي انطلقت منذ 1960، بدءا من ليكي [ مارى ليكى Mary Leakey) هي عالمة بقايا الأحياء القديمة، وعالمة آثار وأنثروبولوجيا بريطانية، ركزت في أبحاثها على ما قبل التاريخ في أفريقيا الشرقية. وهى التي اكتشفت أول جمجمة متحجرة لجنس البروكونسول أو البرقنص، وهو جنس من أجناس القردة المنقرضة التي يعتقد حالياً أنها من أسلاف البشر. كما اكتشفت أيضاً بقايا هامة للبشري الواقف (هومو ايريكتوس)، وكذلك القرود شبه البشرية الجنوبية ( و منهم جمجمة زنج أو زينجانثروباس المتينة أوْ الزّنجي الشرق إفريقي (المترجم)]، إلى آخر اكتشافات ميشال بروني، الأستاذ بالكوليج دو فرانسْ، الذي اكتشف «تومايْ»، وهي جمجمة كاملة أو أجزاء من الفك السفلي، يُعتقَد أنها تعود لذَكَر، وتبلغ من العمر ما بين ستة وسبعة ملايين سنة، مما يجعلها الأقدم بين الأحافير البشرية المكتشَفة حتى الآن. وتبرز أهمية هذا الاكتشاف في أنه يُظهِر جنسًا جديدًا من «البشريات» أو أجداد البشر، سُمِّيَ («إنسان التشاد السواحلي»)، نسبة إلى المنطقة التي اكتُشِف فيها؛ وهو جنس لم يكن معروفًا، ولا يشبه الأجناس المُكتَشفة حتى الآن، ويعيد إنعاش فكرة «الحلقة المفقودة» بين البشر والقرود. ويدل الاكتشاف، من حيث موقعُه الجغرافي في أفريقيا الوسطى وعمره، على وقوع التبايُن أو الانفصال بين الجنس البشري وجنس القرود، الشامبّانزي والغوريلا والبابوان، منذ زمن بعيد. ومع انفصالنا عنها، حافظنا على بعض الخصائص والمميّزات من القرود والثدييات. لنا عواطف الانجذاب والارتباط مثلما لنا عواطف الإبعاد والكراهية. نحن كائنات ثديية وفقَرية وحيوانية، كما أننا كائنات مكونة من خلايا، ونحن ورثة الخلايا الأولى التي ظهرت في الكوْن وعلى الأرض قبل 3 أو 4 ملايير سنة. كما أنّ هناك اكتشافاً آخر يُدخلنا في العالم وفي الطبيعة كذلك، هو اكتشاف واطسنْ وكْريكْ، منذ خمسينيات القرن الماضي، للخلية الحيّة وللمخزون الوراثي. الخليّة تتكون من مواد فيزيائية وبيولوجية موجودة في الطبيعة. بعبارة أخرى، لا وُجُود لمادة حية خاصة ومعزولة، معنى ذلك أن الجُزيئات التي تشكّل وجودنا هي بدورها تنحدر من عملية اندماج وصهر، وأنّ ذرات الكاربون تنحدر من كوكب سابق على كوكبنا الأرضيّ، وأنّ الجُسَيْمات التي تكوّن الذّرات تعود إلى الأزْمنة الأولى من تشكّل الكوْن. كلّ هذا معناه أننا في العمق أبناء الكوْن، وأبناء الكوكب الأرضيّ، وأننا نحمل بشكل غير واعيّ بطبيعة الحال، هذه الملامح. وهذا معناه أننا بدأنا الوعي، مع ما يسمّى الوعي الإيكولوجيّ، بأننا كيانات غير منفصلة عن الطبيعة، ونحن لسنا في حاجة إليها فقط، بلْ إنّ هذه الحاجة هي مشكلٌ حيويّ، فإذا لم نتناول الطعام فإننا سوف نموت. وإذنْ يتعين علينا الوعي بعلاقتنا، وبكل ما نقوم به. فنحن ممثّلون للطبيعة بقدر ما نحن مختلفون عنها. أضفْ إلى ذلك أن تكوين خلايانا يحيلنا على الفترة التي تكونت فيها الذّراتُ، بل ربما أرْجعنا إلى بداية الكون، عندما ظهرت الجُزَيْئاتُ. كل قصة الكون هذه هي ماثلة فينا، فنحن أطفال الكون، أطفال الأرض، وأطفال الحياة، لكن في نفس الوقت، نحن غرباء عن الكون والأرض والحياة بالثقافة وبالمعرفة اللتين تميزاننا عنها. فنحنُ نتوفّر على هوّيّة مزْدوجة: هوّيّة بيولوجية، هوية مادية، كما نتوفّر على هوية نفسية، هوية روحية وإنسانية. لكن ما ينبغي ملاحظته، هو أنه عندما تشكلت الحياة فوق الأرض عن طريق تجميع لا ندري كيف تمّّ، عن طريق توليف لجزئيات زذرّات، تمّ اكتساب بعد تركيبيّ وخصائص لم تكن تتوفر عليها الجزيئات، التي هي مادية بحتة، أبرزها القدرة على إعادة التشكيل، وإعادة الإنتاج الذاتي، والقدرة على التنظيم، والقدرة المعرفيّة الخ. بعبارة أخرى، كلما كان عندنا نظام منظّم، انطلاقا من عناصر معينة، كلما اكتسب هذا النظام خصائص ومميزات لا تتوفر عليها العناصر التكوينية والتشكيلية. وخاصيّة الاكتساب هامّة لمعرفة أنّه في لحظة معيّنة، يمكن لنظام أكثر تعقيدا من نظامنا أنْ يفرز خصائص غير موجودة من قبل. 2. أنتقل الآن إلى المظهر الاجتماعي للفرد الإنساني. هناك مجتمعات عند الكائنات الثديية، وعنْد القردة. الإنسان، خلال مرحلة «التأنْسُن» ما قبل التاريخ، كان دائما يعيش داخل مجتمع، في المجتمعات التي كانت موجودة وهي مجتمعات صغيرة تمّ هدْمها، مجتمعات «القناصون- الجمّاعون»: ومعناه أنّ الرجل يصيد والمرأة تجمع. كان هناك نوع من التكامل والانسجام. ومن هنا فإنّ جوهرَ المجتمع الإنسانيّ هو أنْ يكون له مزاج مزدوج: مزاج العيْش مع الجماعة، ومزاج صراعيّ. المزاج الأوّل مصدره أنّ هذه المجتمعات القديمة كان أبناؤها أحفاداً لجدّ واحد مشترك، ومن هنا كانوا متآخين، كانوا يشعرون بالتضامن إزاء العالم الخارجي، إزاء الصيد وإزاء أعدائهم. أما في الداخل، فيمكن أن تحدث احتكاكات وصراعات ودوافع حسد. ولْلننْتقل الآن إلى مجتمعات أخرى فيما بعد هي المجتمعات-الأمّة، الدولة الوطنية التي لا يتعدى ظهورها بضعة قرون، بالمقارنة مع المدينة، بالمقارنة مع الإمبراطورية. الأمة مجتمع توجد فيه نزاعات وصراعات متنوعة، غير أنّ هناك شعورا بالتضامن داخل الأمّة، هناك صراعات ونزاعات متعددة ومتنوعة، غير أنّ هناك بالمقابل إحساسا وشعورا بالجماعة حين يتهدد أفرادها خطر مشترك، حين يُهاجم الوطن، من هنا أهمية كلمة «وطن»، وهي كلمة ذات طبيعة مزدوجة: تبدأ بصورة أبويّة، مذكّر، وتنتهي مؤنّثة. نتوفر في كلمة «وطن» على الشعور بالسلطة والمشروعية الأبوية، وعلى الإحساس بالأخوّة لأنا أبناء أمّ مشتركة، هي الأمّ-الوطن. من هنا نجد مجتمعات إنسانيّة تتوفر على هذيْن القطبين المرتبطين بسمة أساسية لدى الفرد الإنساني. ومعنى ذلك أنه داخل كلّ فرد sujet، وهذه الكلمة معناها أن تقول «أنا»، هناك الوجود الذاتي. فعندما أقول «أنا» فذلك يعني أنني أتموضع في قلب العالم، وأوجد في وضعية التمركز حول الذات. بعبارة أخرى، لا يتعلق الأمر هنا بالأنانية، بقدر ما يتعلق بحاجتي إلى الدفاع عن النفس، وحاجتي إلى المأكل والحماية. حاجياتٌ شخصيةٌ من أجل إنقاذ حياتي والدفاع عنها. ولكن إذا اقتصر الأمر فقط على التمركز حول الذات، سيتحول الأمر إلى أنانيات، وهذا ما يفسّر أنه منذ الولادة، ينتظر المولود تلك النظرة الحنون التي تلقيها الأمّ عليه، ينتظر الحدْب واللمس والهدهدة. يحتاج إلى الجماعة التي تبعث فيه الحرارة العائلية. بعبارة أوضح، فإلى جانب مبدأ «الأنا»، «الذات»، هناك مبدأ «النحن». وإذا كان الأشخاص الأنانيّون يضحّون بمبدأ «النحن» لفائدة «الأنا»، فإنّ الأشخاص الغيْريّين يضحون بأناهم لفائدة «النحن»، الآخرين. وهم قادرون على التضحيّة بحياتهم من أجل أوطانهم، وعائلاتهم، من أجل إنقاذ أبنائهم. في الغرب وأوربا، كما في البلدان السائرة في طريق التمغرب، هناك نزوع نحو إضعاف مبدأ «النحن» لفائدة أنانية «الأنا»، وهناك تدهور مبدأ التضامن. من الأهمية بمكان أن يكون في الوشيجة الاجتماعيّة إمكانية الاستقلالية الفردية، وكذلك إمكانية الاندماج في جماعة أخوية. وبطبيعة الحال فإن هذا يختلف ويتفاوت بحسب الحضارات، فنحن نعيش في عصر له خصوصية خاصّة جدّا، ولا نعيش فقط هذا المشكل، وإنما في علاقتنا بالمجتمع، من المؤكد أن للفرد، باعتباره عضوا في المجتمع، واجبات تجاه الجماعة، غير أنّ هذا الواجب ليس له معنى إلاّ إذا اعترفنا لهذا الفرد بحقوق. وهذه هي الديمقراطية. ما هي الديمقراطيّة ، الديمقراطية هي أن تكون لي حقوق، وإذن لي واجبات، واجبات النظر والملاحظة والنقد. ولكن أيضا لي واجب أن أكون متضامنا مع جماعتي. الديمقراطية ليستْ، كما نعتقدُ في غالب الأحيان، هي قانون الأغلبية. هي قانون الأغلبيّة، لكنْ مع احترام الأقليّات وحمايتها. مهما كان شكل هذه الأقليّات: إثنيّة، إيديولوجيّة، ثقافية، دينية. ومن الأكيد أن جوهر الديمقراطية يتأسّس على هذه التعدّدية، التي تسمح بدورها بصراع الأفكار. غير أنّ صراع الأفكار داخل الديمقراطية لا ينبغي أن يتحوّل إلى صراع للأشخاص، صراع جسدي مسلّح. الديمقراطيات تنهار حين تتحول صراعاتها ونزاعاتها الكلاميّة والخطابية إلى صراعات انقلابات عسكرية التي تذبح الديمقراطية. هناك مشكل الواقع الاجتماعي للإنسان، للفرد، ومما يقوّيه اليوم هو وجود مشكل إضافي: الإيتيقا التي يتوفر عليها كلّ واحد منا، والتي هي إيتيقا التضامن والمسؤولية إزاء عائلاتنا وأبنائنا. لا يجب أن تظل هذه الإيتيقا اليوم منغلقة على ذاتها، لأننا نعيش في عصر مطبوع بالتضامن المتبادل على الصعيد الدولي، حيث جميع الناس في جميع القارات لهم نفس الانشغالات، نفس مشاكل الحياة والموت، نفس المشاكل التي يطرحها تدهور الغلاف الجوّي، المشاكل التي يتسبّب فيها تزايد الأسلحة النووية، والأزمات الاقتصاديّة التي تتكرّر باستمرار، والتي تدفع الحياة المعيشة إلى الهشاشة، النزاعات التي تطفو على السطح في ظلّ الأزمات، وكلّ أشكال التعصّب، مهدد بهيمنة المضاربات المالية والرساميل المالية التي تتعالى على سلطات الدول وتتحكم فيها، والتي تمارس اليوم ديكتاتورية حقيقيّة الخ. وإذن، فإن جميع الكائنات البشرية تعيش في المشاكل ذاتها، التي توجد في قلب العوْلمة، ومن ثمّ فنحن في أمسّ الحاجة إلى التضامن، معنى ذلك أن «النحن» اليوم لا يمكن أن تبقى محدودة ومقتصرة على وطني أنا فقط، يجب أن تصبح مفتوحة على العالم. فبالنسبة لي أنا ولبلادي فرنسا، هناك أوربا والمتوسط، وبالنسبة لكم أنتم، هناك المتوسّط والمغرب العربي والعالم العربي وباقي القارات. وإذن، فداخل مسألة «النحن» و»الأنا» يوجد مشكل أنتروبولوجي أساسيّ مطروح طرحا سياسيّا وثقافيّا. 3. أنتقل الآن للحديث عن الفرد، وتعرفون أنّ الباحثين في ما قبل التاريخ يعرّفون الإنسان باعتباره حيوانا عاقلا Homo sapiens ، ومعناها باللاتينية: الإنسان الحكيم ذو العقل. وصحيح أنّ العقل هو ممارسة لمنطق متماسك ومنسجم، ممارسة لفكر يسعى إلى أن يكون منسجما مع الوقائع التي نعيشها، وصحيح أن العقل عرف تطوّرا مدهشا في التاريخ البشري، بما فيه خلق التقنيات والروبوات والحواسيب الخ، وصحيح أيضا أن المظهر الآخر، والقطب الآخر للإنسان homo demens، ومعناها الإنسان الأحمق، الذي ينتابه الهذيان. وتعرفون أن الحمْق لا يصيب الأشقياء والمجانين الموجودين في المصحات والملاجئ فقط، الجنون مسألة كامنة وواردة عند كلّ واحد منا، فعنْد أيّ نوبة غضب، أو هياج وسخط، وانعدام التحكم في النفس، سرعان ما نتصرّف كمجانين وحمقى. في حالة الذعر نصبح مجانين، وفي الطموحات المبالَغ فيها، الطموحات المرتبطة بالمنافسة وبجنون العظمة نغْدو مجانين. فنحن إذن نراوح بين العقل والجنون. لكن ماذا يوجد بين الإثنيْن ، يوجد ما يمكن تسميته بالشعور الوجدانيّ أو العاطفيّ. وفي هذا السياق هناك دراسة هامة أنجزها البرتغالي أنطونيو دماسيو، الذي درس الدماغ البشري، وأبرز أنه حين يوجد مركز عقلاني يشتغل داخل الدماغ، فإنه يبعث في الوقت ذاته بمركز عاطفي ووجدانيّ، أي أنّ صاحب الرياضيات الذي يكون عنده شغَف الرياضيات، ولكن عنده العواطف كذلك والانفعالات. أي أن العقل البارد والجليدي لا وجود له، وحين يوجد فإنه يكون في حجم خطورة الجنون لأنه يكون خاليا من الشعور الإنسانيّ والعاطفة والصداقة الخ. الأهمّ في الأمر هو وجود العقل حتى داخل العاطفة، مثلما أن هناك عاطفة داخل العقل. فلا يمكن أن نعيش حياتنا على الوجه الأصحّ إذا لم نستحضر هذه الجَدَلية بين العاطفة والعقل. هناك إذن ازدواجية في الإنسان لا نرى فيها، في غالب الأحيان، إلاّ مظهرا واحدا. هناك مظهر آخر في الإنسان ننظر إليه بصورة معزولة، وهو ما يُسمّى L،homo faber، أي الإنسان الذي ينتج الأدوات، وصحيح أنه منذ ما قبل التاريخ كان هناك، انطلاقا من الحجر المكسَّر، والحجر المصقول. من ثمّ تطورت تقنية أداتية أخذت أحجاماً هائلة فيما بعد، وفي الأزمنة الحديثة، إلى درجة أن التقنية التي استحدثهاالإنسان من أجل التحكم في الطاقات المادية، أصبح معها الإنسان، داخل المعامل والمصانع، في خدمة التقنية أكثر مما بقيت التقنية في خدمة الإنسان، وهذه ظاهرة متصلة بدورها، في العمق، باللاّعقلانية، غير أنّنا ننسى القطب الثاني، وهو أنه منذ ما قبل التاريخ، منذ الإنسان البدائيّ l'homme Neandertal ، ، ابن عمنا الذي سبق نوعنا البشريّ، والمسمى الإنسان الحكيم، يسود الاعتقاد في وجود حياة أخرى بعد الموت، فداخل القبور، تتواجد الهياكل العظْمية رفقة الأسلحة والطّعام، كأنها ستستأنف حياتها فيما بعد، وهي توجد في وضعية منطوية على ذاتها كالجنين في بطن أمّه، كأنها سترى النور وتخرج للوجود، بين أيدينا مصادر ديانتين كُبرييْن في التاريخ، ديانتيْن توحيديتين، هناك، من جهة، الموتى يعيشونَ في مناطق خاصة يُطلق عليها ،الجحيم Les enfers،، مثلما هو الأمر لدى الإغْريق القُدامى، الذين يعيشون محرومين، لكنّهم يحيْون مع ذلك، وهناك من جهة ثانية، المُعتقدات لدى الهنود والهندوس في تناسخ الأرواح ، يمكن أن نحيا مرات عديدة إلخ، فلا وجود لأي مجتمع، بما، في ذلك المجتمعات الأكثر تقنيّة، لا ينطوي على شيء دينيّ، شيء ميثولوجيّ، شيء مرتبط بالمُعتقدات وبالأهواء في مستواها البسيط، فإذا نسيتمْ هذا المظهر، فإنكم تنسون مظهراً أساسياًمميّز للكائن الإنساني، وأنا من الذين يطالبون، إلى جانب صديقي ريجيس دوبري، بتدريس الأديان في المدارس العلمانيّة، لكي نبيّن بأنه لدى الإنسان، توجد هذه الحاجة إلى المُعتقد، إلى الإيمان، إلى الاعتقاد في وجود عالم آخر، وهذا أمْرٌ في غاية الأهمية، فإذا جعلنا من الإنسان شخصاً تقنياً محضاً، وعقلانيا خالصاً، فإننا ننسى الجانب المَعيش للإنسان، بجنونه، وكذلك بقدراته على تحقيق الذات، في مستوى آخر، نعلم جميعاً أنه خلال القرن 18، تم الحدّيث عن L،homo economicus ، أي الإنسان الذي يتحدّد برغباته واهتماماته المادية، وما يزيد في صحة هذا المظهر، هو أنه في الحضارات الحديثة، حيث يكتسي المال أهمية كبرى، هناك أولئك الذين يصرفون أموالهم في القمار، في الهدايا، في القرابين، هناك من يمارسون ما يطلق عليه جورج باطاي «التدمير الذاتي»، أولئك الذين يفضّلون إحراق حياتهم على حساب حياتهم وصحتهم، هناك هذه القدرة على القمار ، على التبذير الهائل، يتّضح أنّ هذه المظاهر تبرهن على أن الكائن البشري كائن مركّب Complexe، وبالتالي لا يمكن اختزاله في مظهر واحد، لا يمكن مقاربته فقط من خلال معادلات فكرية، ومن خلال الناتج الداخليّ الخامّ، وأرقام وحسابات، فالإنسان قادر على القيام بالأعمال الشريرة والخيّرة، قادر على الهذيان وعلى التعقّل، ومن هنا، فإنّ السياسة لا ينبغي أن تعتبر الناس بمثابة أشياء قابلة للتبادل، لا ينبغي أن تعتبر الناس أخياراً بطبيعتهم، ولا أشراراً بطبيعتهم، فنحن نحمل في ذواتنا الخير والشر معاً، وذلك تبعاً للظروف والملابسات والمزاج، ينبغي الانتباه إلى ذلك، وهذا ما يُفسر الظهور المفاجىء للاحتجاجات والمظاهرات، مثل الربيع العربي وأحداث ماي 68، وجميع الحركات الاحتجاجية الكبرى، كما حدث في أوكرانيا، بحيث بصورة مفاجئة وغير متوقّعة تنطلق شرارة التظاهر، ثم إنه داخل كلّ هذه الاحتجاجات وأشكال التّظاهر، تكون هناك علاقات أخوية وأجواء فرح واحتفال، مثلما يكون هناك عنف ومبالغات، هذا هو السبيل لفهم إنسانيتنا، وإذا أردتُ أن أُجمل ما سبق بتعبير آخر، وبمعنى من المعاني، أقول، إنه داخل كل كائن إنسانيّ، يوجد إمكان النثر، وإمكان الشعر، ما معنى هذا ، معناه أنّ الشعر ليس هو فقط الشعر الذي نقرأ، القصائد الشعرية الرائعة التي توجد في اللغة الفرنسية، كما توجد في اللغة العربية، إنّ الشعر هو خاصية محايثة للحياة، وهو ما انتبه إليه جيداً الشعراء السورياليون، ينبغي أن يعيش المرء شعرياً، وهذا يعني أن يعيش، في الآن ذاته، داخل التحقيق الذاتي، وداخل التفاعل مع الغير، هي الأنا والنّحن في نفس الوقت، وبطبيعة الحال، فالشعر يوجد في الحبّ، في الاحتفال، مثلما نجده في أكلة مع أصدقاء، وفي مباراة لكرة القدم، وفي مشهد طبيعي، كمشاهدة البحر، كما يمكن أن نجده في جميع اللحظات، أما النثر في الحياة، فهي الأشياء التي نقوم به مُرْغمين، ولا تعجبنا، ولكن نُضطرّ للقيام بها من أجل البقاء على قيد الحياة، من أجل الاستمرار فيها، من هنا نفهم الفرْق بين أنْ يعيش الإنسان، وبين أن يبقى على قيد الحياة، هناك فرق بينهما، فالعيش هو ممارسة الحياة بكلّ ما فيها، بكل ما أوتينا، كما نعيش من أجل قضية نؤمن بها، من هنا لا يكفي أن نبقى على قيد الحياة من أجل أن نعيش، فعندما نفكّر في المجتمع وفي السياسة، لا ينبغي التفكير في الحاجيات المادية الأولية بالنسبة لجميع الناس، الذين يعيشون في الفقر والحاجة والفاقة، يجب أن نفكّر في حاجاتهم الشعرية، وأضيف حاجتهم للاعتراف، كلمة ،»الاعتراف،» هذه تكتسي أهمية بالغة، وتجدر الإشارة إلى أنّ الفيلسوف الألماني هيغل هو أوّل من وقف عندها وأبرزهادلالتها، الاعتراف لا يعني اعترافَ من حصل على هديّة، إنّ الاعتراف هو أن يعترف بك الآخر باعتبارك إنساناً جديراً بهذا الإسم، إنه جوهر الإنسانية، في باريس،مثلا، يعيش الناس داخل نفس العمارة، ويصادف بعضهم البعض يومياً، بدون أن ينظروا إلى بعضهم، ودون أن يتبادلوا الحديث مع بعضهم، هذا معناه أن الآخر يُعتبر «شيئاً»، وبالمقابل، إذا قلت، ،»صباح الخير سيّدتي»،، ،»صباح الخير سيّدي،، ،كيف حالك ،،»، فهذا معناه أنّ الآخر يوجد بالنسبة لك، وقد حدث لي أن رأيتُ أطفالا في أمريكا اللاتينية كانوا عرضة للانحراف، لكنْ حين اهتمت بهم بعض الجمعيّات، ليس فقط بهدف تربيتهم وتعليمهم، الدراسة والموسيقى والإعلاميات إلخ، ولكن من أجل الاعتراف بهم كبشر، في هذه الحالة لم يعد للانحراف وجود، فكلّ ما نعاني منه اليوم بالنسبة للمقصيّين، وكلّ ما نزدريه ونحتقره، وكل ما نبعده لأسباب عنصرية وغيرها، يعتبر احتقاراً، والاحتقار مصدره انعدام الاعتراف، وفي السياسة، يجب أن نفهم بأنه لا يكفي أن نوفر للناس مبالغ مالية في حدودها الدنيا، أو الأمن الاجتماعي، بقدر ما يهمّ توفير هذا الاعتراف بالآخر، بالغير، بهذه الطريقة يمكن تحقيق التقدم الإنساني في مجتمعاتنا، هذه صورة مُجملة وموجزة عما نسمّيه ،»التركيب الإنساني،ّ»، والذي يتعيّن علينا أن نكون واعين به باعتبارنا إنسانيين، نحن أمامَ كائنات إنسانية مركّبة وصعبة، وإذا رأينا أطفالا، من الأوْلى أنْ نساعدهم وننقذهم، بل حتى بالنسبة للذين سلكوا طريق الانحراف أو السجن، وتمكّنا من إنقاذهم وفديتهم، بإمكانهم أن يتحوّلوا إلى الأحسن، أعود،وأنا أشرف على الختام، إلى كلمة ،»وعي»، التي ترتبط بكلمة ،»معرفة»،، فنحن معرّضون لاحْتمال الخطأ والوهم، لماذا ، لأنّ كل معرفة هي ترجمة يليها إعادة البناء، بل حتى المعرفة البَصَريّة التي أكوّنها عنكم هنا داخل هذه القاعة، هي معرفة قائمة على فوتُونات ،صور ضوئية، ومُنَبّهات ضوئية تصل إلى شَبَكِيّة عيْني، والتي سرعان ما تتحوّل إلى شفرة ثُنائية تمر عبر العَصَب البصريّ، الذي يخضع بدوره لتحوّلات داخل الدماغ، الأمر الذي يُعيد بسرعة إعادة بناء الإدراك البصري، لماذا قلت إعادة البناء ، لأنه داخل الصورة البَصَرية التي توجد داخل عَيْنَيَّ، أرى أنّ الجالسين في الصفوف الخلفية يبدونَ أصغر من الجالسين في الصفوف الأمامية، غير أنني غير واعٍ بهذه العملية، لأنّ ذهني يحدد البعد المتوسط لكلّ وحد منكم، وهو ما يسمى ،»الثابت الإدراكي،ّ»، وهي ميزة يتوفر عليها إدراكنا البصريّ، كتلك التي يتوفر عليها الكلاب أو حيوانات أخرى نعرفها، ما معنى هذا الكلام ، معناه أننا يمكن أن نخطئ في إدراكنا، لنُعْطِ مثالا بالشهود الذين يقدّمون شهادتهم عن حادثة سير لسيارة مثلا، فهم لا يقدمون نفس الصورة عن الحادثة، من فرط انفعالهم ربّما، فنحن لا نقدم الرواية نفسها عن الحدث نفسه، إن حَوَاسَّنا، أي التقاط حواسنا، محدودة، وينبغي ترجمة حواسنا، بالمعنى الحقيقي لكلمة ترجمة، فقد كنا نعتقد بأنّ الشمس تشرق، بينما نعرف اليوم بأننا نحن الذين ندور حولها، من ثمّ عدمُ الفرق بين الإدراك والهذيان، وإذا كان الخطأ يوجد في الإدراك، فإنه موجود كذلك في الأفكار وفي الكلمات وفي النظريات وفي كل شيء، عندما تنظرون إلى المعتقدات وإلى اليقينيّات التي عرفتْها القرون السالفة، فإنكم تقولون، ،يا لَها من أوهام، يا لها من أفكار مغلوطة،،، ،كيف آمنوا بالفاشية ،،، ،كيف آمنوا بمَاوْ تْسي تُونغْ ،،، واليوم تعتقدون أنكم تعرفون كلّ شيء، وأنكم لستمْ عرضة للخطأ والغلط، وهذا خطأ، فنحن معرّضون لنفس المصير، لماذا ، لأننا لا نقوم بالفحص النقدي لمعارفنا ومعلوماتنا، وأنا سبق لي أن طالبتُ في فرنسا، دون أن يأبه لي أحد ،بينما تم الإنصات لي في بلدان أخرى،، طالبت بأن يُدرجوا في البرامج التعليمية، في الابتدائي والثانوي، قضايا أخطاء المعرفة وأوهامها، وكذلك المعرفة المحايثة، ما معنى المعرفة المحايثة ، ليست هي المعرفة التي لا ترتكب أخطاء، بل هي معرفة تأخذ في الاعتبار مجموعة من السمات المركبة، ترى بطلا في فيلم سينمائيّ وتقول بأنه أحد أفراد عصابة، لكن في المقابل هو ربّ أسرة، هذه هي الصورة المركّبة، فنحن نميل إلى اختزال الآخر في مظاهره السلبية فقط، أو في مظاهره الإيجابية فقط، ولا ننتبه إلى مظهره المركَّب، المعرفة المحايثة تعتمد على وضع الأمور في سياقاتها، وعلى النظر إلى مجموع السمات والملامح، هناك مشكل هاّم من وجهة النظر الإنسانية، فبمجرد ما ننتبه إلى المشكل الأنتربولوجي للكائن الإنساني، فإننا نعرف أنّ ما يميز طبيعته، هي تعرّضه للشرود وللخطأ، وأيضاً قدرته على تصحيح خطئه، بل وقدرته على الاستفادة من أخطائه، هناك بيت شعري روسي يتحدث عن كريسطوف كولومبوسْ جاء فيه، ،ابحثْ عن الهند، تجد أمريكا،، ونحن كذلك نتقدم بدورنا بواسطة المحاولات، وبواسطة الأخطاء، عن طريق ارتكاب الأخطاء، لذلك أعتقد أنه من الأهمية بمكان اليوم، العمل على تحسين مقدراتنا ومؤهلاتنا المعرفية من أجل تفادي ارتكاب الأخطاء، لأننا نعيش في عالم مُركَّب، ولأن نظرتنا الأحادية والتجزيئية والمعزولة تُعْمينا في غالب الأحيان، كما يتعين علينا أن نربّي أنفسنا على فهم الآخر، فهم، الغير، والذي ليس فقط فهما للأجانب الذين لا ينتمون إلى ثقافتنا، بقدر ما هو المشاكل التي تقع داخل العائلات، وفي المكاتب، وفي المختبرات، في انعدام الفهم لا نرى سوى المظاهر السلبية للآخرين، نجعل الآخرين هم المسؤولين عن البشر، يجب أنْ نسعى إلى فهم بعضنا البعض، وأن نتَجنّب الجدالات العقيمة والسخيفة، وعوض أن نسخر من آراء الآخرين، يجب الخوض فيها كما هي، نحن نعيش في مناخ من انعدام اليقينيات على الصعيد العالمي، وعلى الصعيد الإنساني وصعيد إنسانيتنا، كيف نواجه انعدام اليقينيات ، إنّ التاريخ الإنساني ككل، والمغامرة الإنسانية برمّتها، هو تاريخ مدهش ومجهول، ولذلك، فإنّ ما هو غير متوقّع يمكنه أنْ يحدث في أيّة لحظة، ،»انتظرْ غير المنتظر»، هذا قوْل مأثور، وإذن فنحن من جديد في مواجهة النزعة الإنسانية والقَدَر الإنساني، فأنْ يكون المرء إنسانياً، ليس فقط هو أن يشعر الإنسان بأنه هو نفسه جزْء صغير من النوع البشري الذي يضمّ ملايير البشر، بل هو أنْ يشعر كذلك بالنوع البشري، الذي يوجد بداخلنا، بأن كل واحد منا يعيش فردياً، وبطريقته الخاصة، المغامرةَ الإنسانية التي لا ندري إلى أين تقودنا، وهذا من شأنه أن يجعلنا متضامنين، وواعين بمصيرنا المشترك وبقَدَرنا، لكنْ، كما قلت، دون أن ننسى الاختلاف والتنوع، لا ينبغي أن نجعل الناس متجانسين، يجب احترام مختلف الثقافات، يجب أن تتفتح الألف ومائة وردة، يجب أن نكون واحداً واختلافاً في الآن ذاته، هذا هو الإنسان الذي يتعين أن يكون ذا طابع كوني.