رحل في صمت… فسعيد لم يكن كثير الكلام. الفنان الكبير وصاحب الترنيمة المغربية الخالصة يغادرنا تاركا وراءه إرثا موسيقيا كبيرا، وكثيرا من الصور التي سنحتفظ له بها ما حيينا. الأنيق في محياه وملبسه، أقنعنا أن العود يمكن أن يكون مغربيا رائقا وغنيا، على خلاف ما انغرس فينا من إحساس بأن هذه الآلة هي شرقية المنبع والروح والعطاء. أوجد لفنه مكانة خاصة بين كبار المتلاعبين بأوتار العود، حتى صار إسما يتردد على امتداد خارطة الوطن العربي، تتجدد له الدعوات في إحياء السهرات الموسيقية ذات الدفق الإنساني والفني الكبير. فمنذ ذات صيف من العام 1986 فهم المشارقة، قبل المغاربة، أن سعيد الشرايبي قادر على مقارعة الكبار في ترانيمهم، بعد تتويجه بالجائزة الكبرى للعود في مهرجان بغداد للموسيقى العربية . سعيد الشرايبي، المريض قبل وفاته، ظل مخلصا للصمت حتى في أصعب اللحظات. فلا صوره ملأت المواقع الاجتماعية، ولا الإعلام أفرد له عناوينه البارزة. نهاية تقول الشيء الكثير عن فهمنا الجماعي المختل لقيمة الفن ورواده. عصاميته كانت طريقه الوحيد للشهرة والتفوق. عن سن ال13 تعلم العود في بيت العائلة بحواري مراكش القديمة. احترف سعيدد الشرايبي الموسيقى بشكل نهائي في العام 1979، وحاز مكانته في الاهتمام الوطني والإقليمي سبعة أعوام بذلك، إثر فوزه بجائزة ‘‘ الريشة الذهبية ‘‘ في بغداد عن جدارة واستحقاق متقدما على أسماء رنانة في عالم العود العربي كالعراقي نصير الشمة. شهرة ستنقله إلى وضع اعتباري جديد، حيث سيؤثت سعيد الشرايبي مضمون العشرات من الجولات الموسيقية داخل المغرب وفي الوطن العربي. موسيقاه المطرزة فوق أوتار العود الاثني عشر، ستتجاوز الحدود الجغرافية والروحية، ليشكل حضوره حدثا في حد ذاته في كل المهرجانات والسهرات التي استدعي إليها، كمهرجان الموسيقى الروحية في فاس التي أدى فيها مقطوعة كاملة بتنسيق ومشاركة الأوركسترا الفيلارمونية لمدريد. تفرده في العزف ونجاحه في إضافة المعنى للنغمة الموسيقية، جلبت لسعيد الشرايبي الكثير من الثناء على لسان كبار الموسيقى في العام العربي من محمد عبد الوهاب إلى رياض السنباطي، مرورا بمحمد الموجي ومنير بشير ورابح أبو خليل ، ونصير الشمة نفسه، أبرز منافسيه المعاصرين. ‘‘ الريبرطوار ‘‘ الكبير لسعيد الشرايبي يحفل بأزيد من 500 عمل موسيقي منفتحة على كل مكونات الموسيقى العربية، والمؤثرات الحضارية التي أغنت مرجعيتها التاريخية. في ترانيم سعيد الشرايبي يمكن أن تنتقل فنيا من الأنماط الموسيقية الفارسية إلى التركية إلى الحجازية، مرورا بالمؤثرات السميفونية والجاز والأندلسيات وفن كناوة وأحواش … سعيد أثث أيضا الفضاءات الموسيقية للأعمال الروائية السينمائية والتلفزيونية … تنوع وغنى أعطاه الرخصة الفنية لتلحين مقطوعات رائعة لكبار الأصوات في المغرب كسميرة بن سعيد وعبد الهادي بلخياط ونعيمة سميح وكريمة الصقلي وفدوى المالكي وسمية قيصر وكريمة الصقلي ومحمود الإدريسي. سعيد الشرايبي مجدد متميز. في ألبوميه ‘‘ مفتاح غرناطة ‘‘ الأول والثاني، نجح في تذويب الفوارق الموسيقية بين المتن الأندلسي والمغربي، نافحا في أوتار عوده خلجات تتدفق بكل معاني الشجن والحنين. وهو أسلوب دفع بالكثير من المتتبعين للحالة الموسيقية العربية إلى اعتباره ‘‘ مجددا من الطراز الأول ‘‘. تجديد لم يقتصر على النوتة والنغمة والترنيمة، بل امتد إلى كنه العود نفسه، حيث كان سعيد أول من أدخل على العود العربي تفاصيل موسيقية أوركسترالية، ك ‘‘ العود باص ‘‘و ‘‘ العود صوبرانو ‘‘ و ‘‘ العود صوبرانينو ‘‘. هي مسيرة فنية استمرت لأربعة عقود كاملة، كرست سعيد الشرايبي كواحد من أهم الموسيقيين وطنيا وعربيا، تلك التي انطفأت جذوتها ليلة أمس. عشاق الموسيقى سيدينون طويلا لهذه المسيرة الفنية بالكثير من الإبداع والعطاء، تماما كما كان سعي مدينا لأساتذته في العود. كان لفريد الأطرش مكانة خاصة في مفهوم العرفان الأصيل عند سعيد الشرايبي، دفعته إلى تخصيص مقطوعة كاملة لهذا الفنان المتفرد عزفا وألحانا في ألبومه ‘‘ مفتاح غرناطة ‘‘ أسماها ‘‘ إهداء إلى أستاذي ‘‘ الذي كان يعتبره أمهر من عزف على العود في العصر الحديث. مقطوعة تتخلها العشرات من جمل فريد الأطرش الموسيقية على العود، وتمتح من عبقريته خاصيتي العزف الأساسيتين في طابع فريد : الحدة في عزف النوتة على الوتر و الارتجال المتواتر. العرفان استمد منه سعيد الشرايبي موضوعات موسيقية اشتغل عليها، مستغلا عمق جذوره التاريخية. فعن ألبومه ‘‘ مفتاح غرناطة ‘‘ قال سعيد الشرايبي ‘‘ في شفشاون و مرة كل سنة كان جدي يخرج لنا مفتاح دار غرناطة ثم يجهش بالبكاء متذكرا تاريخ أجداده في الأندلس. لقد رحل آبائي عن الأندلس قرنا بعد 1492 ‘‘. التاريخ الذي لم ينساه سعيد، شكل موضوعا متجددا لمعانيه الموسيقية، من العصر العباسي مرورا بالفن العثماني والحجازي. يغادرنا سعيد الشرايبي في مطلع هذه السنة التي تخصصت في خطف أرواح الفنانين من كل حدب وصوب. يغادرنا كما كان بيننا مفضلا الصمت على الإطناب، ومغرقا في فنه كمن يريد أن يؤكد لنا أن القيمة في ‘‘ القيمة ‘‘ وليست في كثير الجلبة وإعلاء الصوت. فقط موسيقاه لن تصمت، وستتردد على مسامعنا في لحظات استذكاره التي نتمنى أن تكون غزيرة كفنه الرائع والأنيق . تواريخ مهمة : 1951 : الولادة في مراكش 1979 : التفرغ الكامل للعمل الموسيقي 1986 : ‘‘ الريشة الذهبية ‘‘ في مهرجان العود في بغداد 1992 : جائزة مهرجان وجدة للموسيقى الغرناطية 1998 : جائزة الاستحقاق في مهرجان القاهرة 2000 : جائزة أحسن عازف عود بالسويد وأحسن موسيقى لفيلم ‘‘ياقوت‘‘ 2002 : جائزة ‘‘ زرياب ‘‘ من اليونسكو 2005 : أحسن تلحين مغربي وأحسن عزف سماعي في سوريا 2006 : جائزة الفارابي في اليوم العالمي للموسيقى أهم أعماله : الريشة الذهبية عود المغرب مفتاح غرناطة 1 مفتاح غرناطة 2 حلم في فاس سليمان افران الفروسية مولد من الآشوريين إلى أحواش