في ربيع سنة 2000 وفي خضم خروج رواية جديدة حول اغتيال المهدي بنبركة إلى الوجود، ظهرت لأول مرة على الصحف الوطنية أسماء مغربية متورطة في قضية الاختطاف باستثناء الجنرال أوفقير والدليمي وأعوانهم من العصابة الفرنسية الذين كانوا معروفين، فكانت الأسماء المثارة تغري بالبحث رغم صعوبته، من أمثال العشعاشي وصاكة والشتوكي والممرض الحسوني... ورغم هذه الصعوبات فإن بعض الوساطات كانت دائما تنفع في مثل هذه القضايا. لذلك فقد تكلف محامي بالرباط بتدبير لقاء خاص جمعني بثلاثة من الأسماء المعروفة في الأوساط الأمنية والتي كانت رغم إحالتها على التقاعد تعيش في سرية تامة إلى غاية الكشف عن هويتها. جاءت المكالمة الهاتفية لتخبرني بالموعد مع الأسماء المذكورة التي ترغب في عرض وجهة نظرها دون تحديد مكان اللقاء. بمحطة القطار أكدال كانت سيارة المحامي تنتظرني وكان برفقتي مصور الجريدة عبد اللطيف القراشي، حملنا المحامي الذي كان يعاني من جرح بليغ في سبابته، واتجه بنا نحو فيلا في حي السويسي. استقبلنا ثلاثة أشخاص بالفيلا الفاخرة. الأول كان متوسط القامة شعر رأسه أبيض ذو ابتسامة عريضة تكشف كامل أسنانه يرتدي قميصا تقليديا أبيض وسروال أسود، الثاني كان طويل القامة أصلع يلبس قميصا أزرق، متجهما، قليل الكلام، ذو نظرة حادة، الثالث كان قصيرا ممتلئا بشرته تميل قليلا نحو السمرة يلبس «فوقية» رمادية اللون. انتهت مهمة المحامي عند تقديم أسماء الأشخاص الثلاثة فكان الأول هو محمد العشعاشي المسؤول السابق في جهاز المخابرات المغربي المعروف ب«الكاب 1»، وكان الثاني هو الضابط أحمد صاكة المسؤول عن فرقة التدخل والاعتقال التابعة للجهاز بالدارالبيضاء، فيما كان الثالث هو محمد المسناوي العميل بنفس الجهاز وصاحب الفيلا التي تم استقبالنا بها. طبعا لم يكن حوارا شيقا ولا طويلا إذ اكتفى الأشخاص الثلاثة بنفي وإنكار كل ما له صلة بقضية المهدي بنبركة وأقروا أنهم لا يعرفون أي ملف تحت اسم «بويا بشير» وهو الاسم الذي اشتهرت به عملية اختطاف المهدي بنبركة، بل أقسم محمد العشعاشي على أنه لم يسبق له أن خرج من المغرب فكيف له أن ينتقل إلى فرنسا لاختطاف بنبركة وقال بالحرف يمكنك أن تبحث في جواز سفري إن كنت قد تركت البلاد يوما ما. طبعا لم يكن يحمل معه جواز سفر، وعملية اختطاف المهدي تمت بسرية وأصحابها استعملوا أسماء وهويات مزيفة شأنهم في ذلك شأن باقي رجال المخابرات في العالم. نشرت حينها في ملف خاص على صفحات جريدة «الأحداث المغربية» تفاصيل تطورات قضية اختطاف المهدي بنبركة ومعها الحوار مع رجال الكاب 1 الثلاثة، لكن في اليوم الموالي توصلت بمكالمات عديدة لمعتقلين سياسيين -من بينهم مجموعة بنوهاشم وغيرهم- يؤكدون تورط الأسماء المذكورة في تعذيبهم فكانت لقاءات أخرى أسهب أصحابها في سرد تفاصيل الاعتقالات والاختطافات وعمليات التعذيب التي تمت خلال سنوات الرصاص. أسباب التذكير بهذا اللقاء هو حدثين وقعا متزامنين: – الأول هو البرنامج الوثائقي الجديد الذي بثته القناة الفرنسية الثالثة لمخرجه أوليفيي دوكرو الذي يؤكد من خلال الفيلم الرواية نفسها التي أعلن عنها الصحافي الفرنسي جوزيف تويال والتي تقول بأن رأس المهدي بنبركة تم دفنه في معتقل سري بالرباط هو ما يسمى ب«النقطة الثابثة رقم 3» (PF3). – أما الثاني فهو وفاة الممرض بوبكر الحسوني واحد من الأسماء التي كشفت عنها العديد من الروايات التي تنسب له حقن المهدي بنبركة بجرعة تخدير كبيرة مباشرة في الوريد كانت أحد أسباب وفاته بعدما تعرض له من تعذيب. والحسوني هذا هو أحد رجال الشرطة المحسوبين على الكاب 1وهو ممرض ينحدر من عائلة سلاوية، ازداد سنة 1938 وبدأ مشواره المهني في مصحة بسلا، لم يكن مستواه الدراسي يتجاوز التعليم الابتدائي عندما التحق بسلك الشرطة برتبة حارس للأمن، وظل يعمل بمصالح الأمن في تقديم الاسعافات إلى أن تم استقطابه إلى الكاب 1 للعمل في مختلف أماكن الاعتقال السرية وغرف التعذيب ما جعل البعض يطلق عليه اسم الدكتور. حضور الحسوني عملية اختطاف بنبركة كانت بمحض الصدفة بعد تخلف أحد العناصر الأساسية عن السفر إلى باريس بسبب حالته الصحية. بوفاة الحسوني تكون ذاكرة هذا الملف قد فقدت جزءا آخر بعد رحيل الجنرالين أوفقير والدليمي وبعدهم العشعاشي وعديدون شاركوا في العملية وحده العميل المدعو الشتوكي (اسم حركي) مازال يعيش في سرية تامة. بدون قبر ظلت كل التحقيقات حول اغتيال الشهيد المهدي بنبركة شبيهة بأعمى يتلمس الطريق نحو وجهته، زاد من هذا الغموض تعدد الروايات حول مكان دفن جثة بنبركة إذ في الوقت الذي قال أحد المشاركين في العملية أنطوان لوبيز أنها مدفونة في مكان قريب من فيلا العميل الفرنسي بوشسيش، ذكرت صوفي موليي التي قامت ببحث حول الملف أنها مدفونة تحت جامع إفري بباريس، في حين قال أحمد البخاري أنها حللت بالأسيد في دار المقري (النقطة الثابثة 2)، ثم جاء جوزيف تيال ليؤكد مرارا أن رأسه فقط مدفون في النقطة الثابثة 3. رحيل الرجل بدون جثة وبلا قبر خلق ضجة سياسية ضعفت هزاتها الارتدادية مع مرور الزمن لكنها تظل مصنفة ضمن ملفات «سوكري ديتا» رقم واحد في المغرب. محمد أبويهدة