أو الوقوف على أطلال ما تبقى من «جردة بودراع» «شوف من حالي آبنادم واعتقني راني تنموت بالجوع». ثبت المسكين على هيئة السؤال «لا كاين غير شوية الكليا اللي كان سميتها البوبكورن أيام العز، ولا غير شي حبّات ديال الحمص الله يجعل البراكا واخا ما بقاو عندي سنان»! ثم حسم نداءه موضحا «ما عندي ما ندير بكاوكاو مشات يامو»! وصفه لسانُ حاله بكونه قليل الحركة ولم يحتج إلى النطق وهو يستجدي طعامه. يكفي أن ملامحه وتلك النظرات الاستثنائية التي يرسلها، تقول إنه من ذوي الاحتياجات الخاصة وتجوز في حقه الصدقات الجارية. ختم النائبُ عن القرد المستجدي كلامَه معلنا «تخيل.. القرد تيتسابق مع الطوبا على الكليا»! موقف جعله يغادر الحياد البارد وهو يتأمل حالة الحيوان المغلوب على أمره خلف قضبان زنزانته. لا مفر من ذلك الإحساس بالمرارة، ولا يمكن للزائر ألا يلبي تلك الدعوة إلى التعاطف والشفقة. أيام زمان ربما يكون مجرد مشهد خيالي تخيله طفل في عامه الخامس أو السادس. رافق أسرته إلى زيارة حديقة الحيوانات عام 1967 أو 1968. احتفظت ذاكرته بمشهد عاين فيه شابة ملونة ترتدي وزرة بيضاء، منهمكة في إرضاع شبل أو قرد صغير. يعجز عن الحسم. كلما استرجع دهشة تلك التجربة الفريدة في طفولته، يستعيد ذلك المشهد الذي رسخ في ذاكرته. تمسك الشابة ب«البيبرون» وتشرف بعناية كبيرة على أن يحقق الرضيع إشباعه من الحليب. ينطلق من هذه الصورة الملتبسة ليسطر على أن حديقة الحيوانات، تأسست في أواخر عشرينيات القرن الماضي بعين السبع، انطلاقا من محبة الحيوانات وعشق تربيتهم والاعتناء بهم. مهمة لا يمكن للموظفين القيام بها. يسترجع صورة «تشيكا» في قفصها المواجه تقريبا لمدخل الحديقة. لم يكن يعرف «الشامبانزي» ولا «الغوريلا» أو الفرق بينهما. إنها «القردة الكبيرة» وهي تتأمل الزوار أو تعلن الحياد كأنها غير معنية بالآدميين وهم ينتظرون منها ما يخلدون به زيارتهم. حركة دالة أو رد فعل يسجلونه، وقد يستجيبون له بالضحك وتبادل التعاليق ثم ينسحبون في اتجاه قفص آخر. تقيم أسرته على بعد أقل من كيلومتر من الحديقة. قُرْب جعل منها فضاء من فضاءات لعبه الطفولي. يثيره دائما ذلك الرجل «البصير»، وتلك الطريقة التي يضبط بها موقع «خنشة الكاوكاو» ويميزها عن تلك الخاصة ب«الزريعا» أو «الحمص»، ثم وهو يميز بين قطع النقود وفئاتها عبر اللمس ولا شيء غير اللمس. يترك عربة البصير كأنها صندوق زجاجي متوسط الحجم، وهو يتساءل كيف ينجح في تنظيم السلعة بتلك البراعة. يتقدم في اتجاه المدخل، ولا خوف عليه إذا لم يتوفر جيبه على ميزانية «عشرا دريال». من حقه أن يستمتع بحيز «الفابور». يستقبله مالك الحزين. أطلق الصغار على ذلك الطائر لقب «لقرع». هناك لقب آخر تعاني ذاكرته صعوبة في استرجاعه. ربما «حمو لقرع». يمتد مجال «الفابور» الذي تتبرع به إدارة الحديقة على «الناس اللي ما غاديش يقطّعو» إلى حدود شباك التذاكر المقابل لإدارة الحديقة حيث أحواض (آكواريوم) السمك والثعابين والعقارب. صار شباك التذاكر محلا لبيع الكاوكاو والزريعا، بينما انقلبت الإدارة إلى مقهى. بها عُرِفت ضاحية عين السبع على صعيد المغرب. مرتبة جعلت من المعلمة محجا للضيوف. «اللي جا عندنا.. كبير ولا صغير.. نديوه يشوف الحديقا». زيارة تندرج في إطار حسن الضيافة والاهتمام بالزوار. المرور من «غابة سيدي محمد مولى عين السبع» ثم حصن «لاله عيشا» ربما «مولاة المرجا». فضاء بيئي ميز المنطقة بأشجاره ومياهه الجارية. امتداد عملي للحديقة ومجالها الحيوي. دون نسيان ذلك الباب الخلفي للحديقة. فرصة أخرى لتلك الإطلالة على جانب منها على مقربة من السكة الحديدية حيث يستعد القطار للدخول إلى محطة عين السبع على بعد أمتار من «الزّو». تداول أطفال عين السبع حكاية لقب «بودراع». نسى الحراس باب قفص الأسد مفتوحا. تسلل إلى الخارج. وصل الخبر إلى الفرنسي فحمل بندقيته وخرج ليواجه السبع. صوب الفوهة وأصاب الحيوان المفترس مباشرة في عينه. هجم على مالكه وبتر ذراعه. أجريت للأسد عملية جراحية وعوض الطبيب العين المصابة بعين زجاجية لأن بودراع كان يحب ذلك الأسد. في رواية أخرى. فقد الرجل ذراعه في حرب الهند الصينية. مقاضاة الحيوان لبني الإنسان اكتشف ذلك المقهى الداخلي. داوم على زيارة الحديقة ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل. يكتفي بالجلوس في المقهى والتفرغ لإنجاز رسالته الجامعية. يتفادى تلك الجولة التفقدية حتى لا ينفتح الجرح على ما اختزنته ذاكرة الطفل والمراهق. لا يريد التورط في موقف الرثاء، ولا الوقوف على أطلال ما تبقى من تلك المعلمة وهي في حالة احتضار قد تطول مرحلتها. كل خوفه أن تمسخ يوما إلى إقامات سكنية. «أكلت» حديقة الألعاب مساحة محترمة من جردة بودراع. اندثر الجناح الخاص بالكلاب من شتى الأشكال والأحجام، وهي تستقبل الزوار بكل أصناف النباح. غابت الأقفاص المخصصة للدواجن، وانقرضت مجموعة من الحيوانات من فضاء «الزُّو». تتناسل في سياق هذه الغيابات الاضطرارية، العديد من الحكايات حول مصير بعض نزلاء الحديقة. بعضها أقرب إلى النكتة كما هو الشأن بالنسبة للرواية التي يتداولها أهل عين السبع حول الضبع المسكين ومآل «راسو والمخ اللي فيه». في كتاب سها البال عن عنوانه. ليس كتابا وإنما رسالة تخييلية لإخوان الصفا. ربما «تداعي الحيوان على بني الإنسان». حكاية تخييلية يقاضي فيها الحيوان الآدميين. ترفع فيها الوحوش والبهائم شكواها وتظلمها من تعسف أعقل الحيوانات. يصير للسبع لسان ويستمد من سيد الأرض وحاكمها القدرة على الكلام والتعبير عن أحاسيسه ومواقفه. يغادر الإبهام وينتقل إلى الإفصاح. هذا ما حدث لحيوانات حديقة عين السبع. خرقت القاعدة الوجودية. جاء في الفتوحات المكية للشيخ الأكبر ابن عربي أن البهيمة سميت بهيمة لأنها أُبْهِمت على الإنسان وعجز عن فهم خطابها واستيعاب كلامها الخاص بها. حصلت المعجزة ونطقت حيوانات جردة بودراع. تكلمت لتتأسف وتترحم على سنوات العز التي عاشتها لما كانت الحديقة مشروعا شخصيا. اقتنتها المدينة في بداية سبعينيات القرن الماضي. صارت تابعة للمجازر البلدية، وانطلق العد العكسي في اتجاه التدهور. مسخت كائناتها، وصارت الغزالة -رغم ما تبقى من حروف النخوة- تجتر الذل والمهانة. الوجود في صورة السبع المسكين «سير ليها.. خاصك تشوفها كي ولات». مقبرة الحيوانات ماشي حديقة الحيوانات. يتفادى أن يقود ابنيه إلى «زنزانة» الخنازير البرية. «علاش؟»، «حيت خانزا بزاف». تصير الزيارة فرجة على ما تكابده «الوحوش» المعتقلة على يد الآدميين في زنازن لا توفر الحد الأدني من حفظ «كرامة» نلك الكائنات. «الزُّو» آخر معتقلات التعذيب في المغرب. وضع حزين جعله يتنبأ بتمرد الحيوانات وأنها ستحمل شعار «ارحل» في وجه المسؤولين عن مآلها الحزين، وستحتاج بعد ذلك إلى جلسات مصالحة حتى تغفر للمسؤولين ما ارتكبوه في حقها! يصوغ دعوة غريبة وغير منتظرة. يدعو إلى مغادرة خاصيته الآدمية والانتقال إلى الوجود في جسد االسبع. «تنتخيل أنا السبع.. مسدود عليا وتيرميوْ ليا ركبة حمار خانزا وما فيها والو»! تبادل الموقع ضروري لتحقيق الإحساس المطلوب. يستعين باللسان العربي الفصيح ويسترسل موضحا دعواه «تخيل كأنك السبع في قفصه». مغادرة موقع المتفرج على المأساة ضروري لاختبار المعاناة وتذوق مرارتها. تجربة ذوقية تستحق الاهتمام، ومطلوبة للإحساس بما يتجرعه أسد الأطلس من مرارة الحبس والإساءة وانعدام العناية. مشهد يثير نفور هذا الأب. تهجم جيوش «الدبان» على قطعة اللحم الفاسدة. رغم أن الأسد «عاف اللحْما وحلف ما ياكل منها»، إلا أنه يريد الاحتفاظ بها ليقدمها دليل إدانة إلى كل زائر يطل عليه. تدور رحى الحرب بين آخر العينات المتبقية من ملك الأطلس وتلك الجيوش من الذباب الأزرق التي تختار أسلوب الكر والفر. مجرد تساؤل بريء. هل ما زال صدى زئير الأسد يصل إلى البيوت البعيدة عن الحديقة والناس نيام في غرفهم كأنهم في غابة؟! صوت أليف ولا يدعو إلى القلق «غير السبع محيح ف الحديقا». لحظة خيالية تستعيد فيها عين السبع ماضيها الغابوي الغابر. مجرد نكتة. «علاش ما يعطيوش للسبع اللحم ديال الدبيحة السرية؟». «ما تيعطيوهش ليه.. حيت السبع ما بقاش تياكل اللحم». «آش ولى تياكل؟!». «خيزو والكليا»! جمال زايد