تاريخ الفلسفة، ليس فقط هو تاريخ أفكار ونظريات ومناهج، كان وراء إنتاجها واعتمادها هذا الفيلسوف أو ذاك، إنما هو أيضا تاريخ مآسي ومحن مرتبطة أساسا بحياة أصحاب هذه الأفكار والمناهج. من هنا أضحت مسألة إيلاء الأهمية لحياة الفلاسفة، ومن ثم لحياة الفلسفة عبر تاريخها، تفرض نفسها على كل من أراد أن يقف على دقائق أمور تاريخ هذا الصنف من المعرفة. وضمن هذا، يمكن أن يشكل البحث في موت الكثير من الفلاسفة إحدى المهام الملقاة على عاتق أي باحث أو دارس. إذا كان تاريخ الفلسفة يحفظ لنا كون سقراط والجهم بن صفوان والحلاج وابن باجة وغيرهم ربما، ماتوا مقتولين شر قتلة، فإن ذاكرتنا الفلسفية لا شك أنها تشكلت أيضا ارتباطا بهذه المآسي. ألا تستيقظ هذه الذاكرة مرعوبة كلما ذكر اسم سقراط مثلا؟ وكذلك ألا تحزن هذه الذاكرة كلما ربطت بين الفلسفة والسياسة، بفضل المصير المأساوي لكل من الحلاج والجهم بن صفوان وابن باجة؟ وإذا كانت هذه الذاكرة تحتفظ بفكرة كون أحد آباء الفلسفة الحديثة، وهو ديكارت قد مات ميتة طبيعية جراء مرض الالتهاب الرئوي pneumonie حسب ما كان أورده أدريان بيلي حول حياة ديكارت سنة 1691، أي سنوات بعد موت صاحب المنهج، فإن أستاذ الفلسفة الألمانية إبير Ebert نهض خلال بحر سنة 2009 للبحث في حقيقة موت ديكارت؛ فما الذي توصل إليه هذا الباحث؟ مات ديكارت صبيحة 11 فبراير من سنة 1649 بعد أن كان مقيما ببلاط الأميرة كريستين، إذ أن هذه الأخيرة تشوقت للقاء هذا الفيلسوف بعد أن كان مقيما بهولاندا، بلد الحرية والتسامح آنذاك، وبعد أن بدأت أفكاره العلمية والفلسفية في الانتشار في كل أرجاء أوربا تقريبا بفضل المراسلات والمناظرات التي كان الفيلسوف منخرطا فيها بهولاندا مع مهتمين بالفلسفة وبالعلم وبالتيولوجيا أو علم اللاهوت. لبى ديكارت دعوة الأميرة للالتحاق ببلاطها بالسويد؛ وهكذا كان، وهكذا بدأت حياة الأميرة تعرف انقلابا في طريقة تفكيرها بفضل الدروس التي كان الفيلسوف يلقيها في حضرتها كل صباح على الساعة الخامسة صباحا. والدروس كانت تتركز أساسا حول العلم الجديد والانقلاب الميتافيزيقي الذي كان ديكارت قد بدأ يحدثه على ميتافيزيقا أرسطو وعلمه، والذي كان قد مهد له على المستوى العلمي كل من كوبرنيك وغاليلي. لكن القدر كان يخبئ لديكارت في بلاط أميرة السويد أشياء لم تكن في صالحه. وربما حرمتنا هذه الأشياء من أفكار كان يمكن لديكارت أن يغني بها نسقه الفلسفي، كالبحث في مسألة الأخلاق الذي أجله الفيلسوف على سبيل المثال لا الحصر. إن الأميرة، حسب ما كان معلوما وحسب ما أثبتته تحقيقات أستاذ الفلسفة الألمانية بفرنسا، السيد إبير، كانت معتنقة للعقيدة البروتستانتية؛ وبالبلاط كان يوجد شخص مكلف بنشر الإيمان الكاثوليكي، وهي مهمة رسمية، أي كان وراءها الفاتيكان، هذا الشخص هو فرانسوا بيوغي، لكنه كان متخفيا في صفة مرشد للسفير الفرنسي بالسويد. ثم إنه أيضا دكتور في علم اللاهوت. إن شكوك الأستاذ إبير حامت حول شخصين، الأول هو طبيب البلاط فان فولين، وقد كان هذا الأخير يكن كراهية لأفكار ديكارت العلمية والفلسفية، لأنه، أي هذا الطبيب كان قادما من هولاندا هو أيضا، وكان يتابع مناظرات ديكارت وانتشار أفكاره التي لم يرتح لها، هو وعلماء لاهوت كثر بهولاندا، رغم أنهم كانوا بروتستانتيين. يضاف إلى هذا أن العناية التي حظي بها حضور ديكارت من قبل أميرة البلاط كريستين، زاد من حقده على الفيلسوف بفعل الغيرة. والتقرير الذي أنجزه الأستاذ إبير انطلاقا من تحقيقاته التي أجراها بالمكتبة الوطنية الحالية بالسويد، والتي كانت هي مكتبة البلاط في عهد الأميرة كريستين، وانطلاقا من الأبحاث التي قام بها على الأرشيف الأوروبي والتي بها استطاع الحصول على شهادات لأطباء أخصائيين، هذا التقرير يقر بكون موت ديكارت لم يكن بالشيء الطبيعي؛ فرغم أن تقرير طبيب البلاط هذا، أي السيد فان فولين، كان انتهى إلى أن الفيلسوف مات بالداء المذكور سالفا، فإن تحقيقات وأبحاث إبير تثبت أن الأعراض التي بدت على ديكارت أثناء مرضه لم تكن تشي بوجود داء الالتهاب الرئوي، وإنما تثبت أن الفيلسوف تعرض لتسمم. فهل طبيب البلاط هو من سمم الفيلسوف؟ استبعد الأستاذ إبير هذه الفرضية، بدعوى أن الفيلسوف لم يفتح بابه لهذا الطبيب إلا بعد ثلاثة أيام من مرضه؛ الشيء الذي يجعلنا نستنتج أن ديكارت كان يأخذ حذره من هذا الرجل، لأنه كان عالما بالحقد الذي يكنه له. بقي الشخص الآخر، وهو القس فرانسوا بيوغي، المتخفي في صفة مرشد السفير الفرنسي. فهذا الأخير، حسب أبحاث وتحقيقات الأستاذ إبير، دائما، كانت له بين الحين والآخر سجالات مع ديكارت حول أفكاره، ولا ننسى أن مهمته الأساسية كانت تتمثل في تغيير عقيدة الأميرة كرستين من البروتستانتية إلى الكاثوليكية في إطار الصراع الدائر آنذاك بين العقيدتين؛ حيث كان هذا الصراع يتطلب خلق نوع من التوازن أو إخلاله لصالح الكاثوليكية، وكانت وراء كل هذا رهانات سياسية. فأن تتحول الأميرة من البروتستانتية نحو الكاثوليكية، فذلك كان يعني أن مملكة سويد ستصبح كاثوليكية، وهذا أمر مهم بالنسبة للفاتيكان آنذاك. لكن ما علاقة هذا بديكارت كفيلسوف؟ إن الأفكار الجديدة التي كان الفيلسوف بدأ ينشرها وتلقى إقبالا من طرف الكثير وبينهم الأميرة، كان من شأنها أن تؤثر على تغيير هذه الأخيرة لعقيدتها. فالفيلسوف معروف أنه تبنى أفكار غاليلي في الفيزياء والفلك، وهي أفكار كانت تتعارض مع بعض المسائل الواردة في النص المقدس، وكان في نيته أن يستبدل ميتافيزيقا أرسطو التي تبنتها الكنيسة المسيحية حينذاك. ويبقى السؤال، كيف تمكن هذا القس من دس السم للفيلسوف؟ أبحاث الأستاذ إبير وتحقيقاته أثبتت أنه خلال حفل قداس تناول ديكارت من يد القس فرانسوا بيوغي خبز الذبيحة؛ وشهادات كثيرة أثبتت أن هذا الخبز كانت فيه فعلا قطرات من السم. هل انتهى الأمر هنا؟ في صيف 2010 سينهض كثيرون للاعتراض على أطروحة الأستاذ إبير، الذي هو بالمناسبة مهتم بفلسفة ديكارت وله مؤلف حول فلسفته. وممن اعترض على هذه الأطروحة أو الفرضية إن شئنا القول فريدريك دو بوزون مؤلف كتاب ديكارت والمبادئ، وكذا إدوارد ميهل، مؤلف كتاب ديكارت ورؤية العالم . وهكذا فعوض عقد محاكمة رمزية لهذا القس، أصبح الأستاذ إبير هو من يُحاكم، لكن هناك حجة، هي لصالح فرضية هذا الأخير، مؤداها أن الأميرة كريستين اعتنقت الكاثوليكية أربع سنوات بعد موت ديكارت. وبالنسبة إلينا، فكيفما كان الحال، تبقى هذه فرضية، لكن المهم هو البحث والتحقيق الذي كرس له الأستاذ إبير نفسه، والذي يستحق أن تكتب حوله رواية، وسوف تبهر القراء مثلما أبهرتنا اسم الوردة لأومبرتو إيكو الذي تناول فيها حرق الكتاب الثاني من شعر أرسطو، فما بالنا بقتل أحد كبار الفلاسفة. - – - – - – - * لكي يطلع القارئ على تفاصيل هذه القضية أكثر، يمكن له العودة إلى مقال جون بورغارت غوتال، المنشور بPhilosophie Magazine, No 41) Juillet- Aout 2010) . بقلم: محمد أبركان