أخي الأعز وأستاذي عبد الرفيع : أيها الأعزاء : كم كنت أتمنى أن اشارككم متعة هذه الاحتفالية ، برجل بصم تاريخ الكتابة الشعرية والصحفية في المغرب ، لولا سفري خارج تراب الوطن . وإذ أعبر عن اعتزازي الكبير لدعوتي للمساهمة في حفل تكريم إنسان عزيز على قلبي ، أبدي في الوقت ذاته أسفي الشديد ، كون التزاماتي المهنية الضاغطة ، حالت دون تحقيق رغبة دفينة ظلت تراودني في ان أتحدث عن الأستاذ عبد الرفيع في مجمع مراكشي، وتحت أسوار هذه المدينة التي ظللتني سماؤها ، وغمرني نورها طيلة واحد وأربعين عاما من عمري فيها، وتحديدا عمري الإنساني والثقافي والإعلامي ، الذي تقاسمته مع العديد من وجوهها ورموزها، وفي طليعتهم سيد الكلمة البليغة ، وفارس القول والعبارة ،العزيز عبد الرفيع جواهري ، أو عبدالرفيع الجوهري، كما تعود الناس أن ينطقوها ، تقليدا للمذيعين، وبتأثير من مجده الإذاعي الخالد، الذي شبت عليه أجيال من المغاربة . حين تلقيت دعوة للمساهمة بكلمة في هذه الاحتفالية التكريمية الجميلة ، تملكتني الحيرة حول محتوى هذه الكلمة ، نظرا لكون العلاقة الإنسانية والثقافية التي جمعتني بالأستاذ عبد الرفيع ، تمتد عبر ثمان وثلاثين سنة، بالتمام والكمال ، اقتربت فيها من المحتفى به، اقتراب التلميذ من الاستاذ، او المريد من الشيخ ، كما يقول أهل الصوفية.فلقد كان العزيز عبد الرفيع، هو الراعي والمحتضن الاول لمحاولاتي الأدبية الخجولة في منتصف السبعينات، حيث تعهدني بجميل النصح والتوجيه والرعاية، قبل ان تجد أولى كتاباتي الشعرية والنثرية طريقها للنشر على يديه ، في جريدة «المحرر» بين 1976 و1981، وهو التاريخ الذي سيشهد ولوجي تجربة الانتاج الإذاعي ، بتشجيع منه ، وبدعم كبير من الاعلامي المقتدر الأستاذ احمد الريفي،الذي كان على راس إذاعة مراكش في اجمل سنوات تألقها وإشعاعها، والذي انتهز هذه المناسبة، كي ابعث اليه بتحية الامتنان والعرفان، على ما فتحه أمامي من آفاق في المجال الإذاعي، لا يضاهيها الا احتضاني من لدن سيد الكتاب الصحفيين المرحوم عبد الجبار السحيمي ،الذي أكرمني بجميل عطفه وعنايته ، فأصبح اسمي أليفا على الصفحتين الاولى والأخيرة للغراء العلم» وملحقها الثقافي الأسبوعي. فكانت أياما مجيدة لاتنسى في مساري المهني والشخصي. مازلت اذكر كيف كنت أزور الاستاذ عبدالرفيع في مكتبه كل مساء، وأنا لم اتخط بعد سن السابعة عشر من عمري،انتظر انصراف موكليه، كي اسعد باللقاء معه والاغتراف من فيض ثقافته الأدبية والسياسية والقانونية ، فكانت تلك اللقاءات بمثابة دروس يومية لي، في الفكر والأدب والسياسة والحياة، أسعدتني الأقدار أن اتلقاها مباشرة من رجل ، كانت لاسمه ومازالت، رنة خاصة في أسماع الناس وضميرهم، وبذلك أستطيع ان أقول اليوم من باب الاعتراف بالجميل، أنني مدين لهذا الرجل في جزء كبير، بما حققته في مساري الإنساني والمهني، حيث كان له الفضل في احتضاني، وانا أتدرج في محطات حياتي ، منذ ان كنت تلميذا في مرحلة الإعدادي والثانوي ، ثم طالبا في كلية الآداب، إلى ما أعقب ذلك من تجارب في مسار اهتماماتي الثقافية والإعلامية والمهنية .واني أتساءل اليوم : اي اتجاه كانت ستأخذه وجهتي في الحياة ، لولا ان أسعفني ذلك الحظ الناذر بالتعرف على الاستاذ عبد الرفيع، والتمكن من الظفر بعطفه وثقته ورعايته ، خاصة وانه كان وقتها موزعا بين عدة جبهات، بحكم مسؤولياته السياسية على رأس تنظيمات حزبه في مراكش، علما أنه لم يجعل يوما من الروابط الحزبية، معيارا للتعامل مع الناس، وخاصة مع الطاقات والمواهب الأدبية الشابة، التي كان حريصا على دعمها وإسنادها وتشجيعها، مع احترام استقلاليتها وعدم استثمار ذلك في أي استقطاب حزبي . لقد عرفت الاستاذ على امتداد مرحلة غير قصيرة . ومثلما كان له النصيب الأكبر من الفضل ، في تربيتي وتكويني وصقل ميولي الأدبية والإعلامية ، وتنمية حسي السياسي، ومساعدتي على الفهم السليم للعديد من الأمور، حتى بات يمثل بالنسبة إلي، صورة الأب الروحي أو الأخ الأكبر، كذلك أستطيع أن أزعم اليوم أمامكم، انني استطعت الاقتراب من هذا الرجل الفذ، ليس فقط كقامة ادبية وفكرية وإعلامية ، وإنما اقتربت منه أيضاً كإنسان، وعشت معه والى جانبه لحظات ومواقف إنسانية، ربما لم تتح لغيري سواء من أصدقاءه في مراكش او خارجها، بل ربما لم تتح حتى لجزء من أفراد أسرته الصغيرة ، حيث شرفني هذا الرجل بثقته التامة في ظروف صعبة وحرجة، اجتازها عبر مساره السياسي والحقوقي ، فشاءت الأقدار أن يتحول التلميذ، إلى مستشار مؤتمن لدى أستاذه ومربيه .وهنا لن أطيل، لان ما عشته وعايشته على هذا المستوى مع الاستاذ عبد الرفيع ، هو بححم الجبال والبحار، لسببين اثنين : أولهما مكانة الرجل وثقله الاستثنائي، وثانيهما حدة السياقات والارتجاحات التي أحاطت بمساره السياسي ونشاطه الصحفي والحقوقي، في مرحلة حرجة وصعبة ، عرفها المشهد السياسي المغربي، وأثرت على توازنات البيت الحزبي ، فكان لها وقع كبير على نفسية الاستاذ ، وعلى تقييمه للوضع العام، ولعلاقته بحزبه، وبعينية من النخب، مع كل ما رافق ذلك من أقدام الأستاذ عبد الرفيع ، في صمت وشهامة ، على الدخول في مرحلة من التأمل والمساءلة للذات وللآخرين، وهي مرحلة في حياته ومشواره السياسي والفكري، أنتجت لديه روية تراجيدية لمأساة السياسة والثقافة والقيم ،في أزمنة الانحدار . ولقد كنت أحظى لديه في هذه المرحلة ، بقرب خاص واستثنائي ، وذاك شرف لي لا أنساه ، حيث أتيح لي في هذه الحقبة الحرجة من مساره الغني والمتنوع، ان آكون شاهداً على شهامته ونبله، وعلى ما اتصف به من خصال الثبات، وفضيلة الصبر والتبصر ، وقوة التحمل والجلد ، وهي صفات لا يتمتع بها الا الرجال الكبار من ذوي النفوس الأبية، وعبدالرفيع واحد منهم . وقد عرفت فيه الرجل الذي لا يتبع المنافع، ولا يساوم في المبادئ ، ولا يقايض في أي شيء ، سواء تعلق الامر بممارسة السياسة، أو بمزاولة المهنة، او ببلورة قناعته، أو تحديد مواقفه من شخص او قضية ، بل كان نزاعا على الدوام الى الموضوعية في التحليل ، والاستقلالية في الرأي . وعرفت فيه الوطني الغيور على بلده وأمته، الحريص على الاعتدال ، النابذ للتطرف الفكري والسياسي، والرافض للغلو في الدين ، المتشبت بالدفاع عن استقرار الوطن وأمنه ومؤسساته المشروعة . ورغم حدة بعض كتابته الصحفية، الا انه لم يكن يفعل ذلك كسياسي يزايد علو البلد والناس ، وإنما كان ينطلق من وضعه وصفته ككاتب يعبر عن رأي دون تحريض ، ويدافع عن فكرة ، في قالب صحفي أو أدبي . لقد جرت حلقات دراسية عديدة احتفاء بالعطاء الغزير للأستاذ عبد الرفيع ،ولكن احتفالكم به اليوم في مراكش،، مسقط قلبه كما يحب ان يسميها، له اكثر من معنى ورمزية ، لانه يعكس وفاء نخبة هذه المدينة وأهلها للرجل ، وبرورها بسيرته وعطاءه بين أحضانها ، هو الذي عاش فيها الجزء الأكبر من تألقه الأدبي و الفكري والسياسي والإعلامي ، بعد مرحلة الإشعاع الإذاعي في الرباط.كما عاش فيها لحظات ضيق وألم ، ولحقه فيها نصيب من الأذى ، الذي لا يصدر إلا عن صغار النفوس، وهم موجودون في كل مكان وزمان، لكن عبد الرفيع جواهري ، ظل مثل اسمه ، جوهرة رفيعة من محتد أصيل ، لا تنال منها تقلبات الوقت أوتبدلات الأزمنة، جميلة كانت تلك الأزمنة أو رديئة . سأختصر الكلام عن سيد البلاغة شعرا ونثرا ، لأقول إن شخصية هذا الرجل الذي كان له ومازال ، حضور وازن في اكثر من واجهة وميدان ، يمكن ملامستها من زوايا عدة ومداخل مختلفة . أنه الرجل العصامي ، الذي غالب كل الصعاب، وواصل تعليمه الجامعي وهو موظف ، بعد ان ساقه القدر الى التوقف عن الدراسة ، والالتحاق بالعمل كمذيع في الإذاعة الوطنية بالرباط، فولج كلية الحقوق هناك ، وهي نفس التجربة التي سيكررها في مراكش ، حين امتلك شجاعة العودة إلى استكمال دراساته العليا في العلوم السياسية والقانون الاداري ، رغم انه بات معروفا كنجم كبير ، ومحام بارز ، واديب مقتدر يملأ الدنيا ، ويشغل الناس .وهذا احد مظاهر شخصيته العصامية المكابرة . عبدالرفيع، هو أيضاً الشاعر الرقيق المرهف ، الذي تجاوز نبوغه الشعري سنه، فكتب وهو في مرحلة مبكرة من شبابه ، أبهى الأشعار التي نامت على جفونها أجمل الأقمار ، وساهم بقدر وافر في صياغة وجدان ومشاعر أجيال من المغاربة، ولم ينافسه في ذلك احد على الإطلاق، لذلك أقول اليوم انه يستحق على ذلك وحده،تكريما ما بعده تكريم، وتتويجا وتوسيما ورد اعتبار، دون ان يحجب هذا الرصيد الإبداعي الرومانتيكي الجميل، رصيده الشعري الهائل كشاعر خلد المعاناة ، وتغنى بالقضايا والقيم الانسانية السامية والنبيلة. والأستاذ عبدالرفيع ،هو أيضاً الكاتب الصحفي الذي امتدت شعبيته الى كل الأوساط المجتمعية ، حيث كانت شراءح واسعة من القراء ، تواظب على قراءة زاويته الأسبوعية الشهيرة، نظرا لسخونة مواضيعها ، وأيضاً لقيمتها الأدبية الجذابة ، وأسلوبها المتفرد، فكان أن أسس الأستاذ ، من حيث يدري أو لا يدري، لفن الكتابة الصحفية والأدبية الساخرة ،تماماً كما فعل احمد المازني في مصر، أو زكريا ثامر في سوريا، أو نزار قباني في يومياته الصحفية على أعمدة مجلة «المستقبل « اللبنانية التي كانت تصدر من باريس. و عبد الرفيع ، هو المناضل الذي مارس السياسة بأخلاق ونبل ، وربما بكثير من الزهد الذي لا يقارن فيه ، سوى بالمرحوم محمد جسوس ، الذي لم يكن يطمع في غنيمة أو مجد ، من وراء ممارسة العمل السياسي . و عبد الرفيع ،هو أيضاً الناشط الحقوقي الذي كان يزاول عمله هذا ، بأمانة ومسؤولية وحكمة وتبصر ، بحيث يسعى للخير والفضيلة ، وحفظ الكرامة الانسانية، دون السقوط في التبعية للخارج ، أو المزايدة على اجهزة الدولة ،والتشنيع بها، والتحريض المقيت عليها ، أو الدخول في ممارسات كيدية وانتقامية وارتزاقية، بقصد الإساءة الظالمة لصورة البلد، وعبد الرفيع ،هو كذلك رجل القانون المقتدر ، والمحامي اللامع الذي يتوفر على قدرات مهنية عالية في اعداد مذكراته القانونية ، وقدرات مبهرة في الترافع أمام القضاة، ببلاغة ناذرة ، وبأسلوب يجمع بين العمق القانوني في التحليل ، وبين الفصاحة في التعبير والدقة في عرض الوقائع ، والقوة في الإقناع والتأثير ، يترافق كل ذلك مع المظهر الجذاب ، والأناقة في اللباس ، والحرص على احترام هيئة المحكمة ، لذلك كنت أشاهد كيف يتسابق زملاؤه من خيرة. المحامين بينهم نقباء ، للاستمتاع بسماع وتتبع مرافعات الأستاذ عبد الرفيع ، سواء في ملفات سياسية او ملفات أخرى تندرج ضمن قضايا الحق العام ، لكن فيضلك أساسية ظل متشبتا بها في سلوكه كمحام ، وهي النزاهة والأمانة والوضوح ، حيث عرف عنه انه لا يقبل الترافع في اية قضية ، اذ لم يكن يخضع لإغراءات المال ، بل كانت يعنيه أيضاً الحرص على صورته كمحامي يمارس مهنته بخلفية فكرية وأخلاقية، ولي مع ذكريات في هذا الشان ، شاهدته فيها يهرب من المال ، حفاظا على سمعته وشرفه المهني . وساختم بعبدالرفيع الانسان ، ذلك الرجل الطيب الغارق في الوداعة واللطف، الحريص على عهود ً الصداقة ، مهما بعدت الدار وشط المزار ، أو قل الاتصال .وهو في ذلك لا يبدل القول ، . اذا فعل معروفا في أحد ، ينسى ذلك ولا يمن به ، وإذا عمل معه أحد معروفا ، أو ازره صديق في موقف أو واقعة ، ظل هو يرددها ويذكرها في افضال صاحبها . لكن عبد الرفيع الأب ، ومسؤول عن أسرته ، يقدم الرجل الديمقراطي المتفتح ، بحيث أتاح لأبنائه ان يكتسبوا شخصيتهم المستقلة ، دون ضغط او ترهيب، ماعدا ما تقتضيه مسؤولياته التربوية والأخلاقية كاب.ولأنه كان اشتراكيا حقيقيا ، فقد وزع ملكية بيته بالتساوي ، على جميع فلذات كبده ، وعشت معه مواقف ناذرة ، تصرف فيها كاب عظيم ومثالي ، وأني اغبط أسرته على هذه النعمة ، واهمس في أذن نجله الطيب الذكر ، الأستاذ هشام ، شبيه ابيه في الأناقة والتبوغ ، لأقول له : خذ بالك من الوالد ومن المكتب ، هناك في عمارة السيد «روكس» بشارع حمان الفطواكي، فان تاريخا طويلا ومجيدا يرقد هناك . سيدي عبدالرفيع عندما تتلى أمامك هذه الكلمات التي كتبتها على عجل ، آكون أنا في طريقي الى موسكو العزيزة على قلبك. ثق بي كثيرا ، فإني لن أنسى أن أنقل سلامك الى «Olga» ، وأعيد على مسمعها تلك القصيدة التي تغنت ذات زمن اشتراكي منسي ، بعيون « Olga». أما المواطنة الروسية ، عاملة الصباغة ، التي كنت قد كتبت يوما تشيد بها ، فلا أعرف اسمها ،ولا عنوانها، ولا أعرف إن كانت مازالت تصبغ جدران موسكو أم طواها الزمان …. عليك مني السلام، أيها الرجل الطيب….شكرًا لكم … * صحافي – مدير الدراسات بوزارة الاتصال