في هذه النقطة بالذات، كان طه حسين يُنَبِّه للأساس الذي سيُبْنَى عليه مستقبل التلاميذ، والأفق المعرفي الذي سيكون طريقه نحو الجامعة، ونحو المهام الجليلة التي يمكن أن يتحمَّلَها على عاتقه. ألحَّ طه حسين على ضرورة ترك التعليم مفتوحاً في وجه من يرغبون في استكمال تعليمهم، وما دامت لهم الرغبة في التحصيل، وفي الوصول إلى أعلى الدرجات. فالأمر يبقى في يد المُتعلِّم، وفي ما له من قدرات ذهنية، وليس في يد الدولة، أو الوزارة التي تغلق الباب في وجهه، أو تضع شروطاً لمنع الراغبين في استكمال تعليمهم من الالتحاق بالجامعات والمعاهد العليا. وكانت فكرة إنشاء مجلس التعليم الأعلى، من اقتراحه، بما يكون فيها من تمثيلية لجميع فروع التعليم، وحتى ممن ليسوا من وزارة المعارف، ممن لهم صلة بالموضوع، أو يمكنهم أن يكونوا سَنَداً للمدرسة. وقد اعتبر طه حسين أن المُراقَبات [الفروض] ينبغي إعادة تنظيمها، والبحث عن طرق جديدة في طرحها، وكذلك إصلاح نظام الامتحانات. وكان يعتبر الامتحان، وسيلة، وليس هو الهدف، أو الغاية. فبناء الشخصية المصرية، ما دام الكتاب يتوجه للمصريين، مشروط بتعليم قوي، وبما يخضع له التعليم من إصلاح، ومن إشراف حكيم، يكون فيه لذوي الخبرة، والمعرفة دور، وهو ما كان طه حسين يعتبره، بشكل أو بآخر، بين شروط نجاح هذا القطاع الحيوي والهام. المجتمع المنتج، النَّامِي، هو المجتمتع المبني على العلم والمعرفة، لا على أمور بعيدة عن هذين الشرطين. في الكتاب كثير من الأفكار التي لا يسمح المكان بعرضها كاملةً، رغم أهميتها، كما أن ما جاء في هذا الكتاب، رغم صدوره في الثلاثنيات من القرن الماضي، لا زال صالحاً لزمننا، ولتعليمنا، في المشرق، كما في المغرب، طبعاً مع تحيين كثير من الأفكار، بما يقتضيه ما حصل من تطور، وما ظهر من طرق، ومناهج، وإمكانات، لم تكن مُتاحةً في زمن طه حسين. لم أذهب لطه حسين لأتكلم عنه في ذاته، فأنا كنتُ كتبتُ أكثر من مرة عن هذا الرجل، اعترافاً بجميله عَلَيَّ، وبما تعلَّْمْتُه منه، من محبَّة للمعرفة والعلم، ولكن لأقف عند حالة العَطَب التي وصل إليها تعليمنا، ليس بما يعرفه من تراجع، وتَدَنّ، بل لأُذَكِّر بأهل مكة، وبما يعرفونه من شِعابٍ، لا يمكن أن يعرفها غيرهم ممن وجدوا نفسهم وزراء بالصُّدْفَة، أو بحكم ولاءاتِهم، وما يُجيدونه من اقتناص للريع السياسي، ما يجعل من إشرافهم على القطاع، عالةً عليه، وعلى رجالات التعليم، هؤلاء الذين، هم بدورهم، مخما تكن قيمة التضحيات التي يقومون بها، يحتاجون للتكوين، ولتجديد معارفهم، وتحيينها، بما يحدث ويجري في مجال التربية، وفي مجال المعرفة عموماً، وهذا ما تتحمَّل فيه الوزارة الوصية المسؤولية الأولى، كما يتحمَّل فيه المُدَرِّس، أيضاً، المسؤولية، خصوصاً، في تكوين نفسه بنفسه. ليست المدرسة حقل تجارب، وليس تغيير سياسة التعليم، ومناهجه، قراراً يتَّخِذه هذا الوزير أو ذاك، بما يُمليه عليه مزاجه، فالأمْر أخطر مما نتصوَّر، لأن المدرسة هي مَشْتَلٌ بشري، وأي خلل يقع في غرس النبتة، أو تحريفها عن تربتها، سينعكس على الغابة بكاملها، وسنجني ثماراً فاسدة، أو غير ذات طَعْمٍ، ولا فائدة. هذا ما يفرض عليَّ، أن أُنَبِّه إلى أن يكون الذين يتحمَّلون مهمة هذا القطاع الخطير، أن يكونوا مثقفين، متملكين لما يكفي من المعرفة والذكاء، واقتراح الأفكار، لا أن يكونوا دَرَكِيِّين، يتركون القارب يغرق، وعينهم على من يُقاومون الغرق، أو يعملون على تفادي الغرق، أعني نساء، ورجال التعليم، دون استثناء. يحتاج التعليم، عندنا، لإرادة وطنية، ولإشراك المعنيين بالقطاع، أعني أهل مكة، وغيرهم من أصحاب الخبرة ممن لهم صلة بالقطاع، من مثقفين، وكُتّآب، ومفتشين، ومُدرِّسين، وخبراء في مجال التربية، وإداريين، ورجال أعمال، وشركات بنكية، وغير بنكية، ومؤسسات المجتمع المدني، والنقابات، والأحزاب، طبعاً، دون مزايدات، فالأمر لا يحتاج للمزايدات، ولا لغيرها مما كان من أسباب تعطيل المدرسة، فكل هؤلاء، يمكنهم أن يكونوا شركاء، في البناء، وفي إخراج القارب من الأوحال التي وضعه فيها هؤلاء الذين جاؤوا إلى وزارة «المعارف»، بدون معرفة، ولم يكونوا معنيين بالإصلاح، بقدر ما كانوا مشغولين بالحروب، أو باختلاق حروب ومعارك، في كل اتِّجاه، لم نكن في حاجة لها، خصوصاً في مؤسسات لم تَشْك من أي خَلل في سيرها، ولا ممن يعملون فيها، من أساتذة ومُدَرِّسينَ، ما زاد بالأسف من توثُّر الجو العام للمدرسة، في الأقسام، كما في الإدارات، كما في قطاعات أخرى لها علاقة بالوزارة، وهذا يعود، في اعتقادي، لغياب وضوح في الرؤية، وللرغبة في الانتقام، وتصفية حسابات، لا يعرفها، ولا يعرف خلفياتها إلاَّ من أشعل هذه المعارك والحروب.