قبل أيام حلَّت ذكرى رحيل «عميد الأدب العربي»، الدكتور طه حسين، قليلون هم الذين انتبهوا إلى هذه اللحظة، ليس لأنها واجب أو ضرورة، بل لأن طبيعة المرحلة تستدعيها. كان طه حسين، رغم تكوينه الديني في إحدى المؤسسات التقليدية العتيقة، أكثر جرأةً في اختيار فكر الحداثة والتنوير وفي نقد الفكر السائد ومراجعة « الأصول «، ليس في الشِّعر والأدب فقط، بل في الفكر والنقد والتربية والتاريخ. لم يكتف «العميد»، وأنا هنا أؤكد على هذه الصفة، التي هي إحدى الصفات التي لا يمكن تفاديها في الحديث عن هذا الرجل، بالكتابة في هذه المجالات فقط، أو حين اختار أن يكون «أكاديمياً»، كما يتخفى الكثيرون وراء هذه الصفة دون غيرها، فهو كتب في السياسة، وشارك فيها، بالفعل، وكانت السياسة وَبالاً عليه، في أكثر من مناسبة، كما يُقال، فهو كان حين يكتب في موضوع ما، يكتب بنفس قَناعَاتِه أو اختياراته، التي لم يتنازل عنها، أو يتنكَّر لها. عندما دُعِيَ إلى تحمُّل مسؤولية وزارة «المعارف»، أو التعليم، فقد قَبِلَ المنصب بشروطه ووفق قناعاته وأفكاره، وليس بشروط «الملك». يعرف الجميع ما فعله هذا «الكفيف» في التعليم وكيف حرص على جعل التعليم، وفق شعاره الشهير، كالماء والهواء، أي بتعميم التعليم ومجانيته، ليشمل كل فئات الشّعب. ويعرف الجميع، أيضاً، الجامعات والشُّعَب والتَّخَصُّصات التي استحدثها في التعليم الجامعي. لم يكن طه حسين وزيراً دون مشروع، فقد دخَل الوزارة وفي يده مشروع ثقافي تعليمي تربوي متكامل، وقد دافع عن مشروعه هذا بروح قتالية لم تعُدْ موجودة اليوم في كثير ممن يقبلون المناصب، دون شروط، أو يفتقرون إلى بُعد النظر، رغم ما يملكونه من معرفة أو من أفكار، يتركونها خلفهم ويكتفون بالمناصب، كما يحدث عندنا في كثير من المناصب الوزارية، وأكتفي بالإشارة إلى وزير الثقافة، الذي كشف تدبيره للوزارة عن فقرٍ في التجربة وفي تحويل الفكر إلى عَمَلٍ، وهذا مَقْتَل الكثيرين ممن يكونون أكاديميين أو مثقفين، دون خبرة في التدبير والتسيير الإداريين. تكفي العودة إلى كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر»، ليدرك هؤلاء أن الكثير مما جاء في الكتاب كان سابقاً لأوانه وكان ثورةً، ليس في التعليم فقط، بل في مختلف مجالات الحياة، الاجتماعية والثقافية، لأن العميد، في كتابه هذا، لم يكن يضع نصب عينيه التعليم كمؤسسة منفصلة عن محيطها، بل إنه رأى فيه مكمن الدَّاء وأساس ما كان يعتري المجتمع من معضلات، كما كان أستاذ محمد عبده قد أكد ذلك من قبل. تجاهل الذين جمعوا كتابات العميد رسالته التي كان قد وجَّهها للملك وفيها أبان عن انحيازه إلى الشعب أو للعامة. انتقد طه حسين، في الرسالة، عزلة الملك عن الشعب وابتعاده عن المشاكل العامة التي تعتري البلاد. كما فضح الوضع الذي وصلت إليه البلاد، ولم يكن مهادناً ولا مراوغاً، فقد حرص على أن يقول ما ينبغي أن يُقال، وبنفس أفق الفكر الذي شغله، وبنفس رؤيته النقدية التي لم يتنازل عنها، رغم ما تَعرَّض له من فَصْل ومحاكمة وإقصاء. فهو كان صاحب فكر، ما أهَّلَه ليحظى باحترام مختلف الأجيال. فما قاله من قبل عن الملك لم يكن في مستوى ما رغب فيه، لذلك جاءت رسالته عاصفة وقويّة، تسير وفق رؤيته، كمثقف انحاز إلى الشعب في مواجهة النظام.