لعل في استحضار هذه المرحلة وفي استحضار مثقفيها، من أمثال طه حسين وغيره من أفراد جيله، ما يمكنه أن يكشف عن الدور الذي كان يلعبه المثقف في الانتصار للشعب ولمصالح الشعب. وحتى عندما كان بعض هؤلاء، ومنهم طه حسين، يتحملون مسؤوليات في بعض مؤسسات الدولة، فهم كانوا يدخلونها بمواقفهم وبمشروعاتهم، وكانوا يحرصون على وضع مواقفهم على محك هذه المسؤوليات. المثير في موقف طه حسين من الملك وما أحدثته الرسالة من ردود فعل هو تعيين طه حسين وزيرا للمعارف (التعليم)، في حكومة الوفد، بعد مرور ثلاث سنوات على كتابة رسالته إلى الملك. كان جواب طه حسين، لمن نظروا إلى الأمر باستخفافٍ وتَنَذُّرٍ أو من حرصوا على تكريس التقليد وتثبيت الفكر السلفي، هو حرصه على تعميم التعليم ومجانيته، وهو ما اختزله في شعاره الشهير «التعليم كالماء والهواء»، وفي دعوته إلى ديمقراطية التعليم واستقلال الجامعة. لم يكن وزيرا بدون مشروع، أو وزيرا ينفذ الأوامر، فهو حين قبل بالوزارة كان يعرف ما سيفعله، وكان على استعداد للتراجع إذا ما رأى أن مشروعه غير قابل للتنفيذ أو أن الوزارة تتعارض مع أفكاره وطموحاته الثقافية والفكرية، ومع رغبته في التغيير وفي تكريس فكر الحداثة والتنوير. لا يمكن لأي كان أن ينكر الدور الذي لعبه طه حسين في خدمة التعليم وفي إعادة النظر في مناهج الدراسة والمقررات المدرسية، حتى قبل أن يصير وزيرا للمعارف، وما قام به من إصلاح في الجامعة، والأثر الكبير الذي تركه في الحياة العلمية والفكرية العامة، والصراعات التي خاضها مع المؤسسات التقليدية التي وقفت ضد مشروعاته التنويرية. لم يكن مشروعه يكتفي بالمدرسة أو بالجامعة، بل إنه كان مشروعا مجتمعيا، يضع الثقافة والتكوين المعرفي ضمن أولوياته أو يعتبرها إحدى مقدمات التنوير. الرسالة التي كان توجَّه بها إلى الملك لم تكن بدافع الوصول إلى الوزارة، فهو دخل إلى الوزارة عن طريق الوفد، وهو كان أحد أعضاء الوفد، وله علاقة بزعمائه، وهم كانوا يعرفون مواقفه واختياراته، كما خبروا قدرته على النقد والمواجهة حتى حين كان على خلاف مع الوفد، كما أن وجوده في الوزارة لم يكن عبئا على الوفد، ولم يترك لخصومه، من المثقفين والسياسيين ورجال الدين، ما يدفعهم إلى انتقاده أو إلى اعتبار رسالته هي من قبيل الرغبة في الحصول على مكاسب. في تصوري الشخصي أن طه حسين كان ضمن القلائل من المثقفين الذين لم تكن كتاباتهم غير ما يفعلونه، فهو جمع بين الفكر والممارسة، وحتى حين اختار الليبرالية فهو كان يعرف حدود الحرية التي ستتيحها له، وأيضا حريته في اختياراته السياسية، قياسا بما كان سائدا من قيود في غيرها من مذاهب. في الرسالة، كما في الدور الذي قام به في الوزارة ما يشير إلى الدور التنويري الذي لعبه ليس في حياة المصريين، بل في الثقافة والفكر العربيين. لعل في اختيار الفكر الحر وفي اعتبار النقد أداة تنويرٍ وكشف، ما جعل من كتابات طه حسين تبقى سارية المفعول، رغم ما يمكن أن نرفضه منها اليوم أو ننتقده أو نعتبره غير مفيد لزمننا أو متجاوزا في رؤيته ومفاهيمه، بما في ذلك ما جاء في كتابه «في الشعر الجاهلي». مازالت بعض كتب العميد ممنوعة ومصادرة في بعض الجامعات والمدارس العربية، لكن الفكر النقدي الذي كرَّس له طه حسين حياته، في الفكر كما في السياسة وفي الحياة العامة، كان بين ما ساهم في خلق أفق فكري جديد، وساهم، بشكل لافتٍ، في رفض المُسلمات واعتبار اليقين أداةً لا تصمد في مواجهة الشك. كما أن طه حسين هو نموذج للمثقف الذي، بقدر ما ساهم في الحياة العامة وفي العمل السياسي، بشكل مباشر وفعلي، وعمل بالصحافة، فهو حرص على أن يكتب بوعي نقدي في مجالات الفكر والأدب، وأن يكون مشروعه شاملا أو يُساير متطلبات «النهضة» التي كان منخرطا فيها بوعي تاريخي لم يتوفر للكثيرين ممن اكتفوا بالكتابة والتأليف خارج هذا النوع من الوعي.