في الحلقة الثانية من ذكرياته، حدثنا الدكتور عبد السلام الهراس عن أحداث طفولته، ورأينا كيف كانت تحرص الأسر المغربية على تعليم القرآن حتى للفتيات، ورصدنا معه بعضا من المشاهد التي جرت له مع رجال الجيش الإسباني، الذين كان أطفال شفشاون يرشقونهم بالحجارة. وفي هذه الحلقة الثالثة نرحل مع الدكتور الهراس إلى مدينة فاس لنعرف بعضا من أصدقاء دراسته، ونتعرف معه على شغفه هو وزملاؤه بالمشرق العربي. قوافل من المهاجرين من الريف كانت في مدينة شفشاون علاقة طيبة وجيدة بين المسلمين واليهود، وقد عرفت المدينة، بعد الحرب الأهلية الإسبانية، هجرة كبيرة لليهود إلى تطوان خصوصا وغيرها من المدن، ولم يبق فيها إلا يهوديان أحدهما كان يصنع البرادع وآخر كان له مقهى، أما اليهودي الثالث فكان يشتغل بصياغة الذهب والفضة أسلم فيما بعد وحسن إسلامه ومات مسلما. وظلت علاقة بعض الشفشاونيين ببعض أصدقائهم اليهود وهم بتطوان متواصلة إلى الجيل الثاني، ومازلت أذكر أوائل الستينيات بتطوان كيف كان يستقبل يهودي ابن صاحبه الشفشفاوني ويقدم له خدمات مهمة. ولما جاءت الحرب العالمية الثانية، تأثرنا بها كثيرا من حيث ضنك المعيشة واشتداد الغلاء وانتشار الأبواء، وكانت إسبانيا الفرنكوية تساند ألمانيا وأرسلت فيلقا لقتال روسياسحق هناك سحقا، ولم ينج منه إلا قليل منهم، وأعرف واحدا من الناجين كانت أمه تدير فندق الموقف ِفْفلُْ بشفشاون وحكت لنا ونحن صغار هول الحرب والمعارك التي خاضها، وما زلت أذكر وعمري إذاك حوالي تسع سنوات أن جريدة الحرية، التي كان يصدرها الأستاذ الطريس، كتبت عنوانا بخط عريض: >سقوط خط باريس<، يعني اقتحام الجيش الألماني لخط ماجينو الذي كانت فرنسا تعتمد عليه في صد الجيوش الألمانية، وقد صرح رئيس الدورة الفرنسية الجديد، الجنرال بيتان، كما قرأت كتاب الشيخ عبد الله دراز الدين الدين، أن فساد أخلاق الشعب الفرنسي هي التي هزمته، وكانت فرحة كبيرة بالنسبة لنا وللإسبان، ولا سيما الحكومة الإسبانية ومن يناصرها لأنهم كانوا يتمنون سقوط فرنسا، لأسباب تاريخية وسياسية، وصاحبت هذه الحرب العالمية الثانية بالمغرب موجة خطيرة من مرض التيفوس الذي حصد الكثير من الأشخاص، وأعقبته هجرة كبيرة من الريف، ومات الكثير من المهاجرين في الطريق، ومنهم من تخلى عن أبنائه، وكانت هناك قوافل من البشر تمر كل يوم، وانتشرت في المغرب، وهناك من قال إن منهم من وصل إلى الجزائر. وماتت عائلات عن آخرها بسبب مرض التيفوس، الذي لم تسلم منه عائلتنا، حيث أصيب به أبي رحمه الله، لأن أمي عليها رحمة الله اهتمت بامرأة قريبة منا بقيت وحيدة، فأتت بها إلى بيتنا، وهي لا تعلم أنها مصابة بمرض معد هو التيفوس، وسبحان الله، فرغم أن أمي كانت هي الأكثر احتكاكا بهذه المرأة المريضة فلم يصبها شيء، بينما أصيب به أبي، ولكنه والحمد لله اكتسب مناعة مكنته من صحة أجود، ولم يمت إلا سنة ,1973 أي بعد 28 سنة. ومما كان يحز في نفسي الشقاق الذي وقع بين الوطنيين، خصوصا بين حزبي الإصلاح والوحدة، وكنت أحبهما معا، لأنهما استطاعا أن يهيئا أرضية طيبة، وكان المجتمع الشفشاوني مجتمعا محافظا جدا، ومازلت أذكر أول امرأة حضرت إلى هذه المدينة لتعمل معلمة وكان اسمها السيدة رحمة المدني، وكانت معروفة باسم رحيمو، تزوجها الترجمان عبد السلام الأندلسي الذي كان يشتغل بإدارة المراقبة الإسبانية، وبالمناسبة فهو الذي كان يقوم بالترجمة بين زعماء قبائل أبا عمران والقائد الكباث (الكباص) لإبرام اتفاقية نزول الإسبان بسيدي إفني في سنة .1934 وقد عاشت الأستاذة رحيمو إلى الثمانينات وماتت بسكتة قلبية في محطة تطوان رحمها الله وزوجها. وكانت أول معلمة تعلم البنات في مسقط رأسي، وأعرف أيضا أولى البنات اللائي بدأن يدرسن هناك، كانت المدرسة قد أنشئت بين حيي الخرازين والأندلس، يدرس القرآن فيها معلمون كبار السن ومعروفون بالصلاح والاستقامة، وكانت كل بنت تذهب معها مرافقة توصلها من وإلى بيتها، وقد سميت هذه المدرسة فيما بعد مدرسة الأميرة فاطمة الزهراء، وهي الأميرة التي توفيت أخيرا رحمها الله (ابنة السلطان المولى عبد العزيز).
شغف بالشرق منذ الصغر من أهم وأعز العلاقات الحميمية التي نسجتها في الطفولة، تلك التي جمعتني بأخي وصديقي العزيز الأستاذ عبد القادر العافية، ولا أنسى كذلك رجلا كان له علي تأثير طيب وهو أخي الأستاذ عبد القادر الخزاني، الذي مات رحمه الله، وهو خطيب مسجد بمدينة برشيد، وهو أول من علمني الكتابة رحمه الله وكان يحوطنا بعناية كبيرة جدا ويغرس فينا حسن الخلق، وكان معنا في شفشاون بعض إخواننا يبثون فينا حب الشرق، وعلى رأسهم الأستاذ أحمد بن الأمين العلمي، هذا الرجل كان إذاك ذا ثقافة عالية، وكان يبث فينا حب المغامرة للذهاب إلى مصر ونحن صغار، وكان يطلعنا على المعارك الأدبية بين طه حسين ومصطفى صادق الرافعي، وهو الذي حببنا في هذا الأديب الكبير، وحببنا في كثير من الكتب، وكان يطلعنا على آخر ما استجد في مصر من إنتاجات أدبية، وكان مولعا بالكتب والجرائد، وخصوصا جريدة الوحدة المغربية، التي كنا نقرؤها ونحن صغار، وكان خالي رحمه الله يبيع هذه الكتب وغيرها في مكتبته بالسويقة، وكذا جريدة الريف والحرية، وكنا أيضا نقرأ كتب الجغرافية المصرية. وما زلت أذكر العرس الحافل الذي لم تشهد تطوان مثله إلى الآن فيما أظن، وهو عرس الأستاذ عبد الخالق الطريس، وكان أواخر الثلاثينات، فقد كانت مناسبة شعبية فريدة، ولعل هذا العرس دائما أسبوعا، وقد حضرته مع خالي الذي لازم تطوان هذا الأسبوع كله مع جميع الوطنيين بالمنطقة الخليفية، وكذلك من خارج المنطقة، ومازلت أذكر بعض الليالي التي كانت خاصة بالطوائف والأجواق المغربية والإسبانية، وقد خصص يوم للإسبان ويوم للطائفة اليهودية. لقد كان عرسا برمكيا، أما عرس الخليفة السلطاني، المولى الحسن بن المهدي، الذي كان أواخر الأربعينيات، فلعله كان في مستوى الخلافة السلطانية، لا سيما وزوجه كانت الأميرة للا فاطمة الزهراء بنت المولى عبد العزيز رحمهم الله جميعا، إلا أنه قد شابته حادثة إلقاء القبض على بعض الوطنيين، الذين اتهموا بتدبير مؤامرة للقيام بثورة وجهاد، فألقى القبض على السيد محمد ريان، بارك الله في عمره، وعلى صديقنا الكبير الفقيه محمد اليمني مهدي، وعلى الصديق العياشي المجدقي، وفي طنجة ألقي القبض على الحافظ المحدث السيد أحمد بن الصديق، أما المجاهد الكبير والقائد الشجاع، السيد المفضل البينانو، فقد فر لطنجة، وقد حوكم المقبوض عليهم رحمة الله على من مات منهم، المهم أنني لم أحضر هذا العرس، وإنما كان الاهتمام بأخبار من قبض عليه أو فر من أهل بلدنا. لما وضعت الحرب أوزارها حل بشفشاون عالم جليل وكاتب وشاعر ولغوي ومحدث... واسع المعرفة، وهو الدكتور الشيخ تقي الدين الهلالي، وكان معروفا قبل ذلك بالفقيه محمد الفيلالي، كان الدكتور رحمه الله يعمل في الإذاعة الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان المذيع المغامر العراقي المشهور يونس بحري يطل على العالم العربي بصوته الذي يشبه صوت أحمد سعيد، مذيع صوت العرب إبان أمجاد عبد الناصر والثورة المصرية، وعندما انهارت ألمانيا فر الدكتور إلى بلده المغرب، ولكن إلى المنطقة الخليفية، وكان الوطنيون يقدرونه تقديرا كبيرا، وإليه يرجع الفضل في تنبيه الوطنيين المغاربة بأن يتخلوا عن مناصرتهم للمحور (ألمانيا إيطاليا اليابان) لظهور أمارات سقوط ألمانيا وقرب هزيمتها، وكان الدكتور رحمه الله يتوقع هذا السقوط لما شاهده وخبره من تطاحن داخلي بين التحزبات والتكتلات والاتجاهات الألمانية، ولأن ألمانيا من الأنظمة، كما يقول الدكتور في رسالة هامة أرسلها إلى الأمير شكيب أرسلان المقيم آنذاك بسويسرا الذي كان يراهن على انتصار ألمانيا من أجل تحرير البلاد العربية ثم الإسلامية. استقر الدكتور بشفشاون بنصيحة الطبيب إذ كان يعاني مرض الربو (الضيقة)، ونزل بفندقها الوحيد البارادور غير أن صاحبة الفندق ضاقت به ذرعا، ولعلها خافت لكثرة الزيارات وازدحام الناس على الفندق، فانتقل إلى السكن في بيت خالي، الذي كان إذاك قد فقد زوجته التي توفيت بمرض الصدر رحمها الله، وكانت متحضرة ذات خلق كريم، ولا تنسى أسرتنا هذه المرأة ما حيينا، وكانت من بيت عريق، وما زال الدرب الذي كانوا يسكنون فيه يسمى باسم أسرتهم: درب الأيسر (ليسار) لقد أحدثت زيارة أو إقامة الدكتور الهلالي رجة في شفشاون، حيث بدأت معركة بين السنة والبدعة، وبين التحرر والجمود، والسلفية والصوفية، وتحلق حول الدكتور بعض من سبق لهم أن كانوا طلابا في القرويين أو في شفشاون، ومنهم خالي، الذي أدخل لشفشاون قراءة القرآن جماعة يوم الجمعة، وقد كان الدكتور يعتبرها بدعة محرمة، وبدأنا نسمع بكتب ابن تيمية وابن القيم وغيرها، وإن كان الفقيه بن خجو سبقه بالدعوة إلى السلفية عند عودته من مصر متأثرا بالفقيه الشيخ رشيد رضا، إلا أن أثره كان ضعيفا. وممن كان يكرم الدكتور الشريف أحمد بن الأمين الريسوني، الذي كان دائما تقدميا في أفكاره، وكان الرجل كريما وكان بيته عامرا، وظل كذلك إلى أن توفي رحمه الله، أما بيته فقد ازداد بركة وشهرة في الداخل والخارج، إذ ورث والده الأستاذ علي الريسوني، الذي يقدم خدمات جليلة لدينه ووطنه بخدمته لضيوفه الكثار، سواء كان مسلما أو غير مسلم. يتبع