لا يمكن لأي إنسان أن يدافع، بأي اسم كان، أو تحت أي ذريعة، عن حماية نظام سياسي يستخدم السلاح الكيماوي، بعد ثلاثين شهرا من استخدام كل الأسلحة الثقيلة، من أجل إخضاع شعبه وكسر إرادته والبقاء في السلطة، من دون تغيير، بعد نصف قرن من حكم العنف والقهر. يدفع الشعب السوري ثمن انعدام الثقة بالسياسات الغربية في الشرق الأوسط بشكل خاص، التي نادرا ما أخذت في الاعتبار مصالح الشعوب. وهذا ما يفسر موقف الخوف والحذر، وأحيانا الرفض والتشكيك بالنوايا، عند قطاعات واسعة من الرأي العام السوري والعربي والدولي أيضا. ويدفع الشعب السوري الشهيد ثمن صعود مطامع الدول الاستعمارية الجديدة، وتكالبها على الحلول محل القوى الاستعمارية الغربية المتراجعة، وتحويل سوريا إلى منصة للهجوم على بقية الدول العربية. وهذا على ما يبدو هو وضع روسيا بعد أن تحررت من سياسة الاشتراكية والأممية ورشحت نفسها لتكون الدولة المنافسة لأمريكا في تقرير جدول أعمال السياسة الدولية. ويدفع الشعب السوري المنكوب أيضا ثمن الجبن والتردد وضمور الشعور الأخلاقي والتقوقع حول الذات وتنامي روح الأنانية عند الكثير من الدول المكونة للمجتمع الدولي، التي تخشى من مخاطر المشاركة في المسؤولية عن أي عمل جماعي قد يكلفها بعض التضحيات أو أن يقود إلى سقوط العديد من الضحايا. ما كان للشعب السوري أن يجد نفسه في هذا الموقف الذليل، وأن يستجدي تدخلا من أي نوع، حتى من دون تغطية دولية قانونية، وأن يراهن، من أجل إضعاف نظام همجي نادر المثيل، على نتائج ضربة عقابية أمريكية – فرنسية، تعرف نفسها منذ البداية بأنها محدودة وموضعية، وتفتقر للإجماع العالمي، ولا يعرف أحد حدودها ولا عواقبها، أقول ما كان الشعب السوري سيجد نفسه في هذا الوضع لو أن المجتمع الدولي قام بواجبه، كما تنص عليه مواثيق الأممالمتحدة، ونفذ بشكل جماعي ومتسق مبدأ مسؤولية الحماية، الذي يلزم المنظمة الدولية بحماية الشعوب المعرضة لجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، وهو ما تؤكد عليه تقارير منظمات حقوق الإنسان منذ أشهر طويلة. ولا كان السوريون سيعلقون كل هذه الآمال على ضربات عسكرية يتيمة لو نجح مجلس الأمن في اتخاذ القرار الذي كان ينتظر منه، وكان عليه أن يتخذه، تحت بند التدخل الإنساني، أو التضامن مع ضحايا استخدام السلاح الكيماوي. لكن الرد على تعطيل مجلس الأمن والمنظمة الدولية من قبل الفيتو الروسي، والجبن الذي أصبح سمة ملازمة لحكومات ضعيفة أو فاشلة وفاقدة للصدقية في عيون رأيها العام في مختلف أرجاء العالم، لا يكون برفض أي شكل من أشكال التضامن، والاستسلام أمام الجريمة المنظمة، والتسليم بتعميم استخدام السلاح الكيماوي، ولا بالاستقالة السياسية والأخلاقية الجماعية، والاستمرار في مؤامرة الصمت والسكوت على ما يجري من انتهاكات أكثر من خطيرة وفاضحة ويومية لحقوق السوريين من دون استثناء. لن تكون الضربة للنظام من دون ثمن بالنسبة للسوريين. ولا نعرف عدد الضحايا ولا حجم الأضرار التي ستتسبب بها. وسوف يدفع الشعب السوري ثمنا إضافيا كبيرا، بعد الثمن الهائل الذي دفعه حتى الآن، من حياة أبنائه ودمار دولته وتهديم منشآته وتحطيم وطنه. لذلك لن يكون لهذه الضربة قيمة ولا فائدة إلا بمقدار ما تساعد على الحسم، وتنهي عذابات الشعب السوري ومعاناته الطويلة. لكن البديل عنها، سواء أكان ترك الأمور تسير كما سارت منذ ثلاثين شهرا، أو السماح لنظام الأسد بتحقيق نصر حاسم، ليس خيارا محتملا بأي حال. وكلاهما إجرامي ولا أخلاقي؛ فالأول يعني استمرار القتال بما يعنيه من مضاعفة أعداد الضحايا ودمار البلاد، والثاني يقود إلى تسليم شعب كامل مقيد اليدين والرجلين لانتقام طاغية همجي، يقتل أبناءه ويذبح أطفاله ويغتصب نساءه، من دون أي رادع من قانون أو عقل أو ضمير. لا يزال من الممكن تجنب الضربات الأمريكية – الفرنسية ومعها المزيد من الضحايا والدمار. لكن ليس بتمديد الوضع الراهن والاستمرار في الحرب والقتال والدمار، ولا بتسوية لم يعد لها أي أساس ممكن، سياسي أو أخلاقي، بين النظام والمعارضة. يستدعي تجنب الضربة الاعتراف بأن المرحلة السابقة قد انتهت، وأن لسوريا الحق في الانتقال الفوري نحو نظام جديد يعبر عن إرادة شعبها، ويستجيب لتطلعاته وآماله في حكم القانون، وفي الكرامة والحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية. مهما كانت نتيجة الضربة التي يزمع التحالف الغربي توجيهها لدفاعات النظام السوري، ومهما فعل النظام للرد عليها، مباشرة أو بعد وقت، ومهما كان موقف روسيا والصين وإيران وغيرها من الدول، وبصرف النظر عن حجم الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي لنظام الأسد، تشير اللحظة إلى أن الأزمة السورية بلغت ذروتها، وأنها لن تنتهي إلا بنهاية النظام الذي كان في أساسها، وصانعها. لكن إذا لم يكن من حقنا أن نحرم شعبا روَّعته خلال سنوات البراميل المتفجرة وصواريخ السكود ومدفعية الميدان، وأخيرا الأسلحة الكيماوية، من حقه في حد أدنى من المساعدة، إن لم يكن من التضامن الإنساني الكامل الذي حرم منه بسبب المصالح القومية الضيقة والمخاوف المختلفة، المشروعة وغير المشروعة، فمن حقنا أن نحذر الدول الغربية والولايات المتحدةالأمريكية، التي قوضت سياسات الأسد مصداقية سياستها ومركزها في الشرق الأوسط، من الوقوع في الفخ الذي نصبه لها النظام وحلفاؤه، بتحويل الشعب السوري إلى دروع بشرية، ونقول لهم إنهم أمام فرصة نادرة لاستعادة بعض الثقة التي فقدوها عند الرأي العام العربي، وإثبات أنهم قادرون أيضا على العمل انطلاقا من الحرص على مبادئ التضامن الإنساني وتأكيد احترام المواثيق الدولية وصدقية المنظومة الدولية. أما لتلك الأطراف المتعددة التي تظهر اهتماما أكبر بمصالحها وبمكاسب قومية مضمونة، أو بمخاوفها السياسية أو بسبب ذاكرتها المحنطة أو مفاهيمها الموثنة، مما تبدى من التعاطف مع شعب يذبح منذ ثلاثين شهرا أمام أعينها، من دون دعم يذكر، فليس لدينا ما نقول سوى: الشعب السوري لن ينسى، وعاجلا أم آجلا، ستنتهي المأساة وتظهر تكلفة المواقف الأنانية والجبانة. فما عرفناه حتى الآن عن المأساة السورية ليس إلا الجزء البارز من جبل جليد سيهز خروجه إلى العلن ضمير الإنسانية جمعاء.