الاستطلاع علامة لا تخطئ من علامات المجتمع المفتوح دخلت إلى تونس ما بعد الانتفاضة. في المجتمعات المغلقة، الرأي العام كمّ مهمل تتجاهل النخب الحاكمة مشاعره ومطالبه وتطلعاته ومصالحه عندما تصنع قرارها؛أما في المجتمع المفتوح فصناع القرار يقرؤون له حساباً، لأنه بفضل تقنية الاستطلاع أصبح قابلاً للقياس. وهكذا غدا بإمكان صناع القرار الدخول عن بعد في نقاش متعارض مع شعوبهم. آخر استطلاع في تونس أجراه”غلوبال سرفيس منانجنمت” S M G على عينية ممثلة ل 7 ملايين وأكثر من 600 ألف ناخب، أثار الفزع في الطبقة السياسية التي كانت تقدم نفسها على أنها ناطقة باسم الشعب، أي معبرة عما يقبله أو يرفضه؛ حتى كانت المفاجئة: 75% من المستطلعين قالوا أن:”المؤسسات المنبثقة عن الثورة لا تمثلهم” و83 % لا يعرفون لمن سيصوتون،لكنهم يعرفون جيداً أن همهم الأول هو الاقتصاد الذي ينهار والبطالة التي تتفاقم، تقريباً في أربعة شهور وصلت إلى مليون عاطل، 17 % من المستطلعين فقط اختاروا من سينتخبونه: راشد الغنوشي 4,6 %، أحمد نجيب الشابي 3,6 %، المنصف المرزوقي 1% ومصطفى بن جعفر 0,9% وباقي قادة الانتفاضة 0% أو قريباً منه !. اليومية المستقلة “الصباح” علقت على الاستطلاع في افتتاحية بعنوان:”ناقوس الخطر” قائلة: “عندما يؤكد 75% من العينة المستجوبة في استطلاع للرأي أن الكثير ممن يتكلمون باسم الشعب لا يمثلونهم،لا يمكن إلا دق ناقوس الخطر(...) لأن هذه النسبة تترجم انعدام الثقة بين المواطنين عموماً والنخب السياسية”؛ بدوره، علق المعارض المعروف د.المنصف المرزوقي الذي ترشح للرئاسة منذ نزوله في المطار في يناير الماضي قائلاً:”الوضع الحالي غير مقبول، ومسموم، ويمكن أن يؤدي إلى خروج الشعب ضد الثورة نفسها”. وهو ما جعلتُ منه، بتصرف طفيف، عنوان هذه الرسالة؛ ومعلقاً على اعتداء السكان على زعماء الانتفاضة وأحزاب المعارضة السابقة قال د.المرزوقي : هذا سلوك “قد يساهم في إخراجنا من استبداد الدولة إلى استبداد آخر أكثر خطورة.” وهو محق، فالاستبداد الأدهى من استبداد الدولة هو استبداد الفوضى؛ استبداد الدولة هو وضع الدولة لنفسها فوق قانونها،أما استبداد الفوضى فهو الغياب لكل قانون غير قانون الغاب !. أعطت “الصباح” في إحدى افتتاحياتها بعنوان “أعداء الثورة” عينة من هذه الفوضى الشاملة هي حرق أو محاولة حرق المدارس، وبينها تلك التي تحمل اسم الطاهر الحداد الذي نادى في عشرينات القرن الماضي في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” بضرورة تحرير المرأة المسلمة من الدونية العقلية واللامساواة في الحقوق اللتين فرضهما عليها فقه القرون الوسطى، فطالب بإلغاء تعدد الزوجات والمساواة في الإرث بين الذكر والأنثى. كتبت الصباح: “أحفاد المفكر والمصلح الطاهر الحداد على وشك مواجهة ما كان رائد الاصلاح ونصير حقوق المرأة واجهه في ثلاثينات القرن الماضي عندما حُرم من الحصول على شهائده العلمية بأمر ملكي بسبب كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” الذي لم يرق للرجعية الفكرية فاتهمته بالكفر والإلحاد (...) الإصرار على استهداف عدد من المؤسسات التربوية بالحرق والنهب يعكس وجود عقلية مرضية ظلامية تسعى لترهيب أبنائنا التلاميذ (...)وتهدف بالتالي إلى نشر الجهل والتخلف (...)وإلا ماذا يعني استهداف مدرسة ابتدائية وحرمان الأطفال من حق المعرفة (...)”. استهداف المدارس يذّكر بما فعلته “الجماعة الإسلامية المسلحة” في الجزائر في تسعينات القرن الماضي عندما نسفت بالديناميت مئات المدارس احتجاجاً على الاختلاط بين الذكور والإناث فيها وعلى تدريس الموسيقى والتربية البدنية للتلميذات بما هو، في نظرهم، خطر على بكارتهن؛ يعيد أقصى اليمين الإسلامي التونسي جريمة أقصى اليمين الإسلامي الجزائري ضد المدارس التي تحولت بقدرة قادر إلى أهداف حربية !. خشية المنصف المرزوقي من “ثورة الشعب على الثورة” لا مبرر لها في نظري؛ تاريخياً، الشعب لا يثور، بل تثور الأقليات النشيطة باسمه، في أحسن الحالات، وبالنيابة عنه في أسوئها. كل ما يفعله الشعب، فضلاً عن الحسرات، هو توجيه نداء صامت إلى أب اجتماعي، إلى قائد كفيل بإنقاذه من الوضع المأساوي الذي تردّى فيه؛ حدث ذلك في الثورة الفرنسية، في ( عهد الإرهاب La (1793-1794 Terreur ، عهد الجنون الثوري الدموي الذي أُعدم فيه حوالي 40 ألف “مشبوه”؛ وبالمناسبة أعدمت الثورة الإيرانية أكثر من 100 ألف “مشبوه”!. وجهت الطبقة الوسطى الفرنسية نداء صامتاً إلى منقذ يعيد لها الدولة التي خطفها جنون الثورة، استجاب لندائها 5 من زعماء الثورة “التائبين” الذين طارت عنهم السكرة وعادت إليهم الفكرة، فدبّروا انقلاب ترميدور ( الشهر الحادي عشر من التقويم الثوري) فأطاحوا بروبسبيير وعصابته الدموية وسموا أنفسهم دريكتوار Le Directoire أي السلطة التنفيذية. حاول مدراء الدريكتوار الخمسة إقامة مصالحة وطنية شاملة، استجاب لهم قطاع من الكاثوليك، لكن الملكيين، الذين أغراهم إسقاط الثورة، رفضوا المصالحة طمعاً في إسقاط جناحها المعتدل أيضاً؛ حاكاهم أعداء الثورة الذين فروا إلى الممالك المجاورة فعادوا فاتحين تسندهم جيوش”التحالف المقدس”الذي تشكل رداً على الثورة الفرنسية؛ بعد 6 سنوات من الحرب الأهلية والحرب والفوضى تقدم الجنرال نابليون في 1799 لإنقاذ الموقف بالانتقال من فوضى الثورة إلى نظام الدولة. بالمناسبة حاول رفسنجاني بعد خميني الانتقال من الثورة إلى الدولة ففشل، كما حاول خاتمي نفس المحاولة ففشل، ومازالت الطبقة الوسطى الإيرانية توجه نداء صامتاً إلى نابليون إيراني، فهل ستعثر عليه؟. في تونس، كما يشهد على ذلك هذا الاستطلاع بين عشرات الشهادات الأخرى: الغالبية الساحقة من الشعب توجه نداء استغاثة إلى منقذ، إلى بورقيبة شجاع وبعيد النظر يعرف كيف يُعبئ وراءه 75 % من التونسيين سياسياً ونفسياً بتجسيده لقيمهم الجماعية وآمالهم المشتركة: قيمهم الجماعية هي الأمن والاستقرار والازدهار، وآمالهم المشتركة هي إعادة الأمن والاستقرار لإرجاع عمال تونس إلى العمل. المصالحة الوطنية الشاملة هي مدخل إلى هذا المشروع الواقعي لقطع الطريق على المشروع الجنوني الإيراني السوداني الصومالي الطالباني الفاعل اليوم بكل طاقته الهدامة في تونس التي ملأت الخفافيش ساحاتها بالشعارات الفصامية،أي التي لا علاقة لها بالواقع السياسي والاجتماعي التونسي!. (*) كاتب تونسي