يقال - والقول صحيح يسند الوقائع - إن السياسيين، قادة أحزاب ومنتخبين ومتصرفي مواقع حكومية، في البلدان ذات التقاليد الديموقراطية المكرسة والمرعية، يمارسون السياسة وهم في الغالب، عين على نتائج استطلاعات الرأي وعين أخرى على مؤشرات البورصة. مؤسسات استمزاج الرأي تمدهم، عبر الاستطلاعات الدورية، بما يعتمل في بواطن المجتمع ودواخله من ميولات ونزعات، من تقديرات، وأحاسيس عامة حيال نوع التدبير القائم للشأن العام، ومن تقييمات شعبية للأعمال والسياسات العمومية وسلوكيات الفاعلين والمتنفذين في مختلف الدوائر ذات الصلة بتدبير الشأن العام، كما تنطق بها الألسن بتلقائية نيابة عن العقول والقلوب، تقييمات يعرف المستطلعون من خبراء الاستمزاج كيف يستدرجونها الى مساحات او فضاءات التعبير الحر، بما لا يسمح لأية كوابح أو ملطفات لغوية أن تغطي على المقاصد والنوايا الحقيقية للمستجوبين. أما مؤشرات البورصة بألوانها الخضراء والحمراء المتلألئة في الالواح السوداء المثبتة في حيطان مباني مؤسسات لمال والائتمان والاسهم، وبحركية الارتفاع والانخفاض، الصعود والهبوط اليومية والاسبوعية والفصلية، فإنها تمد السياسيين، بما يعتمل في الباطن العميق للاسواق وعوالم المال والاعمال من تطورات أو اتجاهات، انطلاقات أو تشنجات، وثبات، وقفزات أو انقباضات وانحباسات، مما تقاس به اجمالا صحة الاقتصاديات ويوزن به حجم الثقة في المعاملات، والمبادلات والتفاعلات بين مكونات الدورة الاقتصادية من مستهلكين ومدخرين، ومستثمرين، في مرحلة أو ظرفية معينة. مؤسسات استمزاج الرأي وبورصات القيم تختلف بالطبع في الطينة والطبيعة، في دينامية الاشتغال وآليات سبر الاغوار، لكنها تشترك وتلتقي في المحصلة. في نوعية الخدمة التي تؤديها للطبقات السياسية في البلدان ذات التقاليد الديموقراطية المكرسة والمرعية، بحيث تلعب، بطريقتها ومن موقعها، دور التنبيه والتحفيز، دافعة السياسيين إما الى إعادة النظر في ما تكرس لديهم من قناعات وممارسات بما ينتج عنه حتما مراجعة الذات والحسابات، وإما الى ما من شأنه ان يشجع على المضي قدما في تنفيذ ما تمت بلورته من سياسات وتوجهات وقرارات. ثم إن تلك المؤسسات تلعب بالنسبة للطبقات السياسية دورا متميزا على مستوى حث الطبقات السياسية، عبر الاشارات التي ترسلها، والمنبعثة إما من وجدان الناس وإما من ثنايا الاسواق، على تطوير بيداغوجيتها في مجال التواصل وتبليغ الافكار والبرامج ضمن محيطها المجتمعي، خاصة حينما تبين الاحوال - أو الاهوال - للنخب القائدة انها اخطأت التقدير أو تعالت عن متطلبات التوضيح، او بكل بساطة - ابتعدت عن مشاغل الناس من حيث لم تنوي أو تحتسب. بذلك يكتسب السياسيون القبقيون**** تلك الميزة التي تجعلهم قادرين على التصحيح المستمر لاستقراءاتهم للواقع الماثل أمامهم، وبذلك يتملكون من خلال الاستعداد الدائم للإنصات لذبذبات النبض العام الذي تساعد على إبرازه على السطح مؤسسات استمزاج الرأي أحيانا ومنحنيات أسواق المال والاعمال أحيانا اخرى، تلك الكفاءة والقدرة على قياس رجع الصدى، او الفيدباك داخل المجتمع بخصوص قراءاتهم وممارساتهم وتوجهاتهم وبرامجهم. وبذلك، وعبر هذا الميكانيزم التفاعلي، يصبح الجمهور ويغدو الرأي العام رقما اساسيا في المعادلات السياسية، لا بل والرقم الاول والمتغير الحاسم في كل معادلة سياسية. لا يستهين السياسيون بالرأي العام واتجاهاته، لا يتبرمون من المزاج العام كما تعكسه الاستطلاعات، لا يحتقرون الحس العام، لا يستشيطون غضبا كلما لاحت في الأفق مؤشرات عدم الرضى أو علامات عدم الاتفاق، لا يعلق ون الفشل، حينما يكون، على نقص كفاءة الناس في فهمهم وإدراك مقاصدهم، أو خصاص في وعي الجمهور وفي الوعي بمغزى غزواتهم في الحقل السياسي. الرأي العام هو الحكم في المنطلق وفي الختام، عند المنبع وعند المصب، هو المقياس والبوصلة عند المبتدأ وعند الخبر. وتلك قاعدة يقبلها ويقر بها الجميع ، معتبرينها ركنا ركينا في الثقافة الديموقراطية لا تطاله ذرة من تشكيك أو مناهضة. وكان أليكسي دو توكفيل أحد أعمدة وعمداء شراح فلسفة الحكم الديمقراطي قد تنبه لهذا وتنبأ به منذ القرن التاسع عشر، بينما جعل من الارتباط بين الممارسة السياسية وحال الرأي العام أبجدية أولية في الديمقراطيات الحديثة. لنترك القرن التاسع عشر ومراحل التأسيس ورجالاتها. ولننكب على الحاضر الجاري اختباراً لهذه الجدلية بين ممارسة الطبقات السياسية وحال الرأي العام، ولنوضح الأمر من خلال ثلاثة أمثلة من ثلاثة بلدان تكرست فيها التقاليد الديمقراطية وأصبحت قواعد ونواميس فرعية: 1 حينما اشتعلت قبل أسابيع أحياء توتنهام وشاكني الشعبية في ضواحي مدينة لندن، وامتد لهيبها الى أحياء الطبقات الوسطى في منطقة كرويدون على الجانب الآخر من نهر التايمز، ثم انتشر اللهيب الى مدن مانشستر وبرمنغهام، رأينا كيف أقرت الطبقات السياسية في بلاد شكسبير، دون ممانعة أو عناد بتهالك بعض من وثوقياتها على ضوء الأحداث. رأينا كيف تنقل المحافظ كامرون رئيس الوزراء والعمالي ميليباند، زعيم المعارضة وباقي القيادات الحزبية الى قلب مناطق الأحداث، يستفسرون ويسألون ويستطلعون الآراء مباشرة على الطبيعة، يستمعون ويحاورون، مسجلين باهتمام ردود الأفعال المعبر عنها من طرف فئات اجتماعية تنتمي لمختلف الشرائح والأعمار، ومعظمها كان غاضبا وقلقاً. الحزبان الرئيسيان في سياق التعامل مع الأحداث وضعا جانبا رؤيتهما المسبقة لنقل الإيديولوجية, أي الإحالة الى مسؤولية نقص التأطير الأسري وتفتت القيم العائلية فيما جرى(بالنسبة للمحافظين) ومسؤولية الإجراءات الصارمة للتقشف التي اعتمدها تحالف الليب لات(المحافظون/ الليبراليون) في تفسير ما جرى وراحوا يستطلعون رأي الشارع المريض وينصتون للنبض العام استعداداً لمراجعات في المواقف وتأسيساً متجدداً لسياسات وتوجهات تجيب عن القلق المعبر عنه, وتستجيب لجزء من الطلبات والتظلمات المرفوعة من طرف عامة الناس. وفي ألمانيا، ومنذ اندلاع الأزمة المالية لمنطقة اليورو، التي بلغت ذروتها في اليونان، وما استدعته وتستدعيه تلك الأزمة الكبيرة من جهود للإنقاذ في شكل ما صار يعرف بالبايل أوت Bail out، الذي تحملت ألمانيا الجزء الأكبر منه بكل تداعيات ذلك، خاصة على مستوى توليد شعور من عدم الرضى لدى الناخب ودافع الضرائب الألماني منذ اندلاع تلك الأزمة لم يفترسعي التشكيلات السياسية الأساسية في هذا البلد، ديمقراطيين مسيحيين واشتراكيين وديمقراطيين وخضر، عن استقراء آراء وتوجهات وميولات القاعدة الاجتماعية العريضة استعداداً لمراجعات في المواقف، وضبطاً واستباقاً لتحولات في الاجراءات، تستدعيها الظروف أو تفرضها الظرفية، تحسبا، في كل الأجيال لاستحقاقات قادمة يعرف الجميع أنه لن ينفع فيها إلا البرامج والخطوات، المتجاوبة مع تطلعات الناس كما تنكشف عبر الاستطلاعات. 3 وفي اسبانيا القريبة منا، التقط الحزب الاشتراكي الحاكم بسرعة، عقب نتائج الانتخابات البلدية والجهوية، وبصدر رحب، ودون عناء أو ممانعة إشارات ورسائل الناخبين، التي أكدت ما كانت مؤسسات استطلاع الرأي العام قد أبرزته بشكل دوري قبل شهور بعد تبرم الشارع الاسباني العريض، من السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة. في الحالات الثلاث وهي جزء من كل, ضمن العالم الديمقراطي لم يتمترس السياسيون خلف مواقفهم ومواقعهم، لم يدفنوا رؤوسهم في الرمال، لم يغلقوا الآذان أمام ما يبثه الشارع من أصوات وإشارات ورسائل. في الحياة الأولى, لم يقل المحافظ كامرون، بعد أن هدأت أحداث الشارع، للمواطنين أنكم مخطئون وأنني متشبث بنظرية الزجاج المكسور (نظرية في تفسير أحداث شغب المدن, تقول بمسؤولية السياسات الرخوة في تصاعد أعمال الشغب وتدعو الى الدرجة الصفر من التحمل) ولم تقل المستشارة الألمانية ميركل للألمان أنكم مخطئون وأن ألمانيا خلافًا لما ترون وما تعبرون عنه، استفادت من رخاء واستقرار منطقة اليورو طيلة عقدين من الزمن تقريبا، وأن عليها اليوم أن ترد جزءاً من الدين بكل رباطة جأش. ولم يقل الاشتراكي ثاباتيرو في اسبانيا للناخبين الذين عاقبوا الحزب الاشتراكي العمالي عقابا شديدا في الانتخابات المحلية والجهوية إنكم مخطئون، لأنكم لم تستوعبوا حقيقة ما فعلناه ولم تقدروا حق قدره حجم ما بذلناه للحد من الآثار المدمرة للأزمة الأوربية والعالمية، وأن نوايانا كانت أكثر من حسنة, ولكن الرياح جرت بما لم تشتهه السفن. لم يقل الثلاثة ما قد يفهم منه أنهم متمترسون وراء قناعات أو دوغمائيات مبلورة سلفاً, مهما كان رأي الشارع أو كانت تقييماته، بل شرعوا يشتغلون على الذات بما يسمح بإعادة ربط قنوات الاتصال والتواصل والثقة مع المواطن، الناخب دافع الضرائب والتفاعل الحي مع ما حملته إشارات ورسائل الرأي العام, مطبقين مقولة جون ستيورات ميل من أن» الحقيقة في المجال السياسي تتموقع دائماً عند نقطة التقاطع بين الآراء المتعارضة « فكيف إذا كانت إحدى هذه الآراء المتعارضة تجد مصدرها في الرأي العام المعبر عنه في الشارع العريض؟ الارتباط بين توجهات السياسة والإشارات والرسائل التي يحملها الرأي العام بمختلف الوسائل المتاحة في النظم الديمقراطية ,هو ما يشكل الضمانة الحقيقية والقوية التي تحول دون تحول السياسة الى لعبة مغلقة على ذاتها، لعبة نخب معزولة أو محبوسة في عوالمها الوهمية. أين نحن من كل هذا؟ وما درجة الارتباط عندنا بين توجهات السياسة ورسائل الرأي العام وإيماءاته؟ يتبع