بالنسبة للمراقب للتطور السياسي في المغرب، تبدو الآليات المعتادة لتحليل نظام سلطوي في وضعية انتقال ديمقراطي، غير مقنعة. ليس لأن البلد غير تصنيفه ليلتحق بصفوف الانظمة الديمقراطية، بل لأن التفسيرات بمقاييس التحرير والانفتاح او الديمقراطية لا تعنى بالديناميات الجارية، فبالاحرى المؤشرات المتنافسة التي توضح الانجازات وايضا التراجعات. و تبقى اللحظة الانتخابية فرصة مهمة لملاحظة هذه الديناميات المتناقضة، لاقتراح آلية لتقييم التحولات الجارية التي لا تقتصر على الحكم الجازم حول نجاح او اخفاق الانتقال. في هذا المقال سنحاول رسم صورة للنظام السياسي المغربي، تحاول رصد هذا التأرجح الذي يميزه قبل تقديم و تحليل نتائج انتخابات 7 شتنبر 2007 تم اقتراح تقييم لها. محمد الطوزي 1 - نظام سياسي متأرجح المغرب ملكية قديمة والاستعمار لم يمح تقاليده الدولتية، فالإقامة العامة التي مثلت السلطة الاستعمارية الفرنسية بالمغرب وضعت الملكية في الظل من أجل تثبيت سلطتها على الخصوص. من خلال بيروقراطية إدارية، لكنها لم تكن تبحث عن القضاء على مؤسسة السلطان، بل على العكس كانت تريد استعمالها. هذه الازدواجية الموروثة. يضاف اليها الصراع الشرس على السلطة بين الحركة الوطنية والملكية، اجلت مسلسل التغيير السياسي. و طيلة العقود الثلاثة للمغرب المستقل، لم يكن رهان هذا الصراع هو الديمقراطية ولا التحديث. والتوجه الواضح للمغرب عن التعددية. ونحو صراع ديمقراطي حقيقي لم يظهر الا في السنوات 90 . صحيح أن تطلعات تقدمية وحداثية كانت تسكن جزءا من الطبقة السياسية، بل وحتى جزءا من القصر، ولكن هذه الاطراف كانت مسكونة بتنافس شرس على مواقع السلطة. وبدرجة اقل، على مواقع مراكمة والتحكم في الموارد الاقتصادية. وايضا بانتظارات مجتمع محافظ في العمق. ومسلسل الاصلاحات انطلق مع بداية سنوات 90 وانطلاقا من هذه الفترة ظهرت ثقافة سياسية تتميز بالتوافق والتفاوض. وسجلت العلاقة بين الملكية والاحزاب السياسية الوطنية (الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) تحولا عميقا سواء في شكلها او محتواها. سمح بإعادة تحديد المعارضة لآفاق استراتيجية جديدة، والتخلي عن الخيار «الانقلابي» وانخراط مشروعها الاصلاحي في اطار ملكية برلمانية. كل هذا سمح بتبديد بعض الخلافات بين الملك والمعارضة. ولم تكن المراجعات الدستورية سنة 1992 ثم سنة 1996 مبادرات معزولة. فقد تم اقرار اصلاحات اخرى في نفس الفترة خاصة عبر احداث بنيات جديدة: احداث المجلس الاستشاري لحقوق الانسان (ابريل 1990) احداث المحاكم الادارية (شتنبر 1993) احداث وزارة مكلفة بحقوق الانسان (1993) احداث المجلس الدستوري (فبراير 1994) احداث المجلس الاستشاري لمتابعة الحوار الاجتماعي (نونبر 1994). وهكذا فالمرحلة مابين 1999 و 2003 مهمة على اكثر من صعيد فهي تمزج بين حدثين غير مسبوقين: وصول المعارضة الى السلطة وانتقال العرش. الحدثان مرتبطان بشكل كبير، والاول كان مقدمة للثاني: نهاية حكم الحسن الثاني المصاب بمرض مزمن، سمحت باستباق وضع «عقد جديد». هذا التاريخ السياسي المغربي اعتبر، كما نعلم، كانقلاب كلي وارساء طريق جديد مباشر وسلس نحو نظام ديمقراطي مكتمل. او بعبارة اخرى كمسلسل ديمقراطي محايد ولاسياسي تقريبا، وكان حتميا في ظل هذه الشروط ان تقرأ وسائل الاعلام تقلبات الحياة السياسية كتراجع او خلل او انحراف ، وان تعطي اليوم الانطباع باعادة النظر في مسلسل الانتقال الديمقراطي المفترض. في الواقع «التراجعات» كما توصف ليست مؤشرات على تعقيدات المرحلة الحالية التي يجب اعتبارها كمقدمة لعهد جديد او كإجراء آخر لتأقلم المخزن مع مناخ غير مسبوق. وأحداث 16 ماي 2003 سمحت بتأكيد الانفصال عن مرجعية شرقية والتعبير بشكل واضح عن اختيار استراتيجي للمغرب كنموذج وكنقطة التحام، وانتقاد الوهابية التي اعتبرت كخطر متزايد، يمر عبر ابتعاد ملحوظ تجاه شؤون الشرق الاوسط. وبالتالي بدأ النظام يتأقلم اكثر فاكثر مع التعامل مع حساسيات سياسية كانت مرتبطة في السابق مع الحركة الشيوعية (حزب التقدم والاشتراكية) بل حتى مع الحساسيات التي كانت حتى وقت قريب تعتبر انقلابية وتريد القضاء على الملكية (احزاب اليسار المتطرف). ورغم كل التحفظات التي يمكن أن نبديها بخصوص تطور النظام السياسي المغربي لايمكننا أن ننكر أن هذا الاخير اتجه بوضوح نحو شكل من الحداثة. هذا التطور حدث بالرغم من حقل سياسي زاد من ضبابيته وجموده، ضعف الطبقة السياسية بما فيها تلك المنحدرة من الحركة الوطنية. وبالرغم ايضا من وجود مجال خاص بالقصر (وزارات تسمى سيادية، لكن أيضا جميع المؤسسات التي خلقها القصر خارج الحكومة من الصناديق والجمعيات والوكالات). وبالرغم ، أساسا، من قدرة الملكية على استقطاب النخب الاكثر كفاءة والاحتفاظ بالمبادرة السياسية، فتقاطع التحولات الحداثية والاكراهات السياسية تفسر الى حد كبير حيرة الفاعلين المغاربة. فالهدوء ليس هو الطابع المهيمن لدى هؤلاء الفاعلين. في الوقت الذي يبدو أن الاتجاه رسم على المدى البعيد، وان الصراع السياسي يجري ليس في المحور، بل في محيط سلطة يبقى القصر هو محددها. عمليا الرهان السياسي يكمن أساسا في المسافة التي تفصل الفاعل السياسي عن الخلية المركزية التي يمثلها الملك وحاشيته ، طبيعة دائرة انتمائه وقربه من مراكز السلطة الحقيقية، التي تبقى هي الدائرة الضيقة المكونة من المحيط العائلي للملك وتتسع لتشمل رفاقه في الدراسة والدائرة الموسعة التي تضم كذلك المستشارين وكبار بنية التقنوقراطيين ورجال السياسة ودوائر رجال الاعمال المختارين الذين يطلق عليهم في المغرب «الابطال» (مجموعة «أونا» بطبيعة الحال وايضا مجموعات البنك المغربي للتجارة الخارجية، أكوا، الضحى، سهام...). لكن لابد من تعديل هذا الحكم القاسي، فالسلطة تتبنى الانصات الى الرأي العام، وتقيم علاقة قوية مع الخيار التشاركي والخوف من الاستمزاج يعوض بقدرة حقيقية، أكثر فأكثر، على تدبير اهتزازات الحركات الاجتماعية واحتسابها في فاتورة الممارسة الواسعة للحريات . والتشنجات التي تظهر بين الفينة والاخرى تعود في الغالب الى ردود فعل فردية للنخبة الحاكمة. ومن خلال تشكيل جديد بعض الشيء، تمثل الانتخابات رهانا حقيقيا للوصول الى دائرة الانتقاء، عبر بنيات التمثيلية المؤسساتية (البرلمان، المجلس الدستوري، المجلس الاستشاري لحقوق الانسان، المجلس الاعلى للتعليم، الهيئة العليا للسمعي البصري) من أجل المشاركة في مواقع الواجهة، وحتى من أجل التأثير في قرارات تدبير الشؤون العمومية. 2- رهانات الانتخابات انتخابات 2007، التي نظمت لأول مرة في الآجال المحددة، شكلت لحظة تطبيع و«تعزيز للخيار الديمقراطي» حسب الخطابات الرسمية لا مجال للشك في ذلك، فالسلطة بذلت مجهودا خاصا لضمان نوع من المصداقية، سواء على المستوى الداخلي او الدولي. ولكن سيكون من السداجة الوقوف عند هذا الهدف المعلن او على الاقل ا قتراح تقييم للمسلسل بمرجعية لنظام منافسة مفتوحة على السلطة، وهو ما يقتضي معالجة خاصة تميل الى طرح سلسلة من الاسئلة المختلفة حول وظيفة الانتخابات وحول معنى المسلسلات الانتخابية. والفرضية التي نريد طرحها في هذه الفقرة من أجل تقييم الانتخابات تحيل على تحول في إجراءات ملائمة النظام في مواجهتها مع أزمة نخب، ولا يتعلق الامر بتاتا بمناقشة مشاريع سياسية او اختيارات مجتمعية. على المستوى السياسي والاقتصادي تبقى الرهانات محدودة بالنظر الى ان أهم الاختيارات الاقتصادية محددة من قبل ولاتخضع للاستحقاقات، فالمشاريع الكبرى (ميناء طنجة /المتوسط، مارينا الدارالبيضاء، اعداد ضفتي ابي رقراق، شبكة البنيات التحتية الطرقية) او البرامج الاجتماعية (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، نشاط الجمعيات وتوجه الوكالات) التي وضعها القصر، ومختلف المخططات (المخطط الازرق بالنسبة للسباحة، مخطط الصناعة التقليدية او مخطط اقلاع..) التي أعدتها الحكومة، كل هذه السياسات التي تحدد التوجهات الاقتصادية الكبرى للمغرب لاتناقش، بل ولا تنتقد في اختيارها او في آثارها ونتائجها الفعلية. لايقال أي شيء عن استراتيجيات إعادة التوزيع بدءا بالمراجعة الجارية للسياسة الجبائية الحالية رغم أنها توجد في قلب التحولات الضرورية للاقتصاد السياسي المغربي وتخفيف الفوارق، بينما من حيث الاختيارات المجتمعية ، وباستثناء أقصى اليسار المشروع (الحزب الاشتراكي الموحد) وتيار راديكالي داخل حزب العدالة والتنمية الاسلامي، فإن جميع القوى السياسية تتبنى مشروعا مجتمعيا مزدوجا بلورته الملكية والذي يتميز بكونه يرضي الجميع بحيث يزكي في نفس الوقت الاطروحات التقدمية والمحافظة، بل وحتى السلفية. ويمكن تقديم ثلاث ملاحظات بالنسبة للمغرب، في وقت قررت الملكية تعديل نمط حكامتها في اتجاه الاخذ في الاعتبار العلاقة السببية بين تعبيرات الرأي العام واختيار السياسات التي تطبق، هذا الاختيار الذي يلتقي مع توصيات الشركاء الماليين للمغرب «من أجل حكامة جيدة» يقتضي إعادة بناء سياسة توظيف النخب والانتقال من وضع الاعيان بالتمثيلية الى الاعيان بالوساطة. إلى مستوى معين، تراجع النخب التقليدية، لأن تدخل الدولة لم يعد يمر عبر التعبئة من خلال إعطاء المواد الأولية (سكر، زيت، دقيق) أو عبر أوراش التعاون الوطني. واندحار مصداقية الغرفة الثانية التي كانت تضمن لهم نوعا من التواجد، يبدو كموقف واضح قبل إلغائها المعلن. -المعارضة السابقة ضحية تآكل السلطة، وهذه وضعية خطيرة إلى حد أن مشاركتها في السلطة تجعلها ضعيفة بشكل مزدوج. فتدبيرها للقطاعات الاجتماعية ذات المردودية السياسية الضعيفة. تعرضها للحساب في الوقت الذي تعتبر نفسها غير مسؤولة عن السياسات المتبعة. ونفس التبرير يمنعها من تبني نجاحات الحكومة في قطاعات أخرى، فالمعارضة السابقة لم تعرف كيف تبني لنفسها إسما آخر، ولا تستطيع أو لاتعرف كيف تعطي قيمة لحصيلتها داخل الحكومة. - مشروع إعادة النظر في أحواض توظيف النخب لم ينجز حتى نهايته. فالملكية أبرزت سوق التقنوقراطيين لمصاحبة تنوع حاجياتها من كفاءات الوساطة والتدبير، لكن أوراش الحكامة التشاركية الجديدة. وخاصة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية والحاجة إلى شكلية سياسية تؤشر لمأسسة الممارسات السياسية، زادت من حدة النقص في الكفاءات المنتخبة والذي لا يمكن تعويضه فقط عن طريق التعيين، وبالتالي فإن تأهيل البرلمان والجماعات المحلية أصبح رهانا استراتيجيا. فمادامت الملكية مرتاحة بالمشاركة الشكلية للنخب والتدبير من أعلى، كان من السهل حل المشاكل التقنية باللجوء إلى تقنوقراطية تقليدية غير متحزبة قادمة من المدارس العليا الفرنسية وتدبير جزء من الاهتزازات الاجتماعية وصيانة مكاسب النظام على المستوى الدولي من خلال تقنوقراطية يسارية، وانخراط جزء من المجتمع المدني في حملة تحسيس النخب الجديدة، وتحفيزها على الانضمام الى الأحزاب السياسية بقيادة جمعيات مثل «2007 دابا» و«آفاق »بمباركة من القصر يترجم هذه الحاجة الملحة. فالتحولات السياسية لهذه النخب تشكل أحد الخيارات الممكنة، لكن هذه الأخيرة تتم بجرعات حذرة، ولم يتم رفع التخوفات من المغامرة الانتخابية. وقرار صناديق الاقتراع ليس حاسما في مسلسل الاختيار الذي يمكن من الوصول إلى الدوائر القريبة من القصر. وانطلاقا من هذه المعطيات، يمكن أن ندعم فرضية أن الانتخابات، وخلافا لما قيل لا تشكل امتحانا حقيقيا للسلطة، سواء في اتجاه قياس نجاح الانتقال الديمقراطي من عدمه، وأيضا لتقييم حجم الخطر الإسلامي وقدرة النظام على التحكم في اتساعه من عدمه. هذه الفرضية الأخيرة أثارت تعبئة في أوساط الصحافة ومؤسسات استطلاع الرأي والسفارات الغربية. وحزب العدالة والتنمية الذي كان يجسد للكثيرين الخطر الإسلامي أو على الأقل الفاعل القادر على مواجهة النظام، خسر، ليس فقط الانتخابات لأنه حصل على أقل مما كان متوقعا، ولكنه بالأخص أكد قدرته على الرد إيجابيا على طلب خاص في التركيبة التاريخية من خلال تصفية مرجعيته الإسلامية وإعادة تأكيد توافق سياسي تطلب التضحية بجزء من النخب الأصولية، بل حتى المنظرين الحداثيين والإصلاحيين لملاءمة عرضه السياسي مع طلب السلطة، تقنوقراطية نشيطة مكونة محليا. 3- دروس الانتخابات يمكن أن نستنتج أربعة دروس مهمة: ضعف نسبة المشاركة، فشل اليسار، التقدم المحتشم للإسلاميين ومقاومة شبكات الأعيان، وهو ما يشكل في حد ذاته فشلا للنظام الذي كان يتوخى إعادة هيكلة الحقل السياسي وتأهيل النخب، وقد أطلق القصر محاولة لتدارك هذا الفشل عند تشكيل الحكومة، وبعد شهر من المفاوضات التي كان يأمل القصر أن تتم الاستجابة لطلبه بتأهيل النخب المستوزرة، اضطر إلى التدخل والتأثير في الأمور باقتراح حكومة ولو اقتضى الأمر بإعادة قراءة النتائج وفقا لرهانات اللحظة. واقترح الملك صراحة الرجال والنساء الذين يعتقد أنهم قادرون على تنفيذ سياسته. وبالتأكيد تم ربح رهان مصداقية المسلسل الانتخابي، وأغلب المراقبين المحلين عبروا عن ارتياحهم من ظروف سير الاقتراع. لكن مع نسبة مشاركة بلغت 37% و19% من الأصوات الملغاة، أي أن حوالي مليون ناخب أدلوا بأصوات ملغاة (وكمقارنة بلغت نسبة الأصوات الملغاة 15% سنة 2002) خيمت الغيوم بظلالها على هذه الانتخابات. ونمط الفرز لا يسمح بالتمييز بين الأصوات الملغاة والأصوات البيضاء، والفرق مهم. في سنة 2002 سيتم تبرير أّهمية نسبة الأصوات البيضاء بنمط الاقتراع الجديد باللائحة والصعوبة التي وجدها الناخبون الأميون في التصويت بقلم في اليد. ويظهر تحليل دقيق لتوزيع الأصوات الملغاة أن هذا التبرير غير صحيح كليا، فإذا كان المعدل الوطني للأصوات «الملغاة» هو 19%، فإن هذه النسبة تقارب 30% في المدن الكبرى. في الدارالبيضاء مثلا وبالتجديد في دائرة أنفا أو الحي الحسني التي يمكن أن نفترض أن نسبة الأميين بها أدنى من المعدل الوطني، بلغت نسبة الامتناع عن التصويت على التوالي 36% في آنفا و32% في درب السلطان. وبخصوص عدم المشاركة سجلت هاتان الدائرتان نسبا بلغت على التوالي 74% و80% وبالتالي هناك علاقة سببية بين نسبة المشاركة ونسبة الامتناع عن التصويت وهو ما يسمح بافتراض وجود موقف سياسي قوي من العملية الانتخابية وغموض الهندسة السياسية التي يهمين عليها شخص الملك ليس السبب الوحيد، فكون 19% من الناخبين تحملوا عناء التوجه إلى مكاتب التصويت ووضع ورقة ملغاة فيها يمكن تفسيره أيضا بعدم القدرة على الحسم امام عرض سياسي ضعيف، حيث الرهانات الوطنية اغرقت في رهانات محلية وبالاخص كون التمايزات بين المشاريع المجتمعية لم تظهر في مواضيع الحملة، وعمل اعادة بناء مشروع المجتمع المزدوج الذي تقترحه الملكية لم ينجز وتلكوء النخب الحزبية في الاختيار أو على الاقل في اختيار التزامهم افرغ الانتخابات من معناها. فشل اليسار الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية هو الحزب الذي جسد التغيير من خلال وصول المعارضة السابقة إلى السلطة سنة 1999 وهو أيضا الحزب الوحيد الذي اشتغلت في حقه آلية معاقبة الصناديق بشكل عادي، فقد انتقل من المرتبة الثانية إلى المرتبة الخامسة وكان بإمكان الحزب أن يتجنب هذا الفشل لو دافع عن حصيلته وبالأخص لو أنه لن يبدد رأسماله البشري في عدة انشقاقات وقعت منذ مؤتمره السادس، وتشكلت ما لايقل عن ثلاثة احزاب جديدة بفعل هذه الانشقاقات، هذه الاحزاب (الحزب الاشتراكي، الحزب العمالي، حزب المؤتمر، الوطني الاتحادي) حصلت على 652650صوتا دون أن نضيف إليها تيار الوفاء للديمقراطية، الذي التحق بالحزب الاشتراكي الموحد، حسابيا فإن اعادة البناء هذه تضعه في المرتبة الاولى بعيدا عن حزب الاستقلال وحزب العدالة والتنمية . بالمقابل، يمكن أن نؤكد ان الحزب غير من مراكز نفوذه وأن تواجده في الحكومة أفقده قاعدته التقليدية المشكلة من الطبقة المتوسطة الحضرية واصبح أقرب إلى بنية للاعيان مكنته من الحفاظ على مواقعه في العالم القروي. فقد احتل المرتبة السادسة في الدارالبيضاء وطنجة. ثلاث مرات أقل من حزب العدالة والتنمية من حيث عدد الاصوات، وحل خامسا في الرباط، بينما في المناطق القروية التي يتواجد بها الاعيان بقوة تمكن من ضمان بعض التواجد (ازيلال، الشاوية، ورديغة، العيون وبالأخص قلعة السراغنة والغرب بني حسن) وفقد الحزب مواقعه التقليدية في المدن الكبرى. حزب العدالة والتنمية، انفجار الفقعة الاعلامية الاسلاميون الذين كانت ترشحهم كل استطلاعات الرأي للفوز لم يتجاوزوا عتبة 10,9% من الاصوات و14% من حيث المقاعد، بينما احتل حزب الاستقلال المرتبة الاولى ب 10,7 من الاصوات و15,9% من حيث المقاعد بفضل تأثير قاعدة النسبية والتقطيع الانتخابي . حزب العدالة والتنمية أكد مواقعه في المناطق الحضرية الشعبية والمناطق النشيطة نسبيا على الساحل من طنجة إلى الدارالبيضاء، حيث حصل على 23 مقعدا من مجموع 40 وحصل على نسبة قاربت 30% في فاس، الرباط /المحيط ،القنيطرة /المدينة، الدارالبيضاء (الحي الحسني، الحي المحمدي، درب السلطان) بالمقابل كانت نتائجه اقل في ضواحي المدن مديونة / الدارالبيضاء 8,5% ، النواصر 7,9 % وحصل على أرقام ضعيفة في بعض الاقاليم التي نزلت الدولة بثقلها في مجال مشاريع التنمية التشاركية منذ 10 سنوات (الحوز 5,6%، فكيك 1.4% الحسيمة 2,4 % أو الصحراء عبر سياسة المساعدات بوساطة من الاعيان تشجعها الدولة، ويجد حزب العدالة والتنمية أيضا صعوبة في اختراق المناطق القروية التي تتميز ببنية قوية للاعيان والتي بنى فيها بعض السياسيين معاقلهم منذ عدة سنوات مثل تازة، بولمان، ازيلال، تارودانت. والعلاقة الوثيقة بين النتائج في الانتخابات المحلية التي تدور حول «الرجل القوي» والانتخابات التشريعية لاتسمح لحزب العدالة والتنمية الغائب تقريبا عن الغرفة الثانية بتحقيق نتائج بارزة. وتفسيرات الفشل النسبي لحزب العدالة والتنمية ليس سببها التقطيع الانتخابي وانماط الاقتراع، بل هناك عوامل داخلية لعبت دورا اساسيا، فثمن الانتقال من حركة دينية سلفية إلى حركة سياسية كان باهظا، بحيث ان الحزب راهن بعدم مجاراة قاعدته بالضرورة، فالحزب الذي انتقل من وضيعة دعوية خطابية دون مسؤوليات كبيرة إلى وظيفة بلورة مشروع مجتمعي ملزم ببناء نفسه كحزب طامح للسلطة، وقادر على إبراز بعض الكفاءة في التدبير بدل الورع الديني الذي أصبح عنصرا ثانويا. هذا التشكيل الجديد للحزب أدى إلى تراجع المؤسسين المناضلين امام تقنوقراطيين لايحظون ، بالضرورة ، بشعبية على مستوى القاعدة، وبإبراز الكفاءة التقنوقراطية والاعتدال الايديولوجي على خطى حزب العدالة والتنمية التركي. كان الحزب مجبرا على المرور عبر نفس اللحظات كأي حزب إصلاحي :إعادة هيكلة الحزب من أجل إبعاد أو التحكم في المنظرين، أي العلماء في هذه الحالة ، ضرورة التفكير في تحالفات غير طبيعية محتملة وبالتالي اعادة النظر في شروط الورع والانخراط في توافقات تتطلب اعادة تفسير المرجعية الدينية باللعب على خيط رفيع بين البراغماتية والانتهازية، تهميش القاعدة والمؤتمرات الجهوية ذات الحمولة الشعبوية لصالح هيئة اركان تقنوقراطية. اعادة انتشار الأعيان إن مفارقة السلطة في المغرب تتمثل في تشجيع الطموحات السياسية بشكل من الزعامة تشارك في تسيير الشأن العام دون ان تكون متأكدة من التأثير في التوجه على المدى الطويل، هذه الوظيفة هي من مجال السلطة الملكية والدوائر المحيطة بالقصر. ولتقدير رهانات انتخابات 2007 من المهم القيام بعودة تاريخية لرسم ملامح التشكيلات السياسية وبنيات الفرص المنبثقة عنها. فالمغرب عرف منذ الاستقلال ثلاثة أنواع من التشكيلات، التشكيل الذي يشجع بروز الاعيان التقليديين (1956 - 1983) تشكيل ثاني صاحب تطور الادارة وبروز الاعيان بالموقع (1983 - 1999) وانطلاقا من 1999 شجعت أنماط الحكامة الجديدة وإن كانت شكلية، بروز ملامح جديدة أنتجها اساسا المجتمع المدني، و«الاحواض» السياسية لليسار. وكان مفروضا ان تستجيب انتخابات 2007 لهذا الطلب الجديد للمرحلة السياسية بإرسال نخبة سياسية جديدة إلى البرلمان هذا الهدف لم يتحقق وحاولت قيادات الاحزاب مراقبة التحول الجاري بالتحكم في مسلسل صناعة اللوائح المتنافسة، وباستثناء حزب العدالة والتنمية اختارت الاحزاب ذات التميز الايديولوجي القادر على تقديم اختيارات سياسية متميزة عن الملكية، اختارت تقليل المخاطر وحل ضغوط قواعدها عبر الانشقاقات أو الاقصاء وفضلت تزكية الاعيان لتفادي أي تجاوز من جانب حزب العدالة والتنمية في المدن الكبرى واضافة إلى حزب الاعيان التقليدية، تمكنت احزاب ذات اتجاه يساري مثل حزب القوى الديمقراطية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بل وحتى حزب التقدم والاشتراكية من الاحتفاظ بوجودها بفضل هذه السياسة، هذا المعطى خلق شرخا بين ملامح البرلمان وملامح الحكومة التي من المفروض وفق الطريقة الديمقراطية أن تنبثق عنه واضطر القصر إلى التدخل بنوع من العنف الرمزي واجبار القيادات الحزبية على قبول تقنوقراطيين متمرسين على تدبير الشأن العمومي وقادرين على التطور سريعا ليصبحوا سياسيين مكتملين.