«نحن في حاجة إلى رؤية تتجاوز ماهو قابل للتطبيق على الفور.. إنه عمل سيزيفي، شأنه شأن كل عمل تاريخي» سطيفان هيسيل في الأيام الأخيرة من حياته، كتب جان بودريار: «الجذرية امتياز نهاية المسار».. ينتمي سطيفان هيسيل – الذي توفي يوم الأربعاء عن سن 95- إلى طبقة هؤلاء المثقفين الفرنسيين الذين كلما ازدادوا في العمر كلما ازدادوا تجذرا في مواقفهم الكبرى اتجاه العالم، و اتجاه الاستبداد، و اتجاه الرأسمالية، واتجاه الصهيونية، أي باختصار تجاه أكبر همجيات عصرنا.. على العكس تماما من كثير من مثقفينا الذين كلما ازدادوا في العمر، كلما ازدادوا «اتزانا»، و «حكمة»، و«تبصرا»، و«تعقلا»، و«واقعية»، أي بعبارة أكثر وضوحا اقتناعا بأولوية التأقلم مع العالم، ومع الاستبداد، ومع الفساد، ومع الرأسمالية، ومع النهب، ومع التحكم، كحل استراتيجي لمشكلة الذات فوق هذا الكوكب.. هيسيل ليس وحده من يتميز بهذه الخاصية الكبرى.. أذكر هنا بادغار موران، ذلك الثائر صاحب 92 سنة، الذي شاهدته أخر مرة منذ شهر تقريبا لدى فريديريك طاديي، في البرنامج الشهير «هذا المساء أو أبدا»، وهو يندد بحدة لفظية و جسدية عجيبة بالإرهاب الكبير الذي يقودنا الى الهاوية : إرهاب النهب و الاستحواذ والتحكم.. أخر مرة شاهدت فيها هيسيل كانت عند طاديي دائما الذي دعاه هو وموران للتحدث عن كتابهما المشترك المعنون ب «طريق الأمل» le chemin de l'espérance .. أتذكر كيف عبر الرجلان عن تذمرهما الحاد من عالم تحكمه عصابات ( الكلمة استعملها هيسيل فيما استعمل موران كلمة ضواري) لاتتردد في تعرية الشعوب من أجل نشواتها.. بدأ هيسيل حياته النضالية سنوات الأربعينات مساهما في كتابة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». كان أصغر مساهم في هذا المشروع الذي خرج منه مجمل الفكر الحقوقي الدولي.. و انتهى -أياما قبل اختفائه- محررا لمقدمة كتاب «العدالة من أجل فلسطين» الذي سوف يخرج إلى القراء في مارس المقبل عند منشورات ليرن، و هو النص الذي يشكل خلاصات مختلف النقاشات التي تمت في إطار «محكمة برطراند راسل حول فلسطين».. كان هيسيل سباقا دوما للدفاع عن القضايا الأكثر التباسا و استعجالا من مثل قضية الأشخاص بلا أوراق بفرنسا بعد صعود فرانسوا متران إلى سدة الحكم و قضية الفلسطينيين في سياق مجازر صبرا وشتيلا سنة 1982.. لم يكن هيسيل يهادن حتى وهو في مواقع المسؤولية الرسمية.. لم تمنعه وظائفه الدبلوماسية أبدا من التنديد بإرهاب العواصم الكبرى: اسرائيل فيما يخص قمعها للفلسطينيين، فرنسا ولعبتها العنصرية تجاه المهاجرين، أمريكا وسياساتها الاستحواذية المسؤولة عن كثير من الاحتقانات الكبرى لعصرنا.. يشكل كتابه ما قبل الأخير «استنكروا» ذي 30 صفحة و الذي بيعت منه أكثر من خمسة ملايين نسخة عبر العالم واحدة من صرخاته الأساسية ضد ظلم العالم.. لقد ألهم هذا الكتيب العميق حركات احتجاجية كثيرة عبر العالم، في فرنسا، اسبانيا، اليونان و حتى الولاياتالمتحدة حيث رفعه المحتجون الذي دعوا إلى احتلال «وول ستريت».. هيسيل من طينة المثقفين الذين فهموا أمرا أساسيا: أن دور المثقف هو أن يمنح للمجتمعات أدوات التفكير في مصيرها خصوصا في لحظات التيه والأزمة كما هي اللحظة التاريخية الحالية.. يشكل أخر كتبه «ناظلوا» مثالا عما تم ذكره هنا.. ففيه يدعونا هيسيل إلى العمل بتعاطف من أجل عالم أخر، عالم نتجاوز/ندفن فيه الأنانيات الكبرى التي تقتلنا.. سأختم بهذا التصريح الذي أطلقه رئيس الهيئة الممثلة للمؤسسات اليهودية بفرنسا ( كريف) ريشار براسكيي الذي ندد فيه بقوة ب «هوس» هيسيل بجعل «غزة مركز الظلم في العالم».. هذا فخر لهيسيل، فخر كبير له أن يسبه ممثل واحدة من أكبر همجيات عصرنا.. أتمنى لك هيسل مقاما سعيدا حيثما توجد.. [email protected]