مازال الكتاب الظاهرة «استنكروا» أو «عبروا عن استنكاركم» لستيفين هاسيل على رأس مبيعات الكتب حتى حدود اليوم في فرنسا ،حيث تجاوزت المبيعات لهذا الكتاب مليونين و 100 ألف نسخة بفرنسا وحدها وأكثر من مليون نسخة بباقي العالم . آخر مرة تطرقنا فيها لأخبار هذا الكتاب على صفحات الجريدة كانت عدد المبيعات لا تتجاوز 500000 نسخة, وهو رقم تحقق رغم تجاهل كبريات وسائل الإعلام الفرنسية له في البداية ،وأمام هذا النجاح الاستثنائي بل العالمي, اضطرت جميع القنوات إلى استدعاء الكاتب للحوار معه في النشرات الرئيسية، لتتبعها على نفس المسار باقي الإذاعات والصحف . هذا التجاهل الاعلامي في البداية لموقف هيسيل المبدئي المساند لحق الشعب الفلسطيني في أرضه ودولته . ففي فرنسا اليوم لا يتم استقبال الكتاب والمثقفين المساندين لحقوق الشعب الفلسطيني في مختلف وسائل الإعلام خوفا من هجوم أتباع إسرائيل .وهو كتاب لا يقتصر على فلسطين فقط التي تعتبر احد المواضيع الأساسية له, بل يستنكر كل ما تقوم به الحكومة الفرنسية من تراجعات على مكتسبات ما بعد الحرب الكبرى التي حققها الفرنسيون, وهي التقاعد في سن 60 سنة والضمان الاجتماعي و حرية وسائل الإعلام التي أصبحت تملكها اليوم كبريات الشركات الفرنسية مما يحد من حريتها. طبعا الكتاب أصبح له تواجد وتأثير عالمي وعدد من الحركات الاحتجاجية تحمل اسمه خاصة باسبانيا حركة «الاستنكار»وهي حركة امتدت لتحتل احد الساحات أمام ولت ستريت بنيويورك مؤخرا, دون الحديث عن أصداء هذه الحركة بايطاليا،اليونان،البرتغال ،بلجيكا وغيرها من البلدان الاوربية ،في حين هذه الحركة مازالت ضعيفة بفرنسا، فقد حاول عدد من الشباب عدة مرات احتلال الباستي وسط باريس على غرار ما يقع في مدريد ونيويورك, لكن الحركة لم تتمكن من النجاح في بلاد الثورة الفرنسية ،ربما لأن فرنسا تعيش على وقع الانتخابات الرئاسية وعدد من أفكار حركة الاستنكار يحملها جزء من مرشحي اليسار الفرنسي وحتى داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي, حيث احتل ارنو منتبورك الصف الثالث في الانتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي وهو يدعو الى الخروج من العولمة وممارسة الوصاية على الأبناك.وهي كلها أفكار قريبة من مطالب هذه الحركة. هذا الكتاب هو ظاهرة حقيقية لا من حيث عدد المبيعات, حيث وصلت منذ صدوره في اكتوبر 2010 ثلاثة ملايين نسخة,ولا من حيث عدد اللغات التي ترجم إليها والتي وصلت الى 34 لغة عبر العالم ،وأهم المبيعات خارج فرنسا كانت باسبانيا, حيث وصلت مبيعات الكتاب باللغة الاسبانية نصف مليون نسخة ونفس العدد بألمانيا وبإيطاليا 120 الف نسخة وحتى الصين بيعت بها 30 الف نسخة . يبقى فقط العالم العربي الذي لم يترجم له بعد الكتاب رسميا والذي تعيش دوله أيضا حركات سخط واستنكار تحول بعضها الى حركات مسلحة وحروب أهلية مثل ليبيا ،سوريا واليمن ، في حين تمكنت بلدان أخرى من تجاوز حركات السخط عبر التحول عبر المؤسسات مثل المغرب والأردن . اليوم لا يمكنك الحصول على موعد مع هذا الشيخ ذو 94 ربيعا ،فله أجندة رئيس دولة، يتم استدعاؤه في القارات الخمس لتقديم ترجمة جديدة وللحديث مع الشباب، وقال لصحفيين حول جولاته عبر العالم رغم تقدمه في السن « كلما مازلت قادرا على المشي والكلام وفهم ما يدور حولي, أعتقد أنه علي أن أكون مسؤولا،فإذا كان بإمكاني ان أمارس تأثيرا علي استعمال ذلك « هذا الكتاب الصغير الحجم والثمن والذي لا يتعدى 30 صفحة يدعو الفرنسيين الى السخط والاستنكار لكل ما يمس قيم ومكتسبات المجتمع الفرنسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .ستيفان هيسيل المقاوم والمناضل اليساري يبدأ كتابه برقم « 93 سنة،انها المرحلة الأخيرة،النهاية ليست بعيدة،إنها فرصة كبيرة وحظ لأذكر بأسس التزامي السياسي» فهو كتاب وصية من جد مقاوم في أخر حياته الى أبنائه وهو يرى كل المكتسبات التي حققت منذ نهاية الحرب العالمية بفرنسا يتم العبث بها من طرف حكومة نيكولا ساركوزي دون أن يحرك احدهم الساكن. ويذكرهم ب « سنوات المقاومة، البرنامج الذي تم وضعه منذ 70 سنة من طرف «المجلس الوطني للمقاومة»، نحن مدينون بذلك الى جون مولان ، الذي جمع في هذا الإطار كل مكونات المجتمع الفرنسي المقاوم والتي كانت تعترف بقائد واحد هو الجنرال دوغول في لندن ، عندما التحق به الجنرال سنة 1941 . مجلس المقاومة الفرنسية تبنى برنامجا سنة 1944 حيث يقترح على فرنسا المحررة مجموعة من القيم والمبادئ التي ترتكز عليها الديمقراطية العصرية لفرنسا» وجزء كبير من المكتسبات مازال يعيش عليها الفرنسيون حتى اليوم. «هذه القيم والمبادئ ما أحوجنا إليها اليوم بفرنسا ، ومن واجبنا ان نحرس حتى يكون مجتمعنا مجتمع نفتخر به, وليس مجتمع مهاجرين بدون أوراق إقامة، مجتمع طرد المهاجرين ،مجتمع الريبة تجاه المهاجرين، وليس مجتمعا يريد وضع التقاعد محل تساؤل وكذلك مكتسبات الضمان الاجتماعي، لا نريد مجتمعا توجد به ملكية وسائل الإعلام بين أيدي الذين يملكون كل شيء، كل الاشياء التي علينا استنكارها ورفضها لو كنا ورثة حقيقيين للمجلس الوطني للمقاومة». الكاتب يعبر عن سخطه واستنكاره لكل التراجعات التي تحدث في حكومة نيكولا ساركوزي من مطاردة للمهاجرين وتخويف الفرنسيين من هذه الفئة وكذا التراجع عل المكتسبات الكبرى للمجتمع الفرنسي، التي كانت تجعل من فرنسا قدوة في العالم مثل بلدان كالولايات المتحدةالامريكية, حيث بدأ التراجع عنها مثل الضمان الاجتماعي والحق في التقاعد في 60 سنة بعد عدد محدد من سنوات العمل والاعتراف بالأعمال المضنية . بالنسبة لهيسيل فرنسا اليوم تحكمها فئات كل هاجسها هو التراجع على كل هذه المكتسبات.بل يدعو كذلك الدولة أن تستمر في إدارة كل المؤسسات الكبرى من ابناك وشركات الطاقة والعودة الى « ديموقراطية اقتصادية واجتماعية حقيقية والتخلص من الفيودالية الكبرى الاقتصادية والمالية التي تقوم اليوم بإدارة الاقتصاد» ودعا كذلك إلى أن « يعلو الصالح العام على الصالح الخاص» وأضاف ان « ديموقراطية حقيقية في حاجة الى صحافة مستقلة عن الدولة وعن القوى المالية والأجنبية « وهي كلها مكتسبات مهددة اليوم كما يقول الكاتب . واعتبر هيسيل أن إصلاحات التعليم بفرنسا منذ 2008 هي تراجعات عن المكتسبات التي حققتها المقاومة بوضع تعليم راق في متناول كل الفرنسيين. هذا الكتاب هو استنكار» للأمركة» التي تخوضها حكومة ساركوزي بفرنسا والتي تصبو الى حرمان الفرنسيين من كل المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية التي حققوها منذ التخلص من الاحتلال النازي وإعطاء مكانة كبرى الى الفيودالية المالية والاقتصادية الكبرى .وأضاف انه من غير المقبول أن يقال لنا أن الدولة لا يمكنها تحمل تكاليف هذه المكتسبات المواطنة، وكيف ينقص المال اللازم اليوم لتمويل ذلك, في حين أن انتاج الثروة بفرنسا لم يكن له سابق منذ تحرير اوربا من النازية, لأن قوة المال كانت محاربة من طرف المقاومة ولم تصل الى مستوى الوقاحة والتكبر مع خدامها الى أعلى مستويات الدولة كما يحدث اليوم « طبعا هيسيل يسمح لنفسه بإعطاء الدروس إلى الفرنسيين بصفته من رعيل المقاومة التي رافقت الجنرال دوغول، لينبههم للتراجعات التي تحدث اليوم وللتراجع عن مكتسبات مجلس المقاومة، لهذا يدعوهم الى التعبير عن الاستنكار والسخط لكل ما يحدث من تراجع ,بل يطلب من مواطنيه الى الانتفاضة السلمية لإدانة كل التراجعات. ويعود هيسيل ليتحدث عن تعقيدات عصرنا اليوم ويقول» إن أسباب التحاقي بالمقاومة الفرنسية كانت واضحة ،لكن أسباب الاستنكار اليوم ليست بالسهولة التي نعتقد في عالم جد معقد. يطالبنا أيضا بالتفكير وسوف نجد الأسباب التي تدعونا الى الاستنكار،منها الفرق الصارخ اليوم بين الفقراء والأغنياء،وضعية الكرة الأرضية، معاملة المهاجرين بدون إقامة رسمية، معاملة المهاجرين والغجر ،المنافسة المطلقة،ديكتاتورية السوق المالي،التراجع على مكتسبات المقاومة ،التقاعد والضمان الاجتماعي... ومن اجل الفعالية لا بد ان نفعل كالأمس ،ان يكون رد الفعل من خلال شبكات مثل : أطاك،أمنيستي،الفدرالية الدولية لحقوق الانسان ... « مسار هذا الرجل هو استثنائي، هو من أصل ألماني يهودي ولد سنة 1917 ببرلين، ينتمي الى عائلة مثقفة ،هاجرت الى فرنسا سنة 1925 ، ليتابع ستيفان هيسيل دراسته بضاحية باريس, وبعد حصوله على الباكلوريا التحق بالمدرسة العليا للأساتذة ، وفي أجواء الحرب التحق بالجيش الفرنسي وفر منه اثر الاحتلال سنة1940 ليلتحق بالجنرال دوغول والمقاومة بلندن سنة 1941 وجاء في مهمة سنة 1944 وتم اعتقاله من طرف السلطات النازية وتم إرساله الى جحيم المحرقة, لكنه تمكن من الفرار نحو فرنسا.وكان أيضا احد المحررين الأساسيين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 .كما اشتغل سفيرا بالدبلوماسية الفرنسية. ويوجد هيسيل اليوم في قلب معركة شرسة ضد إسرائيل، هو المناضل ذو الأصول اليهودية، الناجي من المحرقة، وأحد المحررين الرئيسيين لوثيقة الإعلان عن حقوق الإنسان. رهانات هذه المعركة، كما هي باقي معاركه، سياسية، حقوقية، إنسانية وأخلاقية. وهو بذلك احد دعائم النضال من أجل حقوق الفلسطينيين التي أحيلت على الصمت بمختلف وسائل الإعلام الفرنسية . بل ان من يتحدث وينتقد دول الاحتلال الاسرائيلي اليوم بفرنسا يجد التهمة جاهزة وهي معاداة السامية ،ورغم ان هيسيل يهودي ناجي من المحركة توجه له نفس التهمة ،إنها قمة الجنون التي تعيشها فرنسا اليوم ,التي تحولت من بلد يدعم كل اشكال السخط والاحتجاج التي يعرفها العالم من أجل المساواة والحقوق ومحاربة كل اشكال الاستعمار, الى بلد يمنع فيه بشكل غير رسمي الحديث عن الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين. عندما يتم استدعاء الكاتب الى وسائل الاعلام الفرنسية « يتم تجنب طرح أسئلة حول احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية رغم أن كتاب هسيل يخصص حوالي نصف الكتيب للقضية الفلسطينية . في هذا الكتاب, يؤكد هيسيل أن احد مواضيع الاستنكار والسخط الأساسية بالنسبة له هي القضية الفلسطينية، قطاع غزة والضفة, وهذا الصراع هو قلب الاستنكار، ولا بد من قراءة تقرير ريشار كولسطن في شتنبر 2009 حول غزة ، هذا القاضي الجنوب افريقي وهو يهودي الديانة, بل يقول إنه صهيوني ، يتهم الجيش الاسرائيلي بممارسات جرائم الحرب ضد الفلسطينيين «ويمكننا القول في بعض الظروف بجرائم ضد الإنسانية،في حربه على غزة والتي دامت ثلاثة اسابيع. وقد عدت بنفسي الى غزة والتي تمكنت من دخولها مع زوجتي بواسطة جواز سفري الديبلوماسي من خلال رؤية ما تطرق له التقرير... كما زرت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الذي تم فتحه منذ 1948 من طرف الأممالمتحدة والذي يوجد به ثلاثة ملايين فلسطيني طردتهم اسرائيل من اراضيهم وينتظرون عودتهم وهي قضية أكثر تعقيدا. في حين أن غزة هي سجن بسماء مفتوحة لحوالي مليون ونصف فلسطيني...» في 2009 أشار هيسيل إلى أنه يجب وضع إسرائيل على قائمة الدول »الاستبدادية« التي تجب مقاطعتها. وهذا ما أكد عليه في تصريح في شهر يونيو الماضي لما دعا إلى المقاطعة وعدم الاستثمار مع فرض عقوبات على الدولة الإسرائيلية، وهو المبرر الذي دفع ب» مراقبي اللاسامية بفرنسا « إلى رفع دعوى قضائية ضده بتهمة «الدعوة إلى التمييز العنصري، وإلى الحقد والعنف» ،تصوروا ممثلو اسرائيل بفرنسا يتابعون احد الناجين من المحرقة ويهودي الديانية ويتهمونه بمعاداة السامية؟ أمر لا يصدقه اي عقل ،لكنه يعكس وضع فرنسا اليوم بدبلوماسيتها ونخبها الثقافية والاعلامية تحت التأثير الاسرائيلي, بعد أن كانت الدولة الغربية الوحيدة التي تتجرأ على رفض دعمها للاحتلال غير المشروع. في نهاية كتابه يدعو ستيفان هيسيل الى الانتفاضة السلمية على وسائل الاعلام ووسائل الاتصال والتي لا تقترح شيئا, اي افق للشباب الا الاستهلاك الجماهيري واحتقار الضعفاء واحتقار الثقافة ... كانت هذه وصية احد ضمائر فرنسا المقاومة الى مواطنيه. وأمام الانتقادات التي جاءت من فرنسا لستيفان هاسيل, فإن الكتاب يقف عند حدود الاستنكار وهو سلوك غير كاف ،أصدر ستيفان هسيل كتابا جديدا سماه»التزموا» وهو يتوجه الى المواطنين بعدم الوقوف عند حدود الاستنكار, بل يجب على الشباب الالتزام بالعمل السياسي من أجل تغيير الواقع وتغيير الحياة السياسية.وهو حوار مع شاب لا يتجاوز عمره 25 سنة ،وصدر في مارس 2011 ويحتل في تصنيف المبيعات للكتب الوثائقية الصف الثاني ب20 الف نسخة, أي بعد الكتاب الأول» استنكروا». والالتزام بالعمل السياسي عبر عنه ستيفان هاسيل من خلال دعمه لمرشحة الحزب الاشتراكي للانتخابات التمهيدية مارتينو أوبري ،لكن فرنسوا هولند هو من فاز بهذه الانتخابات. هذا الكتاب احدث ايضا ثورة على مستوى الطباعة،والذي طبعته في البداية دار نشر صغيرة مختصة في ثقافة بعض شعوب اسيا ،لكن اليوم كل كبريات دار النشر الفرنسية تقترح على القراء كتبا من الحجم الصغير لا يتجاوز عدد صفحاتها 50 صفحة،لإقبال القراء بكثافة على هذا النوع من الكتب. هذا الشيخ الذي كان يعتقد الجميع انه أنهى حياته المهنية والسياسية يحدث ثورة على عدة مستويات, وتلهم كتبه عدة حركات احتجاجية عبر العالم وتم إعادة إصدار كل كتبه السابقة ،بل ان آخر انجازاته هو حوار مطول مع الفيلسوف ادغار موران والذي صدر في كتاب تحت عنوان «طريق الأمل».هذا الشيخ الذي احتفل هذا الشهر بربيعه 94 يدعو شباب العالم الى «طريق الأمل».