الموت نهاية حتمية لصراع بين البقاء و الفناء، هي تتويج لمسار حياة ينتهي بالأفول. جسد يتهاوى بعد أن قاوم بعنفوان التمسك بحب الحياة، إضمحلال إسمٍ و تسجيله في خانة الراحلين، بعد أن كان مدوّن بقلم الرصاص في لائحة المنسيّون في وطن سطا عليه بقايا المستعمرون الجدد، ولكي يسهل على مصاصي دمائنا مسحه كلما تطلب منهم الأمر ذلك. البقاء و الخلود حالة مرضية تسكن قلوب محبيّ السلطة، و عاشقي قطع الرقاب، وسمة يتشبث بها الملوك و الطغاة، لأنهم يعرفون أن لا أحد سيرفع أكفّ الدعاء لهم بالمغفرة و حسن الثواب. و كما الحياة درجات… فالموت ميتات.. و ليس كل جثة ستضمن تشيّعا يليق بها، و لا كل روح ستصعد السماء مع رسالة تأبين من المخزن تحتها عبارات التعزية و المواساة. مواساة على سنوات بحث فيها الميّت عن كرامته و إنسانيته لكنه وجد السلطة مستصدرة لهما بدعوى أنها تفسّد الأحياء، و تجعل الحاصلين عليهما أناساً، بينما كان هو (النظام) يحتاج عبيداً. "القبور حفرٌ تستر ضعفنا في الحياة". هكذا نبست بها شفاه أحدهم، لكنه نسي أن يصنف أي نوع من القبور تلك التي يعني بقوله. هل التي تنبث في رقعة ملطخة ببقايا بزار الأطفال الصغار؟ أم تلك التي يلقي عليها ثاني رجل في حكم البلاد نظره، و يرسل ماء دمعه كعربون خوف و تبجيل للراقدين تحت التراب، بعد أن يئسوا من الرقاد فوقه؟. يكثر الميّتون في بلدنا. ضحايا الطرقات، وشهداء غياب الإنسانية. و مقتولي الأفيون. لكن لا أحد يعلم بموتهم سوى حين يكون عددهم كبير و يصلح كدعاية في جريدة، فتصبح دمائهم "مانشيتات" يبيعون بها النسخ و يربحون على كل جثة مدونة في صفحاتهم بعض الدريهمات. و لا أحد يحظى في موته بتشيّع رئيس الحكومة مرفوقاً بوفد من حزبه حكّ البصل على عيونه كي يسهل عليهم ذرف الدموع على قبره، بعد أن لم تستطع كل مناظر البؤس و الفقر في تليّن قلوبهم على شعب ينتظر الموت لعلها تريحه. لا تفاضلوا بينا في الموت كما فاضلتم بيننا و نحن على قيد الحياة، كلنا أبناء هذا الوطن. و لسنا عبيداً للدولة. نرضى بالفتات و نصمت، لأننا نعلم أن سرطان الحقد و الكراهية تجاه شرذمة سارقي الوطن المتوجيّن بنياشين الإستحقاق على أكتافهم، عربونا من أسيادهم على حسن إكرام وفادتنا، بدأ يتفشى و لم تعد المهدئات تعالج صاحبه… فلم يعد أمامه سوى إجثتات أصل الورم. لا تجعلوا القبور درجات، بعد أن خنقتنا قبور الحياة، فلم ننعم بالحرية سوى وسط أكوام الكتب التي تبشر بأن مهما طال الظلام سيبزغ نور فجر الصباح. لا تبحثوا عن عطفنا، فأنتم من بدأ بالقتل، و سطور التاريخ لا تُمحّى بسهولة، حتى وإن مسح المخزن سجلكم، فدفاتر بؤسنا لازلت تسجل تاريخكم الدموي. وإن اكتب هذه الكلمات الموشومة بخزي داخلي على وطن يقتتل فيه الأبناء، بينما يلهوا الضبع وحيدا منفردا بالقطيع، و ما بقي من فتات تقتات به العقبان، فإني أشيّع الإنسانية التي غابت و سار القتل هو سلاح الرّد على الخصوم السياسيين. فسحقا للسياسة حين يبحث القاتل عن من يشرعن فعل قتله. و سحقاً للموت حين يصبح التفاضل فيه بمنطق الحساسية و الإنتماء.