"إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة،إذا رجت قيادات الادارات بالحسيمة رجا فكانت هباء منبثا وكنتموا أزواجا من ستة وثلاثين فردا مدانا ومعتقلا....فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة." كانت هذه العبارات هي مضمون الرسالة الصوتية التي وصلتني عبر الهاتف النقال من بلاد مصر،والمرسل هو الأمير سيدي محمد بنعبد الكريم الخطابي، وقد عرفت صاحب الرقم الهاتفي منذ أن هاتفني بعد صدور مقالتي منذ سنوات والمعنونة ب"عبد الكريم يقتل من جديد" وللتذكير فقد كنت كتبت مقالتي تلك التي تفضلت جريدة الأيام بنشرها بعد إحساسي بألم شديد على إثر زيارتي لمقر الأمير بأزغار( أجدير) فوجدته حينها وما يزال خرابا منسيا، وزاد ألمي حينما عرجت على مقبرة الشهداء بأجدير حيث يرقد آل الخطابي وعشرات الشهداء المقاومين والعلماء الربانيين والقضاة والزهاد الميامين هؤلاء وغيرهم من المجاهدين في كل أنحاء الريف الذين لقنوا ضباط العسكرتاريا الفرنسيين والاسبان دروسا لن ينسوها مادامت قد ترسخت في تاريخهم المعاصر، هذه المقابر التي اندثر جلها وهاجمتها الأشواك والحشرات الضارة التي وجدت في اشتباك البول بالغائط غذاء دسما لها، واشتد ألمي لما ذهبت إلى طنجة وأثناء زيارتي لمقبرة الانجليز الذين كانوا يسكنون طنجة الدولية في الطريق إلى الحافة قرب ملعب الغولف ، وإلى جانب قبور الانجليز وجدت قبور كلابهم محفوظة مصونة بالرخام ومنقوش عليها اسم الكلب الراقد في القبر إضافة إلى عبارة تضم اعترافا لصاحب الكلب مكتوب عليها"هذا الكلب كان لي وفيا"، ويا للمفارقة لقد وجدت قبور كلاب الانجليز في بلادنا أنقى من قبور شهدائنا وعلمائنا وقضاتنا، كما وجدت عبارات الاعتراف بوفاء الكلب وإخلاصه موثقة ومدونة في الوقت الذي تغيب فيه هذه العبارات الاعتراف بالإخلاص والوفاء لشهدائنا وعلمائنا وفقهائنا، وزاد ألمي لما رأيت لوحة حديدية عملاقة تكاد تغطي المقبرة، إشهارية للمشروع السياحي الذي يهدد مدينة المزمة التاريخية ليجعلها دكا دكا وتحل محلها الفيلات الفاخرة صفا صفا، كانت هذه مضامين المقالة السالفة باختصار شديد،وعلى إثرها تلقيت مهاتفة من الأمير الخطابي، وبسببها حفظت رقم هاتفه، فقمت بتسجيل رقم الأمير على الهاتف لأتصل به،ومن حسن حظي أن شركة اتصالات المغرب كانت قد أطلقت عرضا تخفيضيا للمكالمات الخارجية(30 دقيقة) بثمن مناسب،لأنه يستحيل لدرويش مثلي أن يجري مكالمة دولية من هاتفه للخارج في ظل الأثمنة العادية، فقد أصبحت مكالمات الدراويش تنتظر العروض الاستثنائية لتنقض عليها لتصبح لها قاعدة المكالمات استثناء واستثناءاتها قاعدة،المهم هو أني قد هاتفت الأمير- فهناك من لا يقبل هذا الحشو- وبعد تحية ملؤها الاحترام والتجليل سألته:"كيف علمت ياسيدي بواقعة الحسيمة؟ هل عبر الجرائد؟ أم عبر قنوات البرابول؟ أم عبر الإنترنيت الذي نحمد الغرب على نعمته التي أخرجنا بها من ظلمات المصادرة والتعتيم إلى نور الوضوح ونشر الخبر؟ فأجابني: لقد كنت حاضرا في عين المكان وعلمت بالحدث مباشرة وبدون وسائط. فذهلت للجواب وزاد استغرابي وتعجبي، فقلت كيف؟ فقال بصوت ذو شجون ملؤه الخشوع والجلال:" واهمون من يظنون أنني ميت، فأنا مازلت حيا،وأراقب الوضع بدقة عبر عيون الشعب المغربي وضمائره المخلصة والنقية الطاهرة، وأن الذين ماتوا حقا هم أولئك الذين كانوا يعتبرون بأن الاستحواذ على خيرات هذا الوطن مقلبا ومكسبا ومدخلا للسياسة والتحزب والتنقب، كما كانوا يعتبرون أن سبقهم للتعلم والتكوين والتحزب وخدمة الاستعمارين الفرنسي والاسباني ، وتعليم أبنائهم في المدارس الأجنبية اللغات العالمية إضافة للعلوم الحية والتقنية والهندسية في المعاهد العليا الخاصة وفي الجامعات الأجنبية، إذ يعتبرون أن ذلك مقلبا لنا وفطنة وحذاقة وبراعة منهم، كما كانت نظرتهم إلى أبناء الشعب من الدراويش نظرة دونية احتقارية، فنحن في نظرهم مجرد أميين وحتى إن درسنا فنحن مجرد" طلبة ديال القرآن" وهي العبارة التي أطلقها صاحبنا الذي لا داعي لذكره في حق العلامة سيدي المختار السوسي بعد أن تمت إزاحته من الوزارة لينزوي هما وغما في مراكش حتى وداعه الدنيا. نعم يا بني هؤلاء هم الميتون حقا وحقيقة ، بعد أن أسسوا الشركات وابتلعوا الوزارات والعقارات وراكموا الأموال، وأين هؤلاء الآن ؟ لقد نخرتهم الديدان وهم الميتون حقا ونحن إلى جانب شهداء هذا الوطن وعلمائه وخادميه ومخلصيه من الأسماء التي يستحيل عدها هم الأحياء حقا، يا بني لاتحسب الذين قتلوا وأبعدوا عن ديارهم في سبيل هذا الوطن أمواتا بل هم أحياء عند الشعب المغربي وعند العالم الحر يذكرون، يا بني لقد عمل خناسو العصر من أصحاب الهمزة اللمزة وأنا في عز المقاومة والجهاد ضد العدو المستعمر على طعني في الظهر حينما وسوسوا للسلطان الشريف الذي نكن له كل آيات الولاء والإخلاص، فقالوا له إن عبد الكريم يريد تمزيق المملكة والتمرد على بيعتكم، وأعلنت حينها مكاتبة لجناب السلطان تكذيبي القاطع لتلك الوساوس مؤكدا من خلالها بيعتي الشرعية والوطنية ، ولم أكتف بذلك بل أرسلت وفدا بهدية للسلطان ليبلغه الأمر لكنهم قطعوا عليه الطريق، ولم يكتف خناسو العصر بذلك بل لاحقوني بألسنة سيوفهم السامة حتى إلى المنفى، وأنزلوني بإهانة شديدة من الباخرة بمصر وبدون إرادتي، وعانيت حينها معاناة جمة لا يمكن نسيانها في خضم التنسيق لتأسيس جيش التحرير المغربي، وحينما اعترضت على معاهدة اتفاقية إيكس ليبان التي أعطتنا ما أسميته ب"الاحتقلال"، بوطن بلا رأس في الشمال(مدن وجزر محتلة)، ولا أرجل في الجنوب(تأزيم الصحراء المغربية)، بعد أن اعترضت على ذلك العبث غضبوا مني وأخرجوا الأسطوانات السامة من جديد لمزيد من الطعنات، وزادت طعناتهم حينما ناديت بتعديل الدستور، فغضبوا مني وقالوا لي: لا مكان لك في هذا البلد، وزاد غضبهم حينما صحت بأعلى صوتي "اللهم إن هذا لمنكر" إزاء حملات التفتيش والتقتيل والاعتقال التي طالت أعضاء جيش التحرير المغربي بدار بريشة وبغيرها من المواقع بقيادة" الغزاوي" زاد غضبهم مني وزادت طعناتهم لي، وزاد حقدهم علي حينما احتججت على مجازر 1958 التي تعرض لها الريف. ولا أخفيك يا بني أني عشت غربة الست سنوات بعد1956 أشد وأقسى ألما ومعاناة وهو ما أسهم بشكل مباشر في موت جسدي، لكن روحي بقيت حية خفاقة في سماء العالم الحر، وفي نفوس المغاربة الأحرار. يا بني إن الواهمين الذين يختصرون ثنائية الموت والحياة في حركة البدن وتوقفه، ويؤمنون بتأجج الشهوة والمتعة وملذات الاستهلاك الباذخة أولئك الذين قال فيهم الله عز وجل:"ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده". هؤلاء لا يمكن أن يفهموا فلسفة الحياة والموت في منظومة الحرية الخالدة عند الأحرار والمفكرين والوطنيين الخلص،لأنهم يعتبرون أن قرصنة أموال المؤسسات سيخلدهم ، في حين نظن نحن أن الخلود يمنحه الإخلاص لمبادئ الوطن قولا وفعلا وخدمته ضمن الصراط المستقيم المضاد للصرط اللامستقيمة، يا بني لا أريد أن أثقل كاهلك بالتاريخ، ولو أن التاريخ الحقيقي الذي نحبذه هو معرفة السنن الكونية التي تحرك مسيرة المجتمعات البشرية ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وليس التاريخ هو جمع المدونات الإخبارية وتجليدها في مجلدات ورفها في المكتبات العامة والخاصة، لتتحول محتوياتها إلى مجرد أفيون للشعوب، ومخدرات فلسفية للأنتجلنسيا المتعجرفة والممتلئة بالهواء الطلق. يا بني إن المقاومة التي خضناها لم تكن حركة عسكرية لسانها ولغتها البارود والنار والدخان، إن المقاومة كانت مشروعا للإحياء خدمة للمجتمع المغاربي وليس المغرب الأقصى فحسب، ولم تكن حركة تقلص عالمها ووجودها ووطنها في الريف فحسب كما صورها خناسو العصر، ومن البلادة أن تخنق نفسها في جغرافية الريف فحسب، فهل يمكن لعاقل أن يتنكر للإمبراطورية المغربية التي كلنت حدودها تصل حدود فرنسا شمالا ونهر السينغال جنوبا وحدود مصر شرقا،بل إن المغرب قدم مفاخر للعالم الاسلامي عبر المعارك الثلاث: وادي المخازن والزلاقة و.الأرك، وهذا دليل تاريخي على أن الحضارة المغربية كل لا يتجزأ، إن جهاتها كأطراف الجسد الواحد إذا مرض عضو واحد تداعت له باقي الأعضاء والأطراف بالسهر والحمى ، يا بني إن فلسفة الحياة الخالدة التي أقدمها لك الآن ليست فلسفة روحانية أو بوذية أو أسطورية على شاكلة اعتقادات" الدالاي لاما"- مع احترامنا لكافة عقائد الشعوب- و هي ليست فلسفة وهابية تستمد ثقافتها من عذاب القبر ومن السماوات ليعمل جزارو العصر على تعذيب الإنسان في الواقع بسرقة أرضه وقطع رزقه وإذلاله وإهانته في الأرض بعناوين القبور والسماوات والحور العين.... ،إن فلسفة الحياة الخالدة التي أقدمها لك هي براء من كل ذلك، إنها وببساطة حياة تستمد مفاهيمه من الواقع المعيش بعقل وسلوك نظيفين، لا تأبى القهر وترفض سرقة المال العام، وتدافع عن الشخصية المغربية التي تتعرض يوميا لجرائم التخريب، إنها فلسفة تدعو للديمقراطية ولحقوق الانسان وللعدالة الاجتماعية....... وهنا قاطعته بأدب واحترام بعد أن غلى رأسي وسخنت الدماء في عروقي، تحت تأثير حرارة هذه الكلمات التي ليست كالكلمات، وارتعدت فرائصي لصوته الجامع بين الحنان والقوة، وبين الألم والأمل، وبين الجلال والجمال، فقلت له ياسيدي ما علاقة كلامك الجليل هذا بواقعة الحسيمة؟ وكيف علمت بواقعة الحسيمة بالضبط؟ فأجابني بهدوء: يابني إن حركة التاريخ تهدم الجدران الاصطناعية، حتى وإن كانت تلك الجدران فولاذية، وقد رأيتم في التاريخ القريب جدا كيف حطمت الجماهير جدار برلين لأنه كان أكذوبة إيديولوجية مطعمة بمخدرات فلسفية قطعت بلادا واحدة إلى قطعتين، وقد صنعه قراصنة العالم الجدد لإيهام الناس الدراويش بأن هناك فصلا إيديولوحيا وجدرانيا بين معسكرين شيوعي ورأسمالي، - وهذا ما فعله القراصنة بأياد جزائرية حينما أرادوا إخراج جمهورية من رحم المملكة المغربية العريقة بمخدر إيديولوجي اسمه الجمهورية العربية الصحراوية - إن حركة التاريخ يابني كما أسلفت لك القول من خلال سننها وزواياها الحادة والمنفرجة تنبني على الاستمرارية والتطور في الاتجاهين السلبي والايجابي كل من موقعه، وبناء عليه حتى تفهم كلامي بالكلمات العارية من فنون البلاغة أقول :إن الذين أسسوا للخط التحريفي من داخل المؤسسات الوطنية هم الذين يتحملون وزر واقعة الحسيمة التي ماهي إلا فاكهة مرة من زراعهتم الحنظلية - حاشا حنظلة صاحب ناجي العلي- أما كيف عرفت بالواقعة، فيجب أن تعلم يابني أنني أزور المنطقة يوميا من القاهرة إلى الريف، وتبتدئ زيارتي مع مطلع الفجر، وأرتبها على الشكل التالي: أبتدئ بزيارة مقابر الشهداء المجاهدين والعلماء والأولياء الصالحين في الريف بأكمله بدءا بطنجة إلى بني يزناسن، أعانق الشهداء بقوة وأقبلهم بعطف أبوي رفيع، ويسلمونني تقارير مايقع في غيابي بتفصيل، وأزور ساحات المعارك لأروي عطش الذاكرة الكفاحية، وأزور حتى مقابر الأعداء الذين قاتلونا في أرضنا بمليلية خاصة، وأقول بعدها لحاكم مليلية لقد جفت أحاسيسكم من الإنسانية في اعتداءاتكم المتكررة على المغاربة،في الوقت الذي كان الدافع الإنساني والأخلاقي هو الذي منعني من اقتحام مليلية يوم تمزقت جيوشكم أمام مجاهدينا شر ممزق، وتساقط جنرالاتكم في ساحات المعركة كتساقط قشور البطيخ المحمرة، لكن لا تفرحوا سيأتي وقت المحاسبة حتما فالشعب المغربي لم يمت بعد ولن يموت . وبعدها أزور الناس في أحيائهم ومداشرهم لأقف على وضعهم بشكل مباشر، وأزور الإدارات لأقف على معاناة الناس مع البيروقراطية والرشوة وإهانة المواطن والاستعلاء عليه، وأزور الأسواق والحوانيت، وتضيق نفسي حينما أجد الريف ذو الواجهة البحرية بينما أثمان السمك فيه تعانق في غلائها السماء، ويقسم لي بعض الشيوخ الذين بلغوا من الكبر عتيا بأنهم لم يذوقوا غالبية الأسماك طوال حياتهم لغلائها، باستثناء السردين والبوغا و الصورير(خوريريس)، وليست الأثمنة الحهنمية حصرا على الأسماك بل تشمل الخضر والفواكه واللحوم في بلد المخطط الأخضر الفلاحي، وأزور المساجد فيزداد ألمي حينما أرى الدين أصبح فريسة المهربين الدينيين من الجهلة والطماعين ممن يشككون الناس في تدينهم ويجلدون الناس البسطاء بخطبهم وخطاباتهم المهربة من الخارج، والتي توصلوا بمبالغ لنشرها وتدمير هويتنا، وبعد ها أزور باقي المناطق المغربية وفق البرنامج السالف الذكر،لأجد ما شاهدته في الريف يتكرر بحذافيره مع اختلاف الجغرافيا والأسماء، ولعل سبب هذا التشابه معلوم ويعود إلى إن غول الفساد واحد وإن تعددت رؤوسه، فمهما اختلفت أسماء البنادق فذخيرة القتل واحدة، وأقف بعض الوقت في جامعة القرويين، والتي تخرجت منها بداية القرن الماضي، ويشتد ألمي حينما أجدها مقبرة بدون رفات، تشكوا من الجفاف العلمي والعلمائي- حاشا ممن تبقى من السكة القديمة من العلماء المالكيين الأجلاء- وأعرج بعدها في زياراتي على الجامعات الحديثة لأهتف في آذان جناب الدكاترة والبروفيسورات والمهندسين وباقي الأطر العليا: أين أنتم من جريمة نهب الوطن؟ لماذا تسكتون عن ذلك وتسلون أنفسكم كما تسل الشعرة من العجين؟ ما مواقفكم؟ وما مواقعكم من هذه المنعرجات الخطيرة التي يسبح فيها المواطن ؟ هل دفعتم استقالاتكم ؟ وهل العلوم ورسائل الدكتوراه مطلوبة لذاتها؟ وقبل عودتي إلى مقر القبر القاهري الذي أقطنه بكراء لم أدفع ثمنه منذ أربعين سنة تقريبا، حتى خجل المصريون لإخراجي من القبر وترحيلي لأني لم أؤد ثمن الكراء طوال تلك المدة، بل إني سمعت همسا من بعض الشامتين من القومجيين يقول :أليس لهذا الرجل وطن يأويه؟ لقد آويناه أكثر من اللازم، قلت بأنني قبل عودتي للقاهرة أعرج على الجزائر وأقف على مقابر الشهداء المغاربة الذين استشهدوا في معركة تحرير الجزائر وكثير منهم من الريفيين من أهالينا، وأمر أيضا على قبر هواري بومدين سائلا : أمن أجل هذا كان تعاهدنا وتعاوننا؟ لماذا عذبتم المغاربة وما زلتم تعذبونهم بزرع الانفصال في صحرائنا؟ وأزور بعدها السيد بوتفليقة في المقر الرئاسي سائلا: أهذا هو ثمن الأخوة والإحسان وشراكة الدم والجغرافيا والتاريخ والأنساب بين بلدينا، و الثمن هو أن تقفل الحدود بين شطري البلد الواحد والذات المشتركة.؟ بالله عليك ماذا تجني من معاداة المغرب؟ وبعد صمت طويل ووجه مصفر من انقطاع النفس يجيبني: يا سيدي أنا لا يد لي ولا فكرة ولا رجل لي فيما يقع بين بلدينا إني لا أملك من هذه المعركة غير اللسان، لقد أتت بي العسكرتاريا الحزائرية من الامارات ونصبوني وما أنا إلا زمارة لا أمسك بمقودها ولا ألمس ثقوبها، وبوضوح وتواضع يا سيدي: ما أنا إلا حمار في جلد أسد، وأخاف أن يتمزق الجلد الأسدي فتنكشف هويتي الاستحمارية فتمزقني الوحوش الضارية المقربة مني والتي تحرسني كما مزقت المرحوم بوضياف. هنا تدخلت سائلا بأدب : لقد فهمت مضمون الرسالة يا سيدي الخطابي، لكن ما العمل؟ فأجابني بتواضع بعد زفرة عميقة: إن جلالة الملك محمد السادس يقوم بدور جبار منذ اعتلائه العرش في محاربته غول الفساد الذي ما إن ينقطع رأس له حتى تطل رؤوس أخرى متعددة، وإن زياراته العملية للمناطق المهمشة والمهشمة وعلى رأسها الريف تعتبر في حد ذاتها مكسبا استراتيجيا هدم بقوة ذلك الجدار الفولاذي العازل الذي بناه خناسو العصر بين الريف والقصر، وإن ما يقوم به جلالته من جهود وأعمال لاينكرها إلا الجاحدون أو ميتوا القلوب ، وبناء عليه عليكم كمجتمع مدني وسياسي ومثقفين وكفاءات أن تنخرطوا في معركة التنمية هذه التي يقودها جلالته في محاربة رؤوس غول الفساد أيضا، والتي تعمل بكل قواها على وأد مشاريع صاحب الجلالة لنخرها وإفراغها من مضامينها من الداخل لتيئيس الناس وقتل نفوسهم وروح التغيير والإصلاح في نفوسهم، ولا أدل على ذلك من أن واقعة الحسيمة قد تزعمها بطلان: الأول هو أنتم عبر شكاياتكم الفاضحة لرأس الغول المفسد المتستر، والثاني هو صاحب الجلالة الذي أطاح بشجاعة ومسؤولية برأس الغول ووضعه في قفص الاتهام وقاده للمحاكمة، فالمستنتج إذن من واقعة الحسيمة هو تصديق للمثل القائل بأن يدا واحدة لا تصفق ولو أن بإمكانها أن تصفع، فالتصدي الأولي للفساد لابد أن يكون بيد المجتمع المدني والسياسي- ولا يجب أن نكذب على أنفسنا بإبعاد المجتمع السياسي عن المدني- لأن كل منهما بمفرده لا يستطيع أن يفعل شيئا، وهذا التصدي المدني والسياسي للفساد لايمكن أن ينفصل في ديناميته عن دينامية جلالة الملك وعن الملكية- ولا يمكن أن نكذب على أنفسنا بالفصل بين المجتمع المدني والسياسي من جهة وبين الملكية من جهة أخرى- لأن كل منهما لايمكن أن يحقق شيئا بمفرده، حقا هناك فصل إجرائي وإداري، لكن هذا الفصل لا ينبغي أن ينتقل من الأجرأة إلى الأدلجة والحشو بالتسييس، وكل هذه الديناميات لا نري تحركها الناجع إلا ضمن بنيات مؤسسات الدولة، ودولة المؤسسات التي تحتكم في حركاتها للقانون وحقوق الانسان وحكامة العدالة القضائية حينما ينبعث خلل ما، وللديمقراطية التي هي الفلسفة الناظمة لكل هذه الحلقات. يا بني لقد رأيت كيف تمنت الصحافة وهيئات المجتمع المدني والسياسي أن يشمل درس الحسيمة باقي المدن والجهات، ليصبح درس الحسيمة قاعدة لااستثناء، وهو ما يمكن أن يتحقق حتما وسريعا إذا ما فعلت عمليا هيئات مراقبة المال العام ومكافحة الرشوة وحقوق الانسان وديوان المظالم والمجلس الأعلى للحسابات ومحاكم المملكة وهيئاتها القضائية ولجان الفحص والمراجعات الضريبية و أجهزة الإعلام والاستعلام وهيئات المجتمع المدني والمثقفين والجامعات.......، فالمفروض هو أن هذه المؤسسات هي قوى الممانعة لفضح الفساد والتصدي له، إذ لا يمكن لجلالة الملك أن يطوف أرجاء المملكة وقراها ودروبها وأزقتها ليتلقى شكاوى المواطنين. هذه هي المعارك الحقيقية يا بني فعليكم ألا تنساقوا مع المعارك الوهمية التي يشعلها المهربون الدينيون والحداثويون الجاهلون بأصوليتهم على حد سواء، هؤلاء الذين يريدون تمزيق الوطن والمواطنين تحت وطأة وباء التقليد فالمهربون يجذبونه عبر بوابة التأسلم إلى المشرق، والحداثويون الجاهلون بأصوليتهم يجرونه إلى التغريب عبر عنوان الحداثة، وحاشا لله أن نعادي الغرب كعقل تقدمي جبار وكمدنية وتقنية وديمقراطية وفكر وفلسفة استفدنا منها، بل إننا نعيش على فتاتها، فنقول لدعاة التشريق إن الدين لا يكتسب بالتقليد، كما نقول لدعاة التغريب بأن الحداثة لا تقلع بالتغريب عبر تقليد الغرب الجبار الذي حتى وإن حاولنا تقليده فسنفشل لسرعته الباهرة، ويمكن لقارئ أعمال المفكر الكبير عبد الله العروي أن يتعمق الفهم في هذا المضمار. وحينما أحسست بأن الأمير يقترب من توديعي وإنهاء المكالمة بادرته بالسؤال: ولكن يا سيدي إننا نفتقد رفاتك، وتحن مقابر الشهداء والعلماء للاستئناس بكم، فأجابني بغموض: على الرغم من قوة السؤال، فإني أقول لكم إن روحي معكم باستمرار وهي فيكم وبكم تستأنس وتجد لذتها ولا معنى لها بدونكم، ولا أقول لكم بأنه ليس مهما حضور رفاتي مادامت روحي معكم، ولكن الأمر ليس بيدي، وكما تتعذبون أنتم لفراق جسدي ، فأنا أيضا أتألم من ذلك، لأنه لا يمكن فصل الروح عن الجسد حيا وميتا- اللهم عند الذين يحرقون الأجساد بعد موت أصحابها- وإن كان الوهابيون يلتقون مع هذا الطرح بلون مغاير حينما يعملون على إبادة مقامات الصالحين الأولياء والشهداء والعلماء وكافة المسلمين، فيبدعون زيارتها ويرمون بالشرك زائريها، وسيأتي حتما اليوم الذي سيتحد فيه البدن بالروح في لقاء تاريخي بالشعب المغربي العظيم. على إيقاع هذه الكلمات انقطعت المكالمة لأن رصيدي الهاتفي كان قد نفذ. هكذا زلزلت الحسيمة زلزالها وأخرجت الادارات فسادها وقال المواطن مالها يومئذ تحدث المحاكم بأن شكايات المواطنين والقرار الملكي أوحوا لها يومئذ يصدر المتهمون أشتاتا للمحكمة ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، وصدق القضاء النزيه وبلغ قضاته الأمناء في باقي أرجاء الوطن .