مع تجاوز سعر المحروقات سقف 14 درهما، عاد إلى الشارع المغربي نقاش تحرير سوق المحروقات الذي ارتبط في مخيلة المواطن بعبد الإله بنكيران حين كان رئيسا للحكومة. ومرد هذا الربط يعود إلى بنكيران نفسه الذي يردد في كل مناسبة أنه هو صاحب مشروع هذا التحرير. الكل يُجمع على أن الطريقة التي تم بها تحرير سوق المحروقات استفادت منه خزينة الدولة وشركات المحروقات فيما كان نصيب المواطن وقطاع واسع من النسيج الاقتصادي هو تحمل أعباء هذا التحرير الذي بلغ مداه بعد أن تجاوز سقف سعر هذه المادة الحيوية 14 درهما للتر الواحد. فهل تحرير سوق المحروقات كان خطأ أم أن الخطأ يكمن في عناصر واكبت طريقة تحرير السوق؟ من ناحية النجاعة الاقتصادية، يمكننا أن نجزم بأن الطريقة التي كانت تتم بها تعويض شركات المحروقات من صندوق المقاصة، لا تمت بصلة لا بالحكامة ولا بالتدبير الجيد. فمن جهة، الدولة لم تكن لها الآليات لتحديد قيمة التعويض المستحق لشركات المحروقات بدقة، وتكتفي بالبيانات المقدمة من طرف هذه الأخيرة دون القدرة على تفحصها ودراستها. ومن جهة أخرى، يستفيد من صندوق المقاصة المواطن البسيط الذي لا يتجاوز دخله الحد الأدنى من الأجور والأسر ذات الدخل المرتفع وهي المستفيد الأكبر لأنها تستهلك المحروقات أكثر. حكومة بنكيران كانت تعتبر أن الحكامة هي صمام الأمان من أجل التنمية المستدامة وتحقيق العدالة الاجتماعية، لذلك كان لزاما على هذه الحكومة أن تتحلى بالجرأة اللازمة وتتخذ قرارات غير مسبوقة تمس صندوقا يؤثر بشكل مباشر على جيوب المواطنين. نخلص إذا إلى القول بأن إصلاح صندوق المقاصة تفرضه شروط الحكامة الجيدة، وهو إصلاح منسجم مع سياسة الأوراش الكبرى التي نهجها المغرب كرافعة للتنمية والاقلاع الاقتصادية. واستمرار صندوق المقاصة في استنزاف ميزانية الدولة بتلك الطريقة المتنافية تماما مع الحكامة الجيدة، يشكل عائقا أمام التحولات الكبرى التي تشهدها البلاد. لكن السؤال الجوهري هو كيف سيتم هذا الإصلاح؟ تأسست خطة إصلاح صندوق المقاصة في حكومة بنكيران، على أساس الإلغاء التام لدعم الدولة لسعر المحروقات وذلك بتحرير السوق وتعويض الفئات الاجتماعية المستهدفة بالمقاصة بالدعم المباشر. لكن الغياب التام لمجلس المنافسة في خطة الإصلاح، وعجز الحكومة عن فرض تسقيف أسعار المحروقات، جعل من هذا المشروع الإصلاحي يعاني من أعطاب واختلالات استفادت منها شركات المحروقات وتضرر منها المواطن وقطاعات عديدة من النسيج الاقتصادي الذي أصبح في مواجهة مباشرة مع تقلبات السوق الدولية وغياب المنافسة التي تحمي حقوق المستهلك. هذه الأسباب جعلت إصلاح صندوق المقاصة في جزئه المتعلق بالمحروقات، يتعرض لانتقادات من طرف أحزاب في المعارضة. وهو أمر مفهوم يندرج في إطار عمل المعارضة لدفع الحكومة لاتخاذ إجراءات عملية من أجل حماية المستهلك من جشع شركات المحروقات في سوق تغيب فيه المنافسة. لكن أن يصدر انتقاد إصلاح المقاصة من الحكومة أو من أحزاب مشاركة في الحكومة، فهو أمر غير مفهوم إن لم نقل غير مسؤول من حزب يترأس الحكومة. فإذا كان المواطن متضرر من غلاء أسعار المحروقات، فإن ميزانية الدولة استفادت من هذا الإصلاح وهو ما جعلها قادرة على مواصلة المشاريع الكبرى حتى بعد أزمة كورونا وما خلفته من آثار سلبية على الاقتصاد الوطني. فلو لم يتم هذا الإصلاح، كيف ستتعامل حكومة السيد أخنوش مع الأوراش الكبرى المفتوحة بميزانية يأكل أغلبها صندوق المقاصة؟ فعلى سبيل المثال لا الحصر، برنامج التنمية الحضرية في أكادير الذي تم التوقيع عليه أمام جلالة الملك، لم يتوقف ويعرف تطورا في الإنجاز وفق البرنامج المسطر سلفا. علما أن ساكنة أكادير كانت متخوفة من تعثر هذا البرنامج نتيجة الأزمة الصحية، وهو البرنامج الذي تتمسك به هذه الساكنة لجعل أكادير تحظى بنصيبها من الدعم العمومي على غرار باقي المدن. إذا أخذنا بعين الاعتبار التأثيرات الإيجابية لتحرير سوق المحروقات على خزانة الدولة، وهو ما جعلها قادرة على مواصلة إنجاز المشاريع الكبرى التي تشكل العمود الفقري للنموذج التنموي الجديد، والأرباح الغير مشروعة والغير أخلاقية التي تحصلت عليها شركات المحروقات، وكذلك الضرر الذي لحق بالمواطن من غلاء سعر البنزين.. فهذا يجعلنا نخلص إلى أن إصلاح صندوق المقاصة هو مشروع لم يكتمل بعد. تم إنجاز شق متعلق بتحرير السوق، ويبقى على حكومة السيد أخنوش إنجاز الشق الثاني المتعلق بمواجهة جشع شركات المحروقات وحماية المواطن المتضرر من غلاء الأسعار. وهذا الشق الثاني من إصلاح المقاصة هو عنصر من بين عناصر أخرى يفسر البلوكاج الذي تعرضت له حكومة بنكيران في نسختها الثانية. إذا سارت حكومة السيد أخنوش في اتجاه مواصلة الإصلاح في شقه الثاني، فستعزز هذه الخطوة الحكامة الجيدة التي تعتبر عنصرا أساسيا في أي تنمية، وهو ما ركز عليه تقرير السيد شكيب بنموسى حول النموذج التنموي الجديد. أما نشر المغالطات بانتقاد إصلاح بنكيران لصندوق المقاصة، مع العلم أن حكومة السيد أخنوش أول المستفيدين من هذا الإصلاح، فهو أمر غير مسؤول ويجعل الحكومة بعيدة عن شروط الحكامة الجيدة التي تطرق لها تقرير النموذج التنموي الجديد والذي أشرف على إنجازه وزير في الحكومة الحالية.