تزداد الوضعية الاقتصادية في المغرب حرجا يوما بعد يوم، و لن نسرد المؤشرات الاقتصادية العامة لنستشهد علي حرج الموقف وتأزمه، يكفي الحديث الدائر الآن علي ألسنة المواطنين علي مختلف مستوياتهم حول الارتفاع الحاد وغير المسبوق في أسعار معظم السلع الأساسية، و شعور الناس بالغلاء وعجز ما في جيوبهم من دراهم قليلة عن تلبية احتياجات أسرهم ، كذلك نقل الأزمة الاقتصادية من اجتماعات مجلس الحكومة إلي أحاديث المقاهي والبيوت والمواصلات العامة حيث لم يعد المواطن العادي يحتمل ولا يطيق صبرا علي تصريحات حكومية بإمكانية تحسن الأحوال، هذه التصريحات فقدت الصلاحية والمصداقية معا ، حيث كشفت نتائج آخر دراسة قدمتها المندوبية السامية للتخطيط وذلك في الأول من شهر أكتوبر لسنه 2012 أن "46 بالمائة من المغاربة غير راضين على مستوى عيشهم"، وأن "64 بالمائة من مجموع السكان غير راضين على مستوى دخلهم"، بينما ترتفع نسبة عدم الرضا إلى مستوى 74 بالمائة بين السكان القرويين ويضيف نفس المصدر أن مغربيا واحدا فقط - من أصل عشرة مواطنين - راض على مستوى دخله. وأمام هذا الوضع المأزوم، لا حل أمام الحكومة النصف ملتحية سوي إصلاح المنظومة الاقتصادية بالبلاد، ومباشرة كل ما أفسده الدهر والسياسات العرجاء السابقة وتصفية التركة الثقيلة للحكومات المتعاقبة بكل شجاعة. لقد بات إذن الإصلاح ضرورة ملحة و لم يعد ترفا أو قضية خلافية أومزايدات سياسوية، فاتخاذ القرار بات ضروريا لان الوقت ليس في مصلحة احد والتصدي للاختلالات بحسم أفضل كثيرا من تأجيلها ولأن رصيد المواطنين بدأ ينفذ ورصيد الحكومة سوف ينفذ قبل رصيد المواطنين والناس تريد أن تشعر بثمة تحسن ملموس ولو قليلا، خاصة علي صعيد أسعار الغذاء والدواء و الماء و الكهرباء و تكلفة الحياة عموما ولا تريد حديث الوعود الطائرة في الهواء حتي لا يتراكم مزيد من الإحباط الذي قد يؤدي لا قدر الله إلي الانفجار. ومن ثم بات من الضروري علي الحكومة أن تصارح الشعب بحقيقة الأزمة وأبعادها وان تكف عن فقاعاتها الاعلامية وعن أحاديث المليارات التي تتدفق من كل صوب وحذب على المغرب كوجهة جذب للاستثمارات الخارجية وان تكف عن الوعود التي لم ير المواطنون لها أثرا في ارض الواقع، وأن تكاشف الشعب بان المغرب ليس أجمل بلد في العالم ، وفي هذا السياق قررت حكومة السيد بنكيران بكل جرأة سن جملة من الإصلاحات و الإجراءات الاجتماعية و الاقتصادية من أهمها إصلاح نظام دعم أسعار المواد الأساسية في محاولة لمواجهة الأزمة الاقتصادية وآثارها على القدرة الشرائية للفقراء والطبقة المتوسطة، فقد حشد رئيس الحكومة كل قدراته التواصلية لإقناع المواطنين بأن الزيادة التي أقرها في أسعار المحروقات تهدف إلى تحقيق عدالة اجتماعية، وهي بمثابة خطوة أولى لإصلاح نظام دعم الدولة لأسعار المواد الأساسية مثل البنزين والغاز والسكر. ومن خلفية استفادة الأغنياء والشركات الكبرى بنفس القدر من هذا الدعم الموجه أساسا للفقراء، أعلن رئيس الحكومة حينها عن إلغاء صندوق المقاصة وتعويضه بدعم مالي مباشر للأسر الفقيرة، بل إن بنكيران دعا الفقراء للإسراع بفتح حسابات بنكية لتلقي هذا الدعم غير أن حماس رئيس الحكومة تراجع بعد أسابيع قليلة من خلال تصريحات وزير الشؤون العامة والحكامة، محمد نجيب بوليف، الذي قال إن كل "إصلاح متدرج لنظام المقاصة لن يؤول بالضرورة لإلغاء الصندوق". بيد أنه لحد الساعة ليس هناك وضوح بخصوص الإصلاح الذي تعتزم الحكومة اعتماده في ما يخص نظام المقاصة فقد تكون المساعدة المالية المباشرة للفقراء فعلا فكرة ناجعة، لأنها ستوقف استفادة الشركات الصناعية والتجارية والأغنياء من الدعم العمومي لأسعار المواد الأساسية لكن نجاح هذا الدعم المباشر للفقراء سيكون مستحيلا دون محاربة الرشوة التي قد يستفيد منها الوسطاء في المؤسسات الإدارية المعنية بتنفيذه، كما يجب تحديد المعايير في تعريف الفقراء الذين يجب أن يستفيدوا من الدعم المالي المباشر. إلا أن الشارع المغربي بات يطرح هواجسه ومخاوفه المشروعة بشأن جدية الخطاب الإصلاحي للحكومة ويدقق في المسافة الفاصلة بين الخطاب وبين ترجمته العملية، فبعض المتتبعين يسجلون على الحكومة موقفا غامضا ومرتبكا بهذا الشأن فمنذ إقرار الزيادة في أسعار المحروقات ورئيس الحكومة يكرر نفس التصريحات غير أن أرقام الركود الاقتصادي المعلنة واحتجاجات المعطلين عن العمل باتت تلاحق بنكيران، أينما حل و ارتحل . وتشير تجارب الإصلاح في العديد من الدول إلى أن نجاحه لا بد له من ثمن و خاطئ من يعتقد بان الإصلاح قد يتم من دون أن ندفع ثمنا ، كيف لا و الإصلاح مصطلح يرتكز أساسا على تغيير أوضاع المواطنين وخسارة بعض من مكاسب وامتيازات سابقة تمتع بها هؤلاء إلى حين؟ لقد قامت الحكومات السابقة بالعديد من الإصلاحات خلال العقود الأخيرة لكنها ظلت إصلاحات سطحية لم تنفذ إلى عمق المشكل، فما ينقص المغرب هو أن يؤمن السياسي، والحزب السياسي، والحكومة السياسية، بأن أي إصلاح لا بد له من ثمن سياسي و عليه أن يكون مستعدا لأدائه دون ذلك لا يمكن أن نتقدم على درب الانتقال الديمقراطي فكثير من الإصلاحات تضيع في منتصف الطريق، والسبب هو أن الحكومات المتعاقبة على المغرب لم تكن تمتلك الشجاعة السياسية بل كان يمتلكها الخوف الدائم لقول الحقيقة، وتغيب لديها الجرأة السياسية الكافية على تحمل تبعات الإصلاح وبالتالي أداء ثمن الإصلاح. لهذا فالمطلوب بداية هو الاستغناء عن العمل وفق المبدأ الدارج الذي يعتمده السياسي المغربي منذ الاستقلال في تدبيره للشأن العام ومفاده " كم من أمور قضيناها بتركها". إن إصلاح الوضع في مغرب اليوم صعب لكنه غير مستحيل فالاقتصاد الوطني يعيش أزمة العجز وثقل المديونية وعدم عدالة النظام الضريبي ، كما أن هناك أوضاع اجتماعية غير ميسرة، وهناك حراك اجتماعي وأي عملية إصلاح لا بد لها من ثمن . نعم للإصلاح ثمن وقد يكون في بعض الأحيان ثمنا باهظا وهذا للأسف ما تخشاه حكومة الربيع المغربي فهي لا زالت تتعامل بالمسكنات الوقتية مثلها مثل الحكومات السابقة. و إذا كان الأمر كذلك فمن يؤدي إذن ثمن هذه الإصلاحات التي ما فتئ السيد رئيس الحكومة ووزراء حزبه ينادون بها ؟ ثمن الإصلاح يجب أن تدفعه أولا الحكومة ذاتها وتتوقف عن الإنفاق الباذخ، وخير نموذج يقتضى به في هذا الشأن ما قررته الحكومة الفرنسية الجديدة مباشرة في أول اجتماع لها بتقليص رواتب الرئيس فرانسوا هولاند والوزراء بنسبة 30%. كما وقع الوزراء على ميثاق شرف، يعدون فيه بتقليص نفقات تسيير وزاراتهم بما في ذلك استخدام القطار بدل الطائرة إذا كانت الرحلة لا تتطلب السفر جوا، ووعد الوزراء في الميثاق بالشفافية. ولن يتحمل الشعب ثمن الإصلاح إلا إذا شعر أن الحكومة بدأت بنفسها، فالحكومة لا تريد أن تواجه الحقيقة وتستأصل سرطان الفساد الذي بات ينخر البلاد و العباد على حساب ملايين الفقراء والمعطلين ، فهي مطالبة أولا وقبل كل شئ بضرب مافيا الفساد وناهبي الصناديق والمال العام دون هوادة وليس ترويج خطاب فاشل من قبيل عفا الله عما سلف . وإذا كان من أحد يجب عليه أن يدفع ثمن الإصلاح ويتحمل آلامه، فهم أولئك الذين استفادوا من السياسة الاقتصادية في السنوات السابقة، والذين اصطلح على تسميتهم بالمفسدين لأن في جيوب هؤلاء وخزائنهم ما يكفي لتمويل خطة الحكومة الإنقاذية والتنموية. إذا كان من أحد يجب عليه أن يدفع ثمن هذه الإصلاحات بشكل منطقي فهي تلك الطبقات الميسورة والشركات التي تراكم الثروة ، فيجب عليها أن تتحمل هذه المسؤولية، وتكف عن الاستفادة من دعم الدولة، فهذا أقل ما يمكن أن تقوم به هذه الفئات لتعبر عن مواطنتها، لاسيما وأن ذلك لا يؤثر في شيء على ثروتها ومستواها الاجتماعي . وفي هذا الصدد بات من واجب الحكومة أن تعيد النظر في مقترح القانون الذي تقدم به فريق نقابة الفيدرالية الديمقراطية للشغل في مجلس المستشارين لفرض ضريبة على الثروة فضرائب الثروة موجودة في جميع الأنظمة الضريبية في العالم، كأحد أشكال تحقيق العدالة الاجتماعية ومساعده الفقراء من خلال الحصول علي مزيد من الأموال للأثرياء وأصحاب الدخول الكبيرة، وكذلك تضييق الهوة بين الطبقات الاجتماعية والأغنياء والفقراء. كما بات من المفروض على الشركات الكبرى أن تمول صندوق التماسك الاجتماعي الذي ورثته الحكومة عن سابقاتها،والذي لم ير النور بعد وذلك عن طريق اقتطاع المساهمات التضامنية من أرباح هذه الشركات ، لأن المفارقة أن أرباح شركة واحدة للاتصالات، وهي إحدى الشركات المعنية بأداء ضرائب تضامنية لهذا الصندوق، تفوق ما تجنيه جميع الأبناك المغربية من أرباح قروض الاستهلاك، حسب ما نقل عن والي بنك المغرب في ندوة صحافية يوم 26 سبتمبر 2012. إذا كان من أحد عليه أن يدفع ثمن الإصلاحات فهي تلك المقاولات الصغرى و المتوسطة غير المهيكلة والتي لا يؤدي أربابها أي ضريبة أو أي ثمن رغم أنها تحقق أرباحا طائلة . إذا كان من أحد عليه أن يدفع ثمن الإصلاحات بالمغرب فهم أولئك الذين يتهربون بشتى الوسائل و الطرق من أداء الضرائب المفروضة عليهم . وعليه فليس من العدل أن تدفع الطبقة الوسطى وحدها ثمن الإصلاحات لأنها هي أول المتضررين من هذه الإصلاحات و هذه الطبقة التي غالبا ما يدعوها السيد عبد الإله بنكيران في قفشاته إلى الصبر و التضحية ، قد تواجه حقيقة ارتفاع أسعار البنزين والغاز والمواد في حال إذا ما ألغت الحكومة صندوق المقاصة وعوضته بدعم مالي مباشر للفقراء فقط. لأن المشكل الأكبر يتعلق بمدى قدرة الفئات المتوسطة على تحمل الارتفاع المرتقب لأسعار المواد المدعمة حاليا، الشيء الذي ينذر بأوخم العواقب الاجتماعية لا قدر الله. وفي الأخير يمكن القول: إن للإصلاح ثمن، وهذا الثمن يجب أن يدفعه الجميع لأن تحمل الأعباء يفترض أن يكون مشتركا بين الجميع، فالتضحية هي الثمن، وما لم ندفع ذلك الثمن؛ سنبقى نعاني من سوء الأوضاع ليس إلا. و تحتاج عملية الإصلاح ، وربما يكون الإصلاح مستحيلاً بدونه حتى إذا توافرت كل الشروط ، إلى توافق عام و إجماع وطني داخل المجتمع المغربي بمختلف مكوناته السياسية ) أغلبية و معارضة ( بشأن ضرورة الإصلاح ، بمعنى آخر فعملية الإصلاح المنشود تتطلب تضافر جهود كل الفاعلين المؤسساتيين والمجتمع المدني والمواطن لصياغة خريطة الطريق للإنقاذ: حكومة قوية تمتلك الشجاعة لقول الحقيقة ومستعدة لتحمل ثمن الإصلاح ومجتمع مواكب ومؤسسات دستورية منخرطة لإنجاز ورش الإصلاح المتعدد الجوانب، امتلاك إستراتيجية موحدة والبداية بذكاء والتواصل مع الشعب وتحديد أولويات التدخل ، تلك إذن مفاتيح أساسية لمباشرة الإصلاح و تتمثل هذه الأ ولويات في محاربة الرشوة والفساد، وتكريس منظومة الحكامة الجيدة في المرفق العمومي أولا، ثم إصلاح الإطار الماكرو اقتصادي للبلاد الذي أنهكته التدخلات الغير المحسوبة لحكومة عباس الفاسي . وتفيد الإشارة في ذات السياق إلى أن من يملك الجرأة على الإصلاح، الذي يكون في البداية غير مرغوب فيه شعبياً، غالبا ما يعرض نفسه لفقدان شعبيته وهذا ما حصل لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعد تجربة حكومة التناوب ، و على الحزب الحاكم حاليا أن يستخلص العبر من تجارب باقي الأحزاب التي سبقته إلى سدة الحكم ،لأن من يقود الإصلاح غالباً ما يدفع الثمن باهظا في امتحان الانتخابات ولكنه ينجز الإصلاح بكل جرأة ويترك للتاريخ أن يحكم! فخسارة انتخابات ما ليست نهاية العالم، و أن المنافسة على السلطة لا تهدف إلى تدمير البلد بقدر ما تجعل مصلحة الوطن و المواطنين فوق كل اعتبار.