يصادف السابع والعشرون من شهر دجنبر ميلاد مؤرخ الفكر العربي الإسلامي وفيلسوفه السياسي محمد عابد الجابري (ولد سنة 1936 بفجيج شرق المغرب وتوفي سنة 2010). لا أود هنا البسط في فكر الرجل ولا حتى الاقتراب منه لسعته، ولا قراءة الربيع العربي بأعينه. أود فقط خط كلمات تخليدا لمفكر كبير في زمن الصغار، زمن يغيب فيه العقل والعلم في عالمنا العربي. بهذه المناسبة أدلي بشهادتين موجزتين؛ الأولى تخص الجابري وعلاقتي معه كقارئ عربي شاب، والثانية تخص الجابري ومكانته في الفكر السياسي العربي المعاصر. -I– كان الجابري والمهدي المنجرة أول المفكرين المغاربة والعرب الذين بدأت قراءتهم في سنوات الدراسة الثانوية، وذلك تأثرا بالكتيبات التي كان يشتريها لهم أخي الأكبر. لم أكن أفهم كثيرا مما يكتبون، ولكنني رافقتهم وجعلتهم أصدقائي ومراجعي في الجامعة، رغم أنني كنت مسجلا بقسم اللغة الإنجليزية وآدابها، وليس بقسم الفلسفة مثلا، بجامعة محمد الأول بوجدة، شرق المغرب. كان يطبع على أغلب المنتمين إليها الاهتمام بالإنجليزية أولا وأخيرا. أما أنا، فحاولت السير في طريق آخر. لا تهمني اللغة، بل ما أفعل بها وما تفعل بي هي. لذلك حاولت دوما البحث عن الفكر في الأدب: الفكر العربي والإسلامي المعاصر خصوصا. كانت الطريق صعبة: كيف لك أن تدخل شعبا لم تسلكها من قبل، ولم يوجهك إليها أحد من قبل، بل هي من صميم الاختيار الخاص! كنت أحاول أن أفهم ما معنى أن تكون عربيا ومسلما ومواطنا وإنسانا ومثقفا ومسؤولا. إنه البحث عن الذات في عالم كبير. كنت – وما أزال – أرى أننا نحن الشباب مسؤولين عن مستقبلنا في كل وطننا العربي الكبير. كان الجابري والمنجرة، وغيرهم من الكتاب العرب المعاصرين فيما بعد، أصدقائي الأعزاء، وكانت كتيباتهم حول العولمة والتعليم والديمقراطية والاستعمار وتجربة اليابان في النهوض والتقدم مما أحببت. مع مرور الوقت ̨ سأفهم ما كنت قد قرأت لهما سابقا. مع تقدمي في الدراسة الجامعية ̨ سيصبح الجابري أحد مراجعي العربية المفضلة في قراءة وترتيب الفكر العربي والإسلامي… وما أزال أسرق من الوقت ما سمحت به الظروف لفهمه أكثر. أعطاني الجابري ثقة أكبر في انتمائي الأمازيغي والعربي والإسلامي والإنساني. ساعدني الجابري على فهم الأوجه الكثيرة التي تؤثر في فهمنا للتراث، للماضي والحاضر والمستقبل. كما ساعدني عبر انخراطه في التنظير السياسي في المغرب منذ سنوات شبابه الأولى في فهم مسؤوليات المثقف العربي كباحث وكمواطن من طينة خاصة في زمن خاص. –II– رحل الجابري شهورا فقط قبل بداية الربيع العربي المأزوم، لكن أفكاره ستبقى حية لزمن طويل. لقد كتب اسمه في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، وسيقرأه اللاحقون كما نقرأ الآن سقراط وأفلاطون وأرسطو والفارابي والغزالي وابن رشد وجون لوك وجون جاك روسو وجون رولز وهبرماس وغيرهم. ربما سنتذكر الجابري وسنقرأه أكثر من غيره، لأنه رتب لنا فكرنا في مفاهيم محددة لا تخلط كل التراث في سلة فكرية واحدة، إذا فسد فيها البعض ضاع الكل. ولأنه كان منظرا سياسيا كذلك، فإن نظرته للعالم العربي ولواقعه المتردي ساعدته، ليقرأ التراث تاريخيا وبشكل فريد جعل فيه العقيدة والاقتصاد والسياسة أهم العوامل الداخلية المؤثرة في الفكر والسياسة معا ̨ زيادة على العوامل الخارجية. أثرت تاريخية ابن خلدون في الجابري أكثر مما أثرت فيه المدرسة التحليلية والبنيوية الفرنسية أو التاريخانية الماركسية. عرف الجابري كيف يمارس التاريخ على نصوص التراث، ليخرجه من الفكر السلفي اللاحركي أو الفكر العربي المتغرب الذي يسقط التاريخ الأوروبي على التاريخ العربي الإسلامي. حاول الجابري بشكل كبير الدفاع عن الحداثة والليبرالية والعلمانية دون استعمالها كمفاهيم أساسية في مشروعه، لأنه وجد أن الفكر العربي الإسلامي غني بها، ولكن في تاريخه وسياقه وظروفه الخاصة. عندما تبنى الجابري المنهج التاريخي رماه بعض السلفيين بالكفر، لأنه كسر القدسية عن أحداث إنسانية ارتكبها الإنسان العربي المسلم باختياره، وليس لأن الله كلمه مباشرة ليقوم بذلك أو لأن رسول الله عليه السلام أمر بذلك. إن التاريخ الإسلامي ليس هو القرآن والقرآن ليس هو الله، وبالتالي فالتاريخ الإسلامي ليس هو الله. بمعنى آخر ̨ إن التاريخ الإسلامي هو مجموع الأحداث التي أثر فيها المسلمون وغير المسلمين بحسب مصالحهم العقدية أو الاجتماعية القبلية أو السياسية السلطوية والتسلطية أو الاقتصادية الغنيمية أو كلها مجتمعة. إنها أحداث غير مقدسة، وإذا ما وعاها العقل العربي المعاصر هذا الوعي التاريخي، فإنه سيستطيع التمييز بين العقدي والسياسي والاقتصادي والعلاقات التي تربطهم ومن ثم تجديد فهمهم حسب الزمان الذي نعيش فيه. لم يقدح الجابري أبدا في النبوة أو في وجود الله أو في القرآن الكريم. لقد كان فيلسوفا يمارس القراءة والنقد من أجل ايجاد أسئلة تواجه شعبه وأمته وتواجهه هو كذات مفكرة. كان بإمكان الجابري أن يختار الإلحاد، أو أن يتزوج الفكر اليساري الغربي بدون نقد ̨ لكنه لم يفعل. لماذا؟ لأنه قرأ التراث وعرف قوته أولا وأسباب ضعفه ثانيا. لقد امتلك اللغة العربية وقواعدها وقرأ كبرى المقامات العربية والقرآن وحفظ منه ما حفظ، وهو صغير السن. كما أنه قرأ ابن خلدون وتأثر بمنهجه في قراءة التاريخ الإنساني والعمران البشري أكثر مما تأثر بماركس الذي لم يعطه أكثر من قدره. مثل ابن خلدون ماركس العرب حسب الجابري ̨ ومثل الفارابي جون جاك روسو العرب ̨ ومثل ابن رشد رائد العلمانية العربية ̨ قبل أن يصل إليها العقل الأوروبي ويؤولها حسب تاريخه – والعلمانية عند الجابري هنا بمعناها المنفتح على الدين وليس بمعناها الراديكالي الذي لا يرى في الدين إلا مشكلا أو ورما اجتماعيا يجب استئصاله. كان الجابري مدافعا عن العربية وعن الدين في مكانه الخاص، لكي لا تتلاعب به السلطة كيفما كانت – سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. كان رشديا ففصل بين الدين والفلسفة كعلمين أو منهجين للبحث عن الحقيقة، وكأنماط متباينة للمعرفة والوجود، على الرغم من أن أهدافهما الكبرى لا تنافي بعضها. رأى الجابري أن النهضة عن طريق تحديث قراءتنا للتراث عبر مدرسة ابن رشد هو الحل التاريخي المناسب حاليا. ليس هذا تقزيما للتراث وتلخيصه في فكر ابن رشد وما يتبع ذلك من إعادة لقراءة معنى الأخلاق والسياسة مثلا، بل هو اختيار فكري وسياسي استراتيجي يفهم الواقع وتحدياته. نتيجة لذلك، لم يكن الجابري لا يساريا بمعناه الغربي أو بمعناه السطحي ̨ ولم يكن سلفيا يقدس التاريخ العربي الإسلامي. لقد كان الجابري مفكرا ومثقفا ملتزما في نفس الآن، أو قل إنه كان يساريا عربيا مسلما ̨ مدافعا عن اللغة العربية والدين العقلاني والأخلاق الفاضلة والديمقراطية كطريق لتحقيق العدالة الاجتماعية والحرية والوحدة العربية. إذا كان حسن حنفي رائد اليسار الإسلامي في الشرق؛ فالجابري رائده في المغرب العربي. لا داعي لأن نؤكد أنه كان مؤمنا لأن القرآن كان صديقا له ̨ يقرأه ويستمع إليه باستمرار ̨ كما يلمح إلى ذلك في سيرته الذاتية أو في تقديمه لكتابه "مدخل إلى القرآن – الجزء الأول"، وكما يروي لنا ذلك بعض من رافقوه في أسفاره أو في حياته كالمفكر الموريتاني عبد الله السيد ولد أباه. قراءة الجابري للتاريخ العربي الإسلامي ونقده له ودفاعه عنه في نفس الوقت هو أشد ما يحتاج إليه الفرد العربي وخاصة الشباب العربي المنتفض الذي ما يزال تائها ̨ إما ممجدا للتاريخ وإما تاركا له كلية. في منهج الجابري درس لمن أراد أن ينقد ذاته وتاريخه دون أن يرميه ليرتمي في أحضان الغريب. رتب الجابري تراثا ضخما وسهل بشكل كبير إعادة قراءته حسب ظروفنا التاريخية الراهنة وتحديات عصرنا المحلية والإقليمية والدولية. إن الفشل الحالي لما يسمى بالربيع العربي، يجد أجوبة فكرية ورؤى استراتيجية قيمة في مختلف أعمال الجابري. ففشل القوميين العلمانيين والإسلاميين مثلا حاضر في قراءاته. فكيف يمكن أن تنجح الثورات وأصحابها من الشباب لم يخرجوا أنفسهم من أنساق فكرية عتيقة، إما غريبة عن السياق العربي الإسلامي، وإما قديمة ما تزال تنظر للعالم من منظور القرون الوسطى. نأمل أن يصحح الربيع العربي مساره، لكن الأمل يحتاج إلى عمل، وأهم الأعمال إعادة فهم فكر العالم المعاصر من خلال التراث نفسه، ومن أكثر القراءات فهما للتراث والواقع المعاصر قراءات الجابري. فهل قرأ شباب الربيع العربي بعضا من أعمال الجابري مثلا وتأثروا به، أم إن نسبة الأمية في العالم العربي والاستبداد بالسلطة والفقر والتدخل الخارجي كلها عوامل تؤجل عمل القراءة والنهضة إلى أجل غير مسمى؟