رحل محمد عابد الجابري،(3ماي 2010 ) مخلفا حياة فكرية ثرة، ليس على مستوى عدد الكتب القيمة التي تركها فحسب ، وإنما على مستوى هذا الأفق الفكري الشاسع ، الذي رسمته مؤلفات الجابري ، وعلى مستوى دقة المنهج التحليلي في مقاربته لإشكالية التراث والفكر العربي المعاصر ونقد العقل ، مشكلا بذلك رؤية فلسفية ومعرفية متفردة ، تشي بأن الرجل صاحب مشروع فكري واضح المعالم ، اشتغل عليه أكثر من أربعين سنة ، تأصيلا وتحليلا. تنتظم الأعمال الفكرية لمحمد عابد الجابري في مختلف المحاورالمعرفية ، من قضايا التربية وحقوق الإنسان إلى فلسفة العلوم ومن الهوس بالتراث ونقد العقل العربي إلى الانشغال بالأسئلة الكبرى لقضايا الإصلاح السياسي . بدأ اهتمام الجابري بهذه المجالات بعد عودته من دمشق التي حصل فيها على الإجازة في الفلسفة ، ليكمل دراسته بالمغرب ، حيث نال شهادة الماجستير سنة 1967، وبعدها بأربع سنوات حصل على شهادة الدكتوراه في موضوع" العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي" وبحكم ارتباطه بمهنة التعليم تدريسا وتأطيرا، وانشغاله بمسألة الإصلاح التربوي ، أصدر الجابري "أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب"سنة 1973 ، و" من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية"سنة 1977، وبينهما أصدر كتابا في جزأين عنونه ب"مدخل إلى فلسفة العلوم"1976، إسهاما منه في تعزيز المنظومة التعليمية بالمغرب وتأسيس اللبنات الأولى للدرس الفلسفي المدرسي ، فاتحاً بذلك المدى لتدفق إنتاجي زاخر، ومتوالية فكرية متشعبة على مجالات معرفية كثيرة، تنتظمها دفات أكثر من ثلاثين كتابا ، لا تقبل القسمة على 75سنة، التي عاشها صاحب "نقد العقل العربي" ، لأن الزمن الذي أنتج فيه الجابري هذه المصنفات هو زمن فلسفي يخضع لملكات وقدرات خاصة وليس زمنا فيزيائيا يتعاقبه الليل والنهار .
الجابري .. مسار إنسان ومسيرة مفكر حفريات في ذاكرة الطفولة كثير من المفكرين، تعوزهم الطاقة والأداة و تصرفهم الانشغالات الفكرية والحياتية عن تدوين يومياتهم أو استرجاع ذكرياتهم، وقد ساد العرف الأدبي والسياسي، ألا يكتب السياسيون والمفكرون مذكراتهم أو سيرهم الذاتية، إلا في أواخر حياتهم ، وكأن المسالة فريضة حج تجُب ماقبلها أو تقليد يدخل في حكم الواجب . لم يكن الجابري مدفوعا بالرغبة ذاتها في ترسيخ هذا التقليد، ولكن حرقة السؤال والحفر في الماضي ، وهجّا كوامن فيلسوفنا ، فانبرى ينبش في مرجعيات وخوالي أيامه، ليصدر سنة 1997سيرته الذاتية "حفريات في الذاكرة : من الصبا إلى سن العشرين" بأسلوب جرئ ولغة شفيفة وإيحاء رهيف عن أيام الصبا وصورة أمه في ذاكرته وعن لحظات فطامه وختانه . وشخصيا أعتبرهذه الرواية/ السير ذاتية، المفعمة أدبا، قد ضاعت في خضم الدفق الفكري وسط مصنفات الجابري العقلانية ، ولم تعط حقها من طرف النقاد والسينمائيين والمهتمين، الذين لا يعرفون عن الجابري إلا "عقله العربي"، ويغيب عنهم القلب والعقل الإبداعي والأدبي المغربي، وأكاد أجزم وإن كنت لا أملك دليلا واحدا غير حدسي وبالرغم من أنه لاتربطني بالرجل سوى قرابة القراءة ولم يسبق لي أن شرفت بمحادثته أو محاورته إلا مرة واحدة ووحيدة بكلية علوم التربية بالرباط عام 2000، أزعم أن الراحل دون الجزء الثاني من حفرياته ما بعد سن العشرين ، كما يكون قد كتب وجمع مذكراته السياسية وخلف أعمالا أدبية، لكنه فضل السكوت عن هذا. وتركة الشيخ محمد عابد الجابري الفكرية ، ستأتينا بالأخبار ما لم نعلم.
ثقافة المواقف ظل الجابري وفيا لمنهاجه الذي ارتضاه في الحياة ، ممحضا نفسه لإنجاز مشاريعه الفكرية، التي اقتضت منه إضافة إلى أشياء أخرى اعتزال العمل السياسي، لكنه بقي يمارس نضاله في محرابه الفكري، عابدا وزاهدا في المناصب والمسؤوليات، مؤْثرا على نفسه ، ساعيا إلى دعم أي مبادرة يلتمس فيها الخير والصلاح لبلده وحزبه. يحكي عنه رفاقه في التنظيم كما يشهد عنه زملاؤه الأساتذة في الجامعة، أنه كان عاشقا للظل ، لم يبد رغبته في اقتعاد كرسي أو تقلد منصب ما، مهما كانت مغرياته المادية والرمزية. وتشبثه بمبدئه هذا، جعل "عقله المغربي" يرفض كل عرض من هذه الشاكلة ، حتى بدا هذا البدوي القادم من الجنوب الشرقي للمغرب، كائنا مختلفا عن جبلة الإنسان وطبيعته النزاعة إلى الهوى. هذه الخصلة الراسخة في عقل وقلب الجابري ، لم تسحب من الرجل حلمه وسماحته ،و عرفانه بتقدير الناس له، فقبل في هذا الصدد على استحياء ومضض العلاج بأحد المستشفيات الأمريكية برعاية خاصة من الأمير طلال بن سعود. لم يُؤثر على ابن بلدة "فِكَيك" أنه اشتكى العوز بسبب تكاليف الدواء ومصاريف العلاج أو طرق باب أحد ، بل إن الجابري كان يخجل من المطالبة حتى بمستحقاته المالية نظير ما يؤلفه من كتب أو مايكتبه في الصحف والمجلات، وإن حدث أن طالب بذلك ، فمن باب إحقاق حق كاتب . وكان رحمه الله لايقبل الجائزة مهما كانت قيمتها المالية،إلا إذا رأى أنه يستحقها، وفي هذا السياق ،سبق وأن رفض جائزة من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ،لأن استمارة الترشيح لا تشمل تخصص الفلسفة ، ورغم رغبة المنظمين في إضافة هذا التخصص ، رفض الجابري الجائزة لأنها مصطنعة. كما رفض جائزة من الرئيس الليبي معمر القذافي ، في مجال حقوق الإنسان، معتبرا بأدب أنه لايستحق هذه الجائزة مادام لم يقم بأي نشاط في هذا المجال، رغم أن له كتابا عن "الديموقراطية وحقوق الإنسان"1997، كما أن انخراطه في عملية الإصلاح السياسي والتربوي وعضويته في مجلس أمناء المؤسسة العربية للديموقراطية ، من صميم حقوق الإنسان. كما رفض مكافآت عضويته بأكاديمية المملكة المغربية. إن رفض الجابري لهذه التتويج ليس تموقفا من الزعماء السياسيين أو من جوائز بعينها ،وإنما قناعة راسخة بألا يأكل إلا مما صنعته يداه وإن كان أقل شأنا ؛ فقد سبق أن نال جائزة بغداد للثقافة العربية1988، والجائزة المغاربية للثقافة بتونس 1999،وجائزة الدراسات الفكرية في العالم العربي 2005، وجائزة الرواد ببيروت 2005، وجائزة ابن سينا من اليونسكو بمراكش 2006 . ولم يكن الجابري يحفل بأي تتويج ، قدر ما يحتفي بتتويج الطلبة الباحثين ،وبتتويج نفسه في مكتب بيته بالدار البيضاء ، مبتعدا عن أضواء الإعلام وراغبا عن الظهور في التلفزيون ، يعتصر آلامه وحبره ، لم يكن يخشى الموت بقدر ما كان يخاف ألا ينجز مشاريعه الفكرية التي وطن نفسه لإنجازها ، بقوة العزيمة والإصرار، فظل يتعهد بحوث الطلبة ويتعهد مجلته "فكر ونقد " و"مواقف" ، استمرارا على نفس النهج الإعلامي الذي يعد أحد مؤسسيه مغربيا سواء على مستوى الصحف "العلم" والتحرير " و"المحرر" أو على مستوى المجلات " أقلام"
سياسة التوافق انخرط الجابري مبكرا في العمل السياسي من خلال الحركة الوطنية والاتحاد الوطني ثم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ،الذي يعد أحد منظريه الأوائل، فقد أشرف على صياغة التقريرالإيديولوجي للمؤتمر الاستثنائي للحزب رفقة عمر بن جلون 1975،وناضل إلى جانب رفيقه المهدي بنبركة، ولا تكاد توجد وثيقة سياسية بحزبه لا تحمل بصمته وأثره. كان الجابري وحدويا في فكره ومواقفه السياسية ، يجارب التيارات داخل الحزب ، وكان منفتحا مؤمنا بضرورة الانخراط في الإصلاح السياسي للبلد ، ويجمع رفاقه أن الجابري كان له دور كبير في إقناع عبد الرحمان اليوسفي بقبول رئاسة الحكومة المغربية في إطار التناوب التوافقي سنة 1997. ورغم جذوره الأمازيغية ، لم يكن الجابري منحازا أو متعصبا لهذه الأصول ، وظل ملتزما بما يتساوق مع منهجه الموضوعي في التحليل والمقاربة، معتبرا أن إشكالية الأمازيغ في المغرب ليست مع الهوية واللغة ، وإنما مع التنمية، مما حدا ببعض الأصوات الأمازيغية والمنظمات الدولية من الحساسية ذاتها ، للاحتجاج على تكريم اليونسكو للجابري في إطار الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة، وبعث رسالة شديدة اللهجة إلى هذه المنظمة على تكريم ما وصفوه بأنه أحد المنظرين لإبادة الثقافة الأمازيغية والمروجين للإيديولوجية العربية ، معتبرين ( الأمازيغ ) تكريم اليونسكو له" خيانة للقيم الإنسانية". ظل الجابري طيلة حياته ، منحازا للعقل العملي والعلمي ، وبقي فكره أوسع من الحزب الذي ينتمي إليه ، وعصيا عن التصنيف ، فالبعض وصفه بالماركسي وآخرون نعتوه بالعلماني ، ومنهم من أدخله ضمن القومية الإسلامية و منهم من أخرجه من الملة المحمدية . لكن الجابري لم يكترث لهذه التوصيفات القيمية لأنه ببساطة مفكر "ينطلق من واقع عربي فيه كل هذه الاتجاهات " ،يمارس الفكر بنباهة السياسي ويمارس السياسة بعقل المفكر
مفكرون خاصموا الجابري في حياته وصالحوه بعد مماته
استاثرت الرؤية الفلسفية الجديدة والجريئة التي صدرت عن الجابري في مقاربته لقضايا وإشكالات الفكر العربي المعاصر ، باهتمام عدد من الباحثين العرب، الذين رنوا إلى الرد على صاحب"نحن والتراث" ،ردودا لم تسعها المقالات والندوات، فتم إفراد كتب برمتها لنقد وإعادة قراءة مشروع الجاري؛ ومن هؤلاء الباحثين من نذر حياته الفكرية لمطارحة كتب الجابري ومعاورتها، ومازال صدى هذه السجالات يترى، حيث صدر قبل أشهر كتاب "التحليل والتأويل :قراءة في مشروع محمد عابد الجابري" للباحث التونسي علي المخلبي،كما سيصدر قريبا كتاب ضخم خصصه الدكتور محمد عمارة لنقد فكر الجابري.
جورج طرابيشي.. عانى مثل الجابري من مرض القلب وعاداه في نقد العقل يعد جورج طرابيشي أكثر المفكرين الذين تعرضوا بالنقد لفكر الجابري ، فقد خصص ما يزيد عن ربع قرن لمناقشة "نقد العقل العربي"، حتى شبه البعض هذه المناقشة بمناظرة الغزالي في المشرق مع ابن رشد في المغرب. وقبل توجيه بوصلة النقد ، احتفى طرابيشي في بداياته بالجابري أيما احتفاء إلى درجة نمذجته وإنزاله منزلة الأب "المؤمثل" وإن كان طرابيشي يصغر زميله في الدراسة بأربع سنوات فقط. وازداد تمثل طرابيشي للجابري بعدما قرأ كتاب" تكوين العقل العربي" الذي اعتبره كتابا تغييريا ، اضطر طرابيشي إلى مراجعة نفسه مراجعة شاملة ، حولته من الإيديولوجيا إلى الابستمولوجيا قبل أن يكتشف طرابيشي أن ممارسة الجابري للإبستمولوجيا محكومة باعتبارات إيديولوجية ، تتعصب للعقلانية المغربية ضد العقلانية المشرقية ، فكان هذا "الاكتشاف" المنعرج الفكري الذي جعل جورج طرابيشي ينكص بره بوالده المنمذج إلى عقوق ممنهج ، ويولي وجهه شطر النقد ، فأصدر "مذبحة التراث في الثقافة العربية "1993 ,وبعدها بست سنوات ألف كتابه الشهير"نقد نقد العقل العربي:نظرية العقل" ويشير طرابيشي في هذا الكتاب إلى أن الجابري نجح في توظيف مفهوم العقل كما تميز عن سابقيه ممن تعرضوا لهذا الموضوع في قوة تأسيسه النظري أو الابستيمي ورفعه من مستوى اللفظ إلى مستوى المفهوم. غير أنه يعيب عليه عدم تناول كثير من النظريات في مصدرها الأصلي ، وذلك حين استند إلى معجم الفلسفة لفوكييه للتعرف على لالاند وأنه لم يقرأ ليفي ستراوش مباشرة وإنما توسل بما هو مترجم .
ويؤخذ على طرابيشي الذي يعد العقل الناقد لعقل الجابري، خروجه عن اللباقة العلمية والتحليل الفلسفي الدقيق ،حين وصف صاحب " العقل السياسي العربي" بالجهل والسذاجة ، بل إن كثيرا من المفكرين لم يسلموا من هذا التجريح ،حيث وصف في إحدى حواراته التجارب الفكرية العربية بأنها" لاتملك فكرا أصيلا وحقيقيا لأن كثيرا من هؤلاء لهم صدى في العالم ، ليس لأنهم يستحقون هذا الصدى بل لأن العالم العربي منحط إلى درجة أن لهؤلاء صدى ". ورغم هذا الموقف الجانح، فإن طرابيشي ظل يحتفظ بوفائه للجابري حسب مايفصح عنه قوله"كان للجابري اليد الطولى ولو من خلال المناقضة ونقد النقد على إعادة بناء ثقافتي التراثية والتراث هو المحل الهندسي لكل معركتنا اليوم ..فإنني لا أملك إلا أن اعترف بمديونيتي له" وفي المقابل يرد الجابري قائلا "طرابيشي استقبل كتابي (يقصد تكوين العقل العربي) بحفاوة كبيرة غير أن حادثة شخصية غيرت رأيه الفكري كليا تجاهي" ليؤلف كتابا يقول في مقدمته "لقد سيطر الجابري على عرش الثقافة العربية ويجب إنزاله منه " وقد توقفت على هذه الجملة ولم أجد ما يدعوني لاستكمال قراءة الكتاب". الطيب تيزيني: أنا معني بوفاته خصص المفكر السوري الطيب تيزيني كتابه "من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي" لمناقشة فكر الجابري معتبرا هذا الأخير نسخة مغربية للمستشرق إرنست رينان الذي أسس مع هيغل ثنائية العقل والوحي والفقه والإيديولوجيا، ويجزم تيزيني بأن الجابري أسس فكرته على نظرية هذا المستشرق خاصة ثنائية الفلسلفة اليونانية والإيديولوجا العربية . ويخلص تيزيني بأن ماقدمه الجابري يمثل قبضا من الريح يعمم على الوطن العربي باسم فلسفة بنيوية هي في محصلتها فلسفة موت الإنسان، وهذا لاينتقص من مكانة الرجل عند تيزيني الذي يعتبره الجابري عمل بطاقة وجهد كبيرين، و قدم أشياء مهمة، قسم كبير منها كان جديدا على الفكر العربي، حرض المفكرين وشكل حافزا لهم للبحث و الكتابة في المسائل التي اشتغل عليها، يقول تيزيني في هذا الصدد"أنا معني بما كتبه الجابري ، فقد كان في الكثير مما كتب يتوجه إلي بشكل أو بآخر ،وكنت أفعل الشيء ذاته ، لذلك أنا معني بوفاته بالمعنى الإيجابي وأنا أكن له كل الاحترام والمودة"
أدونيس: الجابري لم يقدم أي جديد وجه أدونيس انتقادته لكل مؤلفات الجابري ولم يعترف له بأي جهد أو يعطيه حق أجر المجتهد وإن أخطأ ، واعتبر أن الجابري لم يقدم أي جديد في دراساته وإنما اكتفى بالتصنيف الأكاديمي لكل ماقاله الذين سبقوه واستفاد من مناهجهم الغربية . وعد الجابري أن التصنيف ليس سبة وإنما هو من صميم عمل الفلاسفة يختلف من فيلسوف لآخر وأن الفلسفة هي التصنيف نفسه ، فابن رشد لم يفعل أي شيء سوى شرح أرسطو وأرسطو نفسه لم يقم بأي شيء سوى أنه نظم ما قيل قبله في بناء محكم وكذا الأمر مع أكبر الفلاسفة والمفكرين . رضوان السيد: طوبى له عاش آخر عقده مع القرآن اعتبر أن تأويلات الجابري للقرآن غير موفقة و أن هذا الأخير " "اقتصر في معارفه التراثية عن القرآن على كتاب "الاتقان في علوم القرآن " للسيوطي " كما أنه لايهتم بدراسة الباحثين الغربيين والعرب والمسلمين . كما انتقد أطروحته الثلاثية بين البرهان والعرفان والبيان لأنها لاتتفق والرصد الواقعي والتاريخي لمناهج النظر الإسلامي والعلوم الإسلامية " وكل هذه الانتقادات لاتلغي إفادة السيد من مقولات الجابري وأطروحاته الذي ظل يتعهدها بالمراحعة والإصلاح شأنه في ذلك شأن العلماء الكلاسكيين الكبار طه عبد الرحمان.. تجديد وتقويم تأخر نقد مشروع الجابري بالمغرب، وأولى المحاولات الكاملة كانت على يد المفكر طه عبد الرحمان الذي ألف كتاب " تجديد المنهج في تقويم التراث" وهو كتاب موجه بشكل واضح إلى الجابري أو بالأحرى إلى كتابه" نقد العقل العربي" و"نحن والتراث "واعتبر أن الجابري اعتمد تقويما تجزيئيا للتراث . ومن تم يؤاخذ طه على الجابري فساد التعريف والسقوط في التناقض وعدم تحصيل الملكة في العلوم والصورية والمنهجية . و بعد ذلك ظهرت كتب في هذا المنحى منها "محنة التراث الآخر" و"ما بعد الرشدية" لإدريس هاني وكتب أخرى من نفس القبيلة الفكرية للجابري لكن تبقى أقسى الانتقادات التي تعرض إليها الجابري من طرف المغاربة صدرت عن زميله بالجامعه طه عبد الرحمن
مدخل إلى القرآن أم خروج عنه أثارالكتابان الأخيران في مسيرة الجابري العلمية ضجة إعلامية ، أكثر منها فكرية خاصة في المشرق العربي. فقد هوجم الجابري في كثير من الصحف واتهم بالتشكيك بكمال المصحف وترجيحه وجود نقص به من خلال كتابه "مدخل إلى القرآن" 2006 .مما يعني القول بالتحريف . والحال أن المفكر العربي يعالج هذه المسألة من خلال عرضه اقوال الفقهاء في سياق حديثه عن جمع القرآن الكريم.ومناقشة هذه الآراء معتبرا أنها ليست كافية لنقض الثابت أو حدوث زيادة أو نقصان في القرآن. ولم يسلم كتابه المعنون "فهم القرآن الحكيم : التفسير الواضح حسب ترتيب النزول" 2008/2009 من النقد والاتهامات القيمية ، حيث إن كثيرا من التيارات الدينية في المشرق والخليج ، ناقشت الجابري من منطلقات حاملة مواقف سابقة من كتابه عن العقل العربي ، في الوقت الذي تقتضي أي دراسة قراءة المشروع في سياقه المعرفي وكلياته العلمية ، دونما اجتزاء أو تعوير. كان الجابري واعيا بهذه الردود الانفعالية غيرالمتفاعلة مع بحثه، فحدد هدفه من هذه الدراسات في التعريف بالقرآن الكريم للقراء العرب والمسلمين ، وأيضا القراء الأجانب تعريفا ينأى به عن التوظيف الإيديولوجي والاستغلال الدعوي الظرفي من جهة ، ويفتح أعين الكثيرين ، ممن قد يصدق فيهم القول المأثور (الإنسان عدو ما يجهل) على الفضاء القرآني كنص محوري مؤسس لعالم جديد كان ملتقى حضارات وثقافات شديدة التنوع ،بصورة لم يعرفها التاريخ من قبل " (مدخل إلى القرآن الكريم ص14) ولذلك أشار الجابري إلى أن التفاسير السابقة للقرآن تتسم بالغموض وتخلط السور المكية بالمدنية ،كما أنها أضعفت قيمة الزمن للنصوص المفسرة للقرآن ،لأنها لم تأخذ تواريخ النزول الذي يساعد على بيان التفسير وشرح المعاني. استنكف الجابري عن السجال حول هذا المشروع وآثرالصمت ، مسلما أن كثيرا ممن أثاروا هذه الزوابع وجدفوا بالاتهامات قرأوا الكتب قراءة قشرية أو ربما لم يقرأوها إلى من خلال صداها في بعض الصحف. إن الجابري كما يقول الداعية السعودي سلمان العودة مشرف عام موقع الإسلام اليوم" لم تكن عنده خصومة مع أمته ،وكان يبحث عن طرق للنهضة وعن سر التخلف ،وأنه في فترته الأخيرة توجه لمعالجة قضية الفكر الإسلامي بروح إسلامية على الرغم من الاختلاف معه حول عدد من المفاهيم"
رغم كل هذه الانتقادات فإنه الجابري لم يدخل في سجالات مباشرة و كان يعرض عن الكثير منها مع أنه لايعدم حجة المقارعة العلمية التي يجترحها في ردوده ، لكنه كان لايرى جدوى من ذلك إيمانا منه بعلمية مشروعه وثقة بنفسه ،يقول الجابري "أنا راض تماما عن نفسي وعن نتاجي وعن نتائجه على الناس " وأعرف أن هناك من يختلف معي كما أعلم أني لا أغرد منفردا وحتى إن فعلت ، ذلك فأنا أجد دائما من يغردون معي " إن أغلب الذين انتقدوا المفكر المغربي قاربوا الفكر العربي في جزئياته في وقت أن الجابري نقد العقل العربي في كليته.ولهذا السبب نأى الجابري بجانبه عن الرد لأن مشروعه كما يوصفه الحابري نفسه يتلخص في تجديد العقل العربي من داخل تراثه بأدوات عقلانية مأخوذة من الثقافة الإنسانية لكنها "مبيأة" إن كثيرا من الباحثين يشبهون خاتمة الجابري بخاتمة الإمام الغزالي ، الذي بدأ حياته فلسفية وختمها صوفية ، وفي تقديري ان محمد عابد الجابري وإن كان أخذ من أيونات أرسطو وأفلاطون وابن خلدون وابن رشد وابن سينا وابن حنبل ، فإن مساره لايشبه إلا مسار الجابري نفسه ،بدأ حياته مفكرا وختمها مفكرا، فرحم الله" سي محمد " أديبا ومفكرا ، فيلسوفا وعابدا، في جبره واختياره ..