في ذكرى الرحيل.. للغياب لوعة، إنه يفسح أمامنا عوالم المجهول، و معالم معماره المخيفة، و يلقي بنا في تخوم الحقيقة و الوهم، و في بحبوحة الفكر أن نبحث عن اللامفكر فيه بالنسبة لمفكر ما، فيعني ذلك أن نقوم بمغامرة غير مضمونة العواقب، هذا إن لم نكن قد بحنا بأسراره و كشفنا ما هو مضنون به على غيره أهله. هذا بالضبط أصارحكم ما ثبط همتي لأن أبث رأي الجابري و هو يطفئ شمعته الثانية في إقامته البرزخية على لساني حول ما يدور الآن و هنا في العالم العربي. كنت أرغب في تقديم قراءة للواقع العربي الراهن بعيون جابرية تتجسس و تسترق النظر من خلف مرآة السماء المشققة، كما قرأ هو الواقع العربي بعيون خلدونية، أقرأه على ضوء ما ضمنه كتبه من آراء فلسفية حول العقل السياسي، محدداته و تجلياته، و أن أذهب بنظرياته إلى أقصى مداها، أن أسقطها على واقعنا، لأسره و أحزنه في آن، أن أشعره بكبرياء المفكر و هو ينظر إلى الواقع العربي يبرهن على صدق تشخيصاته و تشريحاته للعقل السياسي العربي، و ينتشي لذة إغاضة منتقديه، و أن أحزنه لأن الواقع الذي شخصه هو هو لم يتغير قيد أنملة.. لم أفعل ذلك، بل فضلت أن تكون هذه الذكرى فرصة لتقديم قراءة في فكره النظري، منهجه و رؤيته في قراءة التراث، التعريف بمجزرة العقل العربي و أسواطه التي استخدمها في جلده، انتصاراته للفكر المغربي من ابن حزم إلى ابن رشد، و سلخه للنظرية الفيضية عند الفارابي و ابن سينا، و تسفيهه لقياس الفقهاء و تشبيه المتكلمين أو ما كان يسميه "قياس الشاهد على الغائب"، وقفته مع لحظة الغزالي و هو متجهم الوجه مقطب الجبين، حديثه عن القطيعة بين المشرق و المغرب، إشكالات الحداثة و رهاناتها و هي تقف بين يدي التراث، تطلب إذنه بالعبور إلينا، أو ما كان يسميه مفهوم التبيئة.. و أشياء أخرى نترك للدهشة الفلسفية حرية إملائها. إنها ليست نزعة شوفينية، و ليس هوى مغربيا هذا الذي يغرينا بمد جسور الحوار مع واحد من المفكرين المغاربة في الساحة الذين رحلوا في مثل هذا اليوم (3 أيار/ماي 2010)، إنما هو هاجس الفكر، و حاضرنا المثقل بهموم فكرية، في الوقت الذي يتردى فيه واقعنا الثقافي في مهاو سحيقة، و تفشي القراءات السلفية التي تنطوي على خلل و أزمة العقل العربي، فاستحضار الجابري في هذا اليوم يتيح لنا فرصة التفكير معه في قضايا كثيرة، إنه انتصار للثقافة العربية ككل، و ليس للمدرسة المغربية التي دشن بدايتها فقيه الظاهر أبو محمد ابن حزم، هو يوم للفأل بأن غدا جديدا يحمل لنا مفاجآت سارة ينتظرنا. إن الجابري كان له بحق حصة الأسد في تحريك مياه الثقافة العربية الراكدة، فقد كانت مؤلفاته المتعددة بمثابة حجرة أحدثت دوائر داخل بركتنا، فكان الجابري كمركز البؤرة، لأن آراءه الفلسفية المثقلة بهموم الإيديولوجيا، المثخنة بجراحه، تشكل ما يكاد يكون خطا محوريا في الفكر العربي، يكفي أن نلقي نظرة على الأبحاث التي انتقدت مشروعه الفكري، و نذكر من منتقديه أسماء وازنة في الفكر العربي مثل محمود أمين العالم، علي حرب، جورج طرابيشي، الطيب تيزيني، طه عبد الرحمن و غيرهم كثيرا. ولعل أكثر ما أثار سخط المفكرين و نقمتهم عليه منهجه الذي وظفه في قراءة التراث، فهو في غاية الجدة و الجاذبية و التأثير ، كما قال واحد من أشرس منتقديه. إن اختيار منهج في قراءة التراث ليس معطى جاهزا عند الجابري، بل كان تتويجا لسلسلة من الأبحاث المتفرقة ضمنها كتابه "نحن و التراث"، و ثمرة اجتهادات في تمحيص التراث و قراءته قراءة معاصرة، تقرب المقروء من القارئ العربي الذي يسكنه هاجس المعاصرة، دون أن يلغي ذاته و هويته، فتكون معادلته التي يبحث لها عن جواب هي كيف نجعل التراث معاصر لنا؟ و أي منهج نتوسل به في قراءة التراث على ضوء القاعدة الابستيمية المسلم بها "طبيعة الموضوع هي التي تحدد نوع المنهج"؟ ذاك هو السؤال الذي طرحه على الجابري واحد من طلبته و هو يعمل على شد انتباههم إلى فلسفة الفارابي، مع ما يعتريها من غموض و لغة معقدة، و إشكالية لم تعد تهم حاضر الطالب لا من قريب و لا من بعيد، فضلا عن أنها تبدو متعالية عن واقعها هي بله أن تكون معاصرة للحظته هو، في الوقت الذي كان فيه الاهتمام بفلسفة باشلار العلمية، و قراءة ألتوسير لرأسمال كارل ماركس. لقد أثار سؤال الطالب "كيف نتعامل مع التراث يا أستاذ؟" نوعا خاصا من الدهشة أقرب إلى ذلك النوع الذي يقول الفلاسفة أنه أصل التفلسف و الدافع إليه. سؤال التراث حداثي، و حداثته في منهجه قراءته.. أثار اهتمام بعض الباحثين بالتراث و منهم عابد الجابري انتقادات واسعة و لاذعة، وصفت ما يقومون به بالنكسة النفسية من نوع ما سمي في التحليل النفسي ب" العصاب الجماعي"، و نكوص إلى الخلف و انهزام أدى بهم إلى الاحتماء بالتراث و الاختباء وراء حصونه، إنها ردة كبرى في نظرهم عن المشروع الحداثي الذي لا يخول للرقاب حق الالتفات إلى الخلف، لكن الجابري كان له رأي آخر، فهو يعتبر المجتمع العربي في مرحلة نهضة، و منه فهو مفكر نهضة، أما الحداثة فهي من اللامفكر فيه الآن، أو على الأقل يجب أن تكون مؤطرة لمشروع نهضوي لم يكتمل بعد، مشروع عرف تعثرات كثيرة حالت دون إحداث تجديد حقيقي، لا من جنس ما يتحدث عنه الإسلاميين أي الصحوة، بل بالقطع مع أساليب التفكير الماضوية، و استئناف مشوارنا الفكري الذي توقف في نظر الجابري عند لحظة ابن رشد، الذي يجسد الفكر العربي في أسمى تجلياته و أنضج تمثلاته. إن الخطوة الأولى و الهامة من أجل التبشير بعهد حداثي تبدأ بإعادة التنقيب في التراث، للتخلص من بطانته الوجدانية و ما يضفى عليه من هالة القداسة، إن "الحداثة بهذا الاعتبار تعني أولا و قبل كل شيء حداثة المنهج و حداثة الرؤية، و الهدف تحرير تصورنا للتراث من البطانة الايديولوجية و الوجدانية التي تضفى عليه داخل وعينا، طابع العام و المطلق و تنزع عنه طابع النسبية و التاريخية". الحداثة حداثة منهج.. بأي معنى إذا؟ إن الجابري بعد فحصه لتلوينات الفكر العربي بشتى تياراته و تشعباته الايديولوجية وجد أنها جميعا تقدم قراءات سلفية، و إن اختلفت في طبيعة السلف الذي تحتمي به. فالسلفية الدينية ترى في تاريخ "السلف الصالح" مرحلة ذهبية، و أن تاريخها ليس جملة الممكنات التي تحققت فقط، بل وما لم يتحقق كذلك، و ما تبشر به أشبه بعقيدة "الخلاص" إن هي تمسكت بمنهج السلف الصالح، إن هذه القراءة السلفية تغفل عن التغييرات التي طرأت على المجتمع العربي، بل و العالم كله، فالتراث كان يكفينا يوم كان التاريخ تاريخنا نحن، يوم كنا نصدر المفاهيم و الفلسفة و القوانين و التشريعات، أما الآن فإن موازين القوى قد تغيرت بشكل مهول. أما السلفية الاستشراقية فهي التي تقدم ولاءها للمفكرين المستشرقين، و هذا الصنف من الباحثين يقر بأنه يأخذ من أساتذة الاستشراق منهجه فقط، لكن هل يمكن تجريد أي منهج منهج من بطانته الايديولوجية التي تشبع بها، إنهم يقولون نريد أن نفهم فقط، لكن ماذا يريدون أن يفهموا؟ إن الجواب هو مدى استيعاب و فهم الفكر العربي في الماضي للفكر اليوناني، أو الفكر الأوروبي بشكل عام، و هكذا فهو يقع ضحية الايديولوجية الأوروبية، أي تحقيق مركزيته، دون أن يستشعر ذلك. أما السلفية الماركسية فخطأها أنها تقرأ التراث بمنهج جاهز سلفا، إنها لا تقوم بتطبيق منهج على التراث، بل تريد أن تثبت صدق المنهج المطبق، هنا تصير المعادلة كيف أثبت صحة ما أوظفه من منهج على التراث، و ليس كيف أنقح التراث بأن أحتفظ بالحي المحيي و ألغي الميت المميت من خلال منهج ما؟ و شتان بين الأطروحتين. إن هذه القراءات في نظر الجابري كلها سلفية، رغم أن بعضها ينفي نفيا قاطعا أن يكون سلفيا في تفكيره، لكن على مستوى الفعل العقلي فهي تنطلق من أساس واحد، و ذهنية عقلية متشابهة، "لأنها مؤسسة على طريقة واحدة في التفكير، الطريقة التي سماها الباحثون العرب القدامي ب "قياس الغائب على الشاهد". و تقع في آفتين خطيرتين : غياب الموضوعية، و غياب الرؤية التاريخية (اللاتاريخية). لذلك فهو يقدم منهجا بديلا يحاول من خلاله تجاوز الآفتين المذكورتين، و قوامه على ثلاث خطوات متكاملة و متداخلة : الخطوة الأولى : المعالجة البنيوية، و هي تحول دون ذوبان الذات في الموضوع، و نيابتها عنا في فهم المقروء، إن المعالجة البنيوية تطمح لمحورة فكر ما حول إشكالية معينة، تكون قادرة على احتواء كل المتغيرات و استيعاب كل التحولات الفكرية لصاحب الفكر، إنها خطوة تقترب بنا من ملامسة الموضوعية، و تمنعا من تقويل المفكر ما لم يقله أو ما لم يكن يقصد قوله، هكذا نجعل التراث معاصرا لنا على مستوى الفهم و المعقولية، و ليس مجرد أشلاء متناثرة لا ينتظمها خيط جامع، إنها محاولة لبناء نسق فكري متناغم، و إضفاء شيء من الترتيب عليه ، و هذا يعيننا على استشراف الخظوة الثانية، و هي التحليل التاريخي، فهذه الخطوة تسعى إلى ربط الفكر بواقعه، بمجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية و الاجتماعية و السياسية، و لا يخفى ما قد يكون لهذه الخطوة من فضل على تمحيص المعالجة بنيوية، كما أنها إذ تربط الفكر بتاريخه تنتشلنا من "اللاتاريخية"، و تعصمنا من الوقوع في هذه الآفة التي يئن تحتها الفكر العربي عموما. ثم الخطوة الأخيرة و هي الطرح الايديولوجي و يعني بها إجلاء الأدوار التي قام بها فكر ما في الماضي، القضايا الايديولوجية التي نافح و ناضل لأجلها، ما يعني أن نحجز ذلك الفكر ليظل حبيس تاريخه الذي كان مؤثرا و فاعلا فيه و صانعا له كذلك، أما أن نمدده ليمارس إمبرياليته علينادون أن يكون لهذا الاستحضار مبررا، فهذا غير موضوعي و لا تاريخي. من خلال هذه الخطوات المنهجية لقراءة التراث، يقدم الجابري تعريفا للمفهوم، تعريف ايديولوجي إجرائي، يختزل فيه كل إشكالاته و انشغالاته و تساؤلاته اللحظية، "إن التراث هو كل ما هو حاضر فينا، أو معنا من الماضي، سواء ماضينا أو ماضي غيرنا، سواء القريب منه أم البعيد". هكذا فهو يشترط في التراث الذي يجوز أن نحتفظ به الحضور، أي أن يساهم معنا في حل مشكلاتنا الراهنة. إن هذا التعريف الأخير يقودنا إلى الاعتراف بتاريخية الفكر العربي، لأن ما هو حاضر فينا من الماضي، قد ألغى ما كان قبله، و هكذا فيجب أن تكون رؤيتنا للتراث شمولية في سياق تطورها، أما النزعة التجزيئية التي يميل إليها بعض الباحثين، حيث الاحتفاظ من كل تيار فلسفي أو فقهي أو عقدي بجانب مشرق، فهو إجراء غير تاريخي أبدا. إن مهمة الفكر المعاصر هو رصد اللحظة التي توقف فيها الفكر العربي عن التطور، ثم استئناف العمل، إنها ضرورة الانتظام في التراث، و بناء حداثتنا رهينة بالانخراط الواعي فيه، و هكذا فالتراث هو من أجل الحداثة، و ليس يحركه الحنين الرومانسي إلى الماضي. مدونة الكاتب : www.adiltahiri.maktoobblog.com