أصبح من المألوف سماع أو قراءة أو حتّى مشاهدة عملية رشوة في لحظة ما، بمكان ما، بين موظف أو مستخدم يطلبها بطريقة خاصة ومواطن يكون في حاجة لقضاء مصلحة معيّنة في أقرب فرصة. كما أصبح من المألوف جدّا تورّط هذا الموظف أو المستخدم في عملية رشوة، وبالتالي القبض عليه ومتابعته أمام القضاء. وفي هذا فإن موضوع الرشوة وأصحابها يسير بحديثه الركبان. في السنوات الأخيرة، أصبح من السهل اصطياد موظفين بالصوت والصورة في عمليات ارتشاء وابتزاز واستغلال للنفوذ إلى جانب الإخلال بالواجب المهني، ومن ثَمَّ الإيقاع والزجّ بهم في غياهب السجون. وفي الحقيقة، فإن سبب التركيز وما يلحقه من تهويل حول هذه الفئة بالذات، يتمثّل في كونها تعتبر الحلقة الأضعف في هذه العملية؛ ثم لأنّ رجال الشرطة والدرك مُعَرَّضُون، بحكم مهامهم التي تستدعي وقوفهم في ملتقى الشوارع وفي الطرق، للرصد والمعاينة المباشرة خاصة مع التطور التكنولوجي لوسائل الاتصال الحديثة الذّكِية التي تسمح بالتقاط مشهد العملية بالصوت والصورة وبكلّ التفاصيل المطلوبة. هناك موظفون آخرون يتعاطون لهذه العادة السّيِّئة بكل هدوء واطمئنان وراحة بال، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ ويقضون مآربهم أيّة مآرب هاته؟ بعيدا عن كل ما يمكن أن يثير الشّبهات، وأبعد ما يكون عن عيون وكاميرات الفضوليين التي يمكن أن تفضحهم وتُشَهِّر بهم بشكل بشع. وبما أنّهم يمارسون "نشاطهم" هذا داخل المكاتب وبين الممرّات والأركان وفي الأماكن "الآمنة" خارج العمل، فإن مجرّد الإشارة إليهم بالبنان من طرف أيّ كان قد يجرّ عليه الوبال خاصة أن الحجّة تُعْوِزُه والدليل يخونه، ممّا يجعل من الصعب، بل المستحيل، إثبات حالة التلبّس والتورّط. ويخرج المشار إليهم سالمين مثل الشعرة من العجين. ومع ذلك فإن البحث الجادّ ممكن خاصة أنّ ملامح وآثار "النعمة" المشبوهة تفضح صاحبها ومن معه. ولعلّ بداية طرح السؤال: "من أين لك هذا؟" من شأنه أن يؤدّي إلى اكتشاف مسلسل متكامل من عمليات الارتشاء والابتزاز واستغلال النفوذ والثقة والشطط والإخلال بالواجب المهني. وفي هذا الصدد، هناك حكايات أقرب وليست أغرب من الخيال حول الممتلكات، من العقارات والسيارات و"الْفِيرْمات" التي أصبح يتوفر عليها الموظف، والجميع يعرف أنه "دخل ربّنا خلقتنا" ليصبح من "أصحاب الكلمة" واليد الطُّولَى التي تعيث فسادا واستبدادا، تضرب هذا وتعصف بذاك انطلاقا من "الرّكيزة" القوية التي يعتمد عليها. هذا المشهد السّوريالي، الذي تعجّ به الإدارات والمؤسسات والمقاولات والشركات، ما كان له أن يسود لولا التواطؤات والمشاركات التي أصبحت تجد لها وجودا في إطار ما يُسَمَّى ب"الخدمات المتبادلة"، و"قضاء المصالح" خاصة في مجال الصفقات والمشاريع الكبرى التي تقوم على الملايير حيث يجد فيها المشتبهون المرعى الخصب والمجال الرحب لإخراج آخر ما تفتّقت عنه "عبقرياتهم" من حِيَل وتلاعب ودَسٍّ وكيد ونصب واستغلال النفوذ وخروقات وإخلالات وتجاوزات بالجملة وما لا يمكن أن يخطر بالبال من غشّ وتدليس وتزوير... وحَدِّث ولا حرج في هذا المجال. الغريب أن هذه السلوكات تُوصَف بأنها "إنجازات" يتفاخر بها أصحابها وتثير "إعجاب" الآخرين. وحين ترى المشاريع النور وتخرج إلى حيز الوجود، تجدها مُشَوَّهَة، لا أثر فيها للعمل الجاد والصحيح، تظهر عيوبها منذ اليوم الأوّل، وتسقط عند سقوط أُولَى قطرات المطر. ولا تقف المصيبة عند هذا الحدّ، بل تُخَلِّف ضحايا في الأرواح وخسائر وأضرارا في المنشآت... لتذهب الملايير "مع الواد الواد". وحين يبلغ السِّكّين العظم تخرج الحكومة وهيئاتها عن صمتها، وهي ترغد وتزبد وتتوعّد، وتتم متابعة الصغار في حين ينام المرتشون على جَنْبِ الراحة بسلام واطمئنان.