أعتقد، وربما يشاركني هذا الاعتقاد، الكثير من مواطني هذا البلد، أن في البلد شيء اسمه القانون، ينظم العلاقات بين أفراده، ويمنع ما يسمى التسيب... هذا القانون، نظريا هو فوق الجميع، وهو ضامن استمرارية مفهوم الدولة، وأمن المجتمع وغيره من مفاهيم المدنية المعاصرة التي تهدف إلى تحقيق إنسانية الإنسان أولا في مجتمع ما.... وفي هذا القانون، هناك فصول تتحدث عن الرشوة، باعتبارها جريمة تفسد هذه العلاقات بالضبط، وتم قرنها بطبيعة الأفعال التي تتدخل فيها، وحددت العقوبات وفق هذه الأفعال ووفق الأشخاص الذين يقترفونها، وكان القانون صائبا، حين شدد العقوبات على افراد يتحملون مسؤولية تنفيذ وإشاعة القانون والعدل بين الناس...
كان من بين هؤلاء الأشخاص، القضاة بمختلف مناصبهم ومسؤولياتهم....
تفقد الدولة معناها، ويدخل المجتمع في دوامة التيه والعبث، حين تعيث الرشوة فسادا في وسط عدالته... حين يتداول المجتمع همسا، وبأصوات مختلفة قصص القضاة المرتشون، حين تصبح الرشوة هي سيدة العدالة التي نكست سيفها وأصابت المظلومين بدل إنصافهم..
لا أحد يستطيع أن يشهر هذا الاحتجاج، لأن أسهل ما يتابع به هو قذف المحكمة أو التشهير أو عرقلة ملفاته إن كانت له ملفات في المحاكم... حين سُئِل محتج عن براهينه وهو يتهم قاض بابتزازه في مبلغ رشوة، كان جوابه بليغا: لا يملك الضباب جذورا في الأرض...
مناسبة كل ما سبق هو إعلان وزارة العدل والحريات للائحة القضاة الذين تم تأديبهم بمناسبة انعقاد دورة المجلس الأعلى للقضاة، ودون الدخول في تفاصيل ومعنى الإخلال بميثاق الشرف وغيرها من التعليلات المرفقة بهذه التأديبات، وجب التنبيه أن هناك قاض ضمن لائحة المعزولين بسبب الرشوة... الرشوة كما سلف الذكر هي جنحة تارة وجناية مرة أخرى، وفي حالة وجود قاض طرفا فيها فهي جناية تحتم ظروف التشديد، التي تصل فيها العقوبة إلى المؤبد أو الاعدام حين تقرن بجريمة تكون فيها العقوبة هي المؤبد أو الإعدام...
لا خبر عن الرشوة المرفقة بلائحة المؤدبين التي نشرتها وزارة العدل، بالضرورة سيكون هناك متقاض متضرر من هذه العملية... من هو؟ هل تم إنصافه؟ قد تكون الدولة في شخص الحق العام، قد يكون طرفا مدنيا لا أحد يدري؟ سيكون أيضا هناك راشي طرفا في ملف ما؟ هل تمت معاقبته وفق القانون؟ أم تم الاكتفاء بتوبيخه ما دام القاضي الذي اتهم بالارتشاء عزل فقط...؟
إن قرار العزل وحده، إن لم يكن مقرونا بمحاكمة تليق بتهمة الإرتشاء، سنكون أما فرضيتين لا ثالث لهما:
إما أن القاضي بريء، وقرار العزل جائر، ويجب البحث والتعميق في خلفياته ومبرراته، وإن كان هناك تصفية حساب ما وما إلى ذلك مما يمكنه أن يقع في دهاليز العدالة...
وإما أن القاضي مذنب بجريمة الرشوة، ومن المفروض محاكمته وإعادة النظر على الأقل في ملف الدعوى موضوع هذه الرشوة، وإلا سيكون العزل وحده نوع من الإرشاء العام الذي يمارسه المجلس الأعلى للقضاء اتجاه أعضاءه، وطمأنة المفسدين وسطهم، وأن أقصى وأقسى ما يمكن أن يصيبهم هو العزل، ليستمتعوا بما جمعوه من رشوة، أصبحت حديث كل لسان في المجتمع المغربي... قد لا يكون للمواطن ما يدعم يقينه بأن العدالة مرتشية في المغرب، لكنه في عمقه مقتنع تماما بأن العدالة مرتشية... مرتشية عن آخرها.