باتت السلفيات الوهابية تقود اليوم ما يعرف بالربيع العربي وتسابق جميع التّيارات لقد قامت الوهابية بالفصل بين مالك والمالكية كما فعلت مع الأشعري والأشعرية، ما الغرض من هذا التفكيك؟ يقع التفكيك هنا في سياق سياسة التدليس التي اتّبعها هذا التّيار. التدليس هنا ليس الغرض منه الخدعة دفاعا عن النّفس وإنما الخدعة دفاعا عن وجهة نظر في الدّين. غير أنّهم لا يمارسونه على أنّه تدليس مذموم، بل يعتقدون أنّه ما دام في خدمة الدّعوة والنّكير على البدعة فهو محمود. ومن ذلك قلّدوا ابن تيمية في الفصل والتّمييز بين أشعري الإبانة وأشعري آخر ذي توجّه كلابي. والغرض من هذه التّخريجة هو اعتبار الأشعري من أئمة السّلف. وبأنّ المذهب الأشعري الذي يمثّل مذهب غالبية السّنة هو مجرّد خطأ في التّقدير. فمنذ ابن تيمية وحتى آخر سلفي وهابي معاصر يعتبرون الأشاعرة المنتشرين اليوم في البلاد الإسلامية أتباعا للكلابية التي نسبت زورا للأشعري، بينما يعتبرون الأشعري الحقيقي الذي تراجع عن آرائه الاعتزالية وتبنى معتقد أهل الحديث هو على رأي السّلف. ولذا حينما يتحدّث السلفيون الوهابيون عن مالك أو الأشعري، فهم يتحدّثون عن مالك آخر وأشعري آخر لا علاقة لهما بالمالكية والأشعرية. وهذا نجده في موقف الجامي والمدخلي ونظراء لهم يتّهمون الأشاعرة بالضّلال ويبرؤون الأشعري من معتقدات الأشاعرة. إذا كانت السلفية قد غدت سلفيات متطاحنة حول الموروث الحنبلي التيمي، فإنّهم لا إشكال في أن تضعنا أيضا أمام أشكال من الأشعرية وأشكال من المالكية. هل ساهم ذلك في التدليس على علماء المغرب؟ نعم، لقد حدث هذا النّوع من التدليس الممدوح في معتقد السّلفية الوهّابية وانطلى ذلك على كثير منهم. وسوف يكون الأمر أكثر إمعانا في التدليس حينما أصبحت الدّعوة تستهدف العوام. ولقد رأينا كيف كان في بداية انتشار المدّ الوهابي كيف كان يتجرّأ رعاة الغنم على العلماء والمتخصّصين. وكان شيوخ الوهابية يشجعونهم على ذلك، ويحرّضونهم ضد العلماء بوصفهم علماء بدعة و ضلال.ففي هذا الإطار بدأنا نواجه مقاربات جديدة تقدّم موقف ابن تيمية من التّصوّف إلى درجة اعتباره من رجالات التّصوّف. فإذا بدأنا نجد سلفية تؤمن بالتّصوف وتمجّد في الأشعري ومالك تماما كما تمجد اليوم في الديمقراطية والربيع العربي، فإنّنا ندرك أسباب تمثّلها من قبل شرائح واسعة. يكفي دليلا على ذلك أنّك تجد في المغرب صوفية متأثّرين بفكر ابن تيمية. بل لقد استطاعت السلفية أن تمتد أبعد من ذلك لتؤثّر في مثقفين ومفكرين كثر تبنّوا مبادئها وقدّموا مقاربات من شأنها إضفاء شكل من العقلانية الشكلية على آراء وأفكار سلفية. ويتجلّى هذا التأثير حتى في مواقف ووجهات نظر المثقفين السياسية التي باتت تلتقي بشكل من الأشكال مع مواقف السلفية الوهّابية. وحتى الآن لا أكاد أستثني غير العروي وبعض المثقفين من هذا التّأثير السلفي. لقد جعلوا من الموروث السّلفي مشروعا لحلّ أزمة العقل العربي. ويصبح الأمر مقبولا حينما يتمكّن المال من تنميط أفكار الوهابية، غير أن المفارقة هنا أنّ المال الوهابي استطاع في الفترات الأخيرة أن ينجح في تنميط أفكار ومواقف عدد من المثقفين العلمانيين وحتّى من اليسار. يعترف بعض علماء الوهابية بممارسة التدليس كتغيير أسماء بعض شيوخ الوهابية، كيف تنظر إلى ممارسة التدليس في تاريخ الوهابية بالمغرب؟ التدليس الأكبر هو حينما ظنّ رموز السلفية الوطنية أنّ السلفية الوهابية هي أيضا حركة إصلاحية ونهضوية. ولو قدّر لهذا التّعايش أن يمضي طويلا لتفجّر صراع بين السلفية الوطنية والسلفية الوهابية. لكن وكما ذكرنا كانت السلفية الوطنية قد انسحبت وانقرضت لتفسح المجال إلى السلفية الوهابية التي تغلغلت في المجتمع. فقد استغلت السلفية الوهابية سطحية التّديّن الطّرقي وشيوع الخرافة والدّروشة لتذكي في الشرائح الاجتماعية روح الثورة ضدّ الطرقية. فلقد بات السلفيون أغنى من أتباع الطّرق وأصبحت الوهابية في المغرب تخلق لها امتدادات اجتماعية واقتصادية. فكما للطرق دراويشها أصبح للسلفية الوهابية دراويشها الذين احتلوا الفضاءات العمومية لمزاولة أشكال من التجارة التي يختلط فيها الدين بالكسب. وكانت السلفية الوهابية أكثر جدلا وقدرة على التبشير من الطرقية في صفوف الشّباب. لم تجد ظاهرية السلفية الوهابية منافسا لها من التيارات الفكرية العميقة، بل وجدت صوفية طرقية مأخوذة بالدروشة والسلوك والجذب والافتقار والجمود والبعد عن أسباب العلم والدّليل. لقد فسد الحقل الدّيني وتدنّى وتراجعت لغة العلم لصالح لغة الخرافة. وكان المجال مهيأ لاستقبال كل أشكال التّدليس. ولقد اعترف الشيخ تقي الدّين الهلالي بممارسة التدليس حينما قرّر إدخال بعض كتب بن تيمية وابن عبد الوهّاب إلى المغرب. وكان تقي الدّين الهلالي يمارس نشاطه الدّعوي في الشّمال المحتل أنذاك من قبل الإسبان. وكان غريمه وخصمه اللّدود في دعوته هو السيد ابن الصّديق الغماري. ويتحدّث تقي الدين الهلالي أنّه لمّا قرر إدخال هذه الكتب عمل بسياسة التدليس التي اعتبرها ممدوحة في هذا المقام. فعمد إلى وضع إسم الدرعي بدل ابن عبد الوهاب. وهذا حتى يظن المغاربة أنّ النسبة هنا لدرعة المغربية وليس الدرعية . كما سمى بن تيمية بالشيخ الحرّاني بدل إسمه الذي اشتهر به. والشّاهد هنا أنّ تقي الدين الهلالي علّق هو نفسه على ذلك، بأنّ تدليسه هذا انطلى على شخصية علمية كبيرة مثل ابن الصديق الغماري الذي لم يلتفت إلى ذلك فكيف بعامة النّاس. كان ذلك مثالا واضحا عن السياسة الدّعوية التي سلكتها السّلفية الوهّابية في المغرب وسائر الأقطار الأخرى. ويبدو لي أنّ التدليس بات سياسة أثيرة عند القوم. وقد اكتسبوا فيها تجربة كبيرة. إن السلفية الوهابية حتّى اليوم لا زالت تستعمل هذا الأسلوب. فتجدها اليوم تتبنّى مفاهيم وأفكار لا تعتقد بها. لكنها تستعملها في تبشيرها العقدي. مثلا، أصبحت السلفية الوهابية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة أكثر تمثّلا لآراء تنتمي للحداثة. مع أنّ السلفية الوهابية في المشرق سبق وناهضت فكر الحداثة، بل وكما تؤكّد رسالة خاصة الشيخ بن باز، ناهضت فكر ما بعد الحداثة. فالسلفية اليوم تتحدّث بمفاهيم التّسامح بينما هي حركة تكفيرية. كما تتحدث بمفاهيم الديمقراطية بينما هي حركة تناهض فكرة الدّيمقراطية وتجهّلها. ولكن تحت الضّغط باتت السلفيات الوهابية تقود اليوم ما يعرف بالربيع العربي وتسابق جميع التّيارات إلى شعارات ومطالب وتأسيس أحزاب. وكانت أن تدفقت جملة من أشكال المراجعات الملتبسة التي تعكس الكثير من المفاهيم والقيم التي بقيت منذ سنوات تحت طائلة التبديع والتكفير من قبل السلفية الوهابية. هذا يؤكّد على أنّ الوهابية تتمدّد خارج بيئتها بفضل وفرة المال وسياسة التدليس. التدليس الأكبر هو حينما ظنّ رموز السلفية الوطنية أنّ السلفية الوهابية هي أيضا حركة إصلاحية ونهضويةكانت السلفية الوهابية أكثر جدلا وقدرة على التبشير من الطرقية في صفوف الشّباب