بعد الحادي عشر من شتنبر، توجهت الدراسات الغربية المقاربة للظاهرة الإسلامية تناقش أسباب ظاهرة تنامي التيار الجهادي، وتدرس العلاقة بين المنحى الجهادي والوهابية، وهل يوجد يسمح التوجه الوهابي من خلال أصوله ومنطلقاته بإنتاج الفكر الجهادي. وفي الوقت التي خلصت فيه هذه الدراسات وبشكل متسرع إلى وجود علاقة سببية بين التوجه الوهابي والتيار الجهادي، انطلقت حملة كبيرة داخل العالم العربي والإسلامي باسم مكافحة الإرهاب إلى تجفيف ما يسمى الحضور الوهابي في برامج ومناهج التعليم وتصفية المناخ الثقافي من تأثيراته، واستثمرت بعض الجهات ولسباب سياسية الموقف، واعتبرتها مناسبة لتصفية الحركة الإسلامية بجميع أطيافها الفكرية والسياسية بدعوى أنها تحمل عمقا وهابيا، وأنها تقدم الفرشة الإيديولوجية للإرهاب، وأن خطرها أكبر بكثير من خطر المنفذين حسب تعبيرها. لكن، وبعيدا عن الاعتبارات السياسية والإيديولوجية، هل عمق الحركات الإسلامية في المغرب وبنية تفكيرها وهابي؟ وهل كانت في اصل منشئها كذلك؟ وما الصلة التي تجمعها بالوهابية؟ وما مظاهر وجود هذه الوهابية في خطابها ومسلكيتها الفكرية و السياسية؟ نبذة من التاريخ يتفق العديد من الباحثين في مجال التاريخ أن الحركة الوهابية لم تستطع في المغرب أن تثبت وجودها عبر مسار طويل من التاريخ، ويرجع بعض هؤلاء الباحثين سبب عدم تجاوب المغاربة مع هذه الدعوة الإصلاحية إلى كون التصوف شكل العمق النفسي والوجداني للمغاربة، وأن ما قام به المولى سليمان في بداية القرن التاسع عشر من إعادة ركب الحجاج المغاربة، ومن بعث وفد من العلماء لاستطلاع آراء الدعوة الوهابية من مصادرها الأصلية لا يمكن أن يحسب على أنه تأثر بهذه الدعوة ومحاولة من المولى سليمان لنقل المذهب في المغرب من المالكية إلى الحنبلية، فالثابت تاريخيا أن موقف المولى سليمان لم يتعد تصحيح العلاقة الديبلوماسية مع آل سعود وبناء موقف متوازن من الوهابية يعتمد تقييمها في ضوء المعطيات العلمية بدءا باعتبارها دعوة إصلاحية، وضرورة تلمس قضاياها وموضوعاتها من مراجعها وقادتها، واعتماد آلية الحوار في التعامل مع دعاتها، مع الاحتفاظ بحق تحرير نقاط الخلاف مع هذه الدعوة وانتقادها بالشكل الذي لا يذهب الود ولا يغفل الجوانب المشرقة في هذه الدعوة. الخلاصة أن العلاقة مع الدعوة الإصلاحية الوهابية بدأت بدافع سياسي حتمته مصلحة الدولة المغربية، لكن لم يحدث بعد المولى سليمان أن كان للفكر الوهابي في المغرب وجود يذكر. وحسب الدكتور محمد ضريف فإن الوهابية في المغرب الحديث والمعاصر تسجل وجودها في ثلاث سياقات: - السياق الأول: سياق محاصرة الفكرة الناصرية التي بدأت تمتد في الكثير من البلدان العربية مثل سوريا واليمن وضمن هذا السياق يقول ضريف، تم قبل الملك الحسن الثاني توسط رابطة علماء المغرب للدكتور تقي الدين الهلالي وهو أحد أركان الفكر الوهابي، للإقامة في المغرب. - السياق الثاني: محاصرة الثورة الإيرانية لما بين التوجه الوهابي والتشيع من قطيعة فكرية وسياسية. - السياق الثالث: وهو محاصرة فكر الأستاذ عبد السلام ياسين ودعوته من خلال استثمار الموقف الوهابي من التصوف ومن الطرقية ضد كتابات من قبيل الإسلام غدا و الإسلام بين الدعوة والدولة. وبحسب العديد من الشهادات التي اندرجت ضمن ذاكرة الحركة الإسلامية المغربية والتي تم نشرها في التجديد فإن تأثير الدكتور تقي الدين الهلالي في شريحة واسعة من تلاميذ الحركة الإسلامية وطلبتها كان باديا، غير أنه لم يكن الفكر الوحيد الذي يشكل مرجعية الحركة وخطابها.يقول محمد يتيم : كانت لنا أصول متعددة، منا من تأثر بالفكر الإخواني، ومنا من تأثر بمدرسة رجال التبليغ، ومنا من كان له نزوع سلفي، لكننا لم نكن في وقت من الأوقات سلفيين بالمعنى الوهابي ويعتبر احتفاء التعبيرات الإعلامية لجمعية الجماعة الإسلامية خ الإصلاح والفرقان- بالدكتور تقي الدين الهلالي في حياته ومماته دليلا على تأثر هذه الحركة به في مرحلة من المراحل، ولا ينفي محمد يتيم وجود من كان يتأثر بفكر تقي الدين الهلالي رحمه الله في الحركة، لكنه يرى أن ذلك لم يرق إلى أن يشكل مرجعية الحركة وخطابها، فقد ظلت الحركة قبل بلورة التوجه الجديد مفتوحة على كل الاجتهادات وكان أبناؤها يعبرون عن هذا التعدد، لكن مع التوجه الجديد يضيف محمد يتيم بدأنا نعيد صياغة مذهبيتنا الفكرية إلى أن استقرت بالشكل الذي عليه الآن في الوثيقة السياسية لحركة التوحيد والإصلاح، وهو نفس الاستنتاج الذي ذهب إليه محمد ضريف حين قال: مع نهاية الثمانينيات بدأت جمعية الجماعة الإسلامية تأخذ مسافة من التوجه الوهابي وتبلور قناعاتها بالشكل الذي تعتبر فيه المكون السلفي كأحد مكونات الحقل الديني موقف سيتطور في وثيقة حركة التوحيد والإصلاح السياسية، حيث سيصير محكوما بمنطق الجبهة الدينية والذي يعتبر التيار السلفي مكونا من مكونات الجبهة الدينية وأن الضابط الذي يحكم موقف الحركة منه هو النصرة الشرعية التي تعتمد النصح والتنبيه على جوانب الاختلال كما يوضح الحديث الشريف أنصرك أخاك ظالما أو مظلوما، لكن هذا الموقف سيتطور لاحقا بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر، وبعد ظهور ما يسمى بالسلفية الجهادية في المغرب، ففي مقال له، قسم محمد الحمداوي التيار السلفي إلى أربعة توجهات: 1 ـ السلفية الأصيلة: ودعا الحركة الإسلامية أن تسهم في إزالة الغموض عن السلفية الأصيلة، واستعادة المعنى الأصيل للسلفية باعتبارها في الأصل منهجا في النظر والتدين، قبل أن تكون تيارا مذهبيا ومجتمعيا. 2ـ تيار الغلو والتشدد:إن الحركة الإسلامية معنية معنية بإشاعة قيم الوسطية والإيجابية والمشاركة والمخالطة والصبر على الأذى في التفاعل مع تيار التشدد، وذلك من خلال فتح مناقشات علمية لأطروحتها الأساسية. 3 ـ تيار التكفير والتفجير: يرى أن الحركة الإسلامية معنية بتصريف خطابها الدعوي والتربوي وسط الشرائح الاجتماعية التي تعيش أوضاعا صعبة يمكن أن يستثمرها تيار التكفير والتفجير لمنع توسعه في هذه الهوامش 4 ـ السلفية العلمية:دعا الحركة الإسلامية إلى فتح باب التعاون والتناصح مع هذه السلفية، وتحويل الاختلاف الممكن معها في بعض القضايا إلى خير عام يخدم الدين والبلد والأمة، ويجنب بعض شباب الأمة السقوط في فخاخ التكفير والتفجير. تفصيل في الموقف لا نجده عند جماعة العدل والإحسان التي كانت حاسمة في الموقف منذ البداية، إذ رفضت التوجه الوهابي وخاض الأستاذ عبد السلام ياسين حربا ضده في كتبه، بل تعدى ذلك إلى خوض حرب شديدة مع ابن تيمية وخاصة في كتابه الإحسان وإن كان يغطيه في كثير من الأحيان بكلمات ثناء لا تخفي صراعه مع أطروحة شيخ الإسلام. لكن الحسم في الموقف لم ينه المشكلة ولم يسو توجه الجماعة في اتجاه القطع مع الأطروحة السلفية، فقد استطاع محمد البشيري رحمه الله، وهو صاحب التوجه السلفي المعروف، في فترة التسعينات أن يشكل تيارا عريضا متعاطفا مع أطروحته، واستطاع أن يفجر النقاش داخل الجماعة وبشكل خاص داخل الأوساط الطلابية حول هوية الجماعة الصوفية، لكن هذا النقاش سرعان ما انتهى باتخاذ عبد السلام ياسين قرار الفصل الذي وضح محمد البشيري بعض حيثياته والتي يتعلق جزء كبير منها بالموقف من التصوف. ويسجل المتتبعون للشأن التنظيمي لجماعة العدل والإحسان أن مجالس النصيحة قد عرفت تطورا كبيرا بعد خروج البشيري رحمه الله من الجماعة، وأن الجدل قد انتهى داخل الجماعة في موضوع هويتها الصوفية. لا علاقة للحركة الإسلامية بالسلفية الجهادية حسب وزير الأوقاف السابق الدكتور عبد الكبير المدغري، فالحركة الوهابية لا علاقة لها بالحركة الإسلامية، وأن نشأتها لم تأت بشكل طبيعي نتيجة الحراك الفكري الموجود في المغرب، وإنما تم رعايتها من قبل وزارة الداخلية المغربية لأسباب جيوسياسية معينة من جهة ولأسباب أخرى شخصية ترجع إلى العلاقة الحميمية التي كانت بين المسؤولين والتي فيها منافع ومصالح شخصية. وبغض النظر عن الموقف الذي اتخذه المدغري حين أفعى مسؤولية وزارته من المسؤولية في هذا الاتجاه واعتبر في كتابه الحكومة الملتحية أنه وقع تغييب وزارته في هذا الملف وأنها لم تكن تستطيع التدخل في المؤسسات الوهابية الموجودة في المغرب فضلا عن الشأن الديني في الخارج، فإن الثابت حسب إفادة هذا المسؤول الحكومي السابق أن الحركة الوهابية نشأت بعيدا عن الرهان المجتمعي، وأن السلطة قد رعتها لاعتباراتها الجيو سياسية أو لاعتبار المصلحة الشخصية لمسؤوليها، وهو تأكيد يقيم تمايزا واضحا بين حركة إسلامية نشأت في مخاض تاريخي وأنضجت تصوراتها في علاقة مع الزمن والصراع الفكر والسياسي، وبين حركة لم يكن لها أدنى تجدر في المغرب ولم يكن لها وجود يذكر لولا رعاية الدولة. وكما هو الشأن بالنسبة للحركة الوهابية، يرى الدكتور عبد الكبير المدغري أن الحركة الوهابية نفسها في المغرب غير مسؤولة عن إنتاج السلفية الجهادية، وأن جهات ما عرفت كيف تضع بيضا غريبا مع البيض المحضون، وهكذا برزت السلفية الجهادية من تحت ريش دجاجة الوهابية. ما تبقى من الوهابية في الحركة الإسلامية المغربية بحسب الدكتور الباحث مخلص السبتي، فإن الدعوات التي ترى أن الحركات الإسلامية الحديثة مخترقة بعمق فكري وهابي تسقط في التعميم المخل، فالحركة الإسلامية يضيف السبتي: تأثرت بما حولها من الأفكار الإخوانية والسلفية والصوفية لكن لا يمكن الحكم بأن الوهابية اخترقت بنية تفكيرها، فمن الواضح أنها تأثرت بالوهابية في البدء، لكنها تجاوزتها بعد ذلك ويمضي مخلص السبتي أبعد من ذلك يورى أن الوهابية اليوم قد خف بريقها بشكل كبير، بسبب ظهور أفكار ومشاريع إصلاحية جديدة، ويمكن القول بأن الوهابية قد تراجع تأثيرها في الساحة الحركية بشكل كبير الحركة الإسلامية المغربية والوهابية : وجهة نظر ثمة ملاحظة جديرة بالتسجيل في موضوع الحركة الإسلامية والوهابية، فالمعطيات التاريخية لا تسعف بالحديث عن تجدر هذه الحركة في ضمير المغاربة ووعيهم، ولا تسمح بالحديث عن كسب هذا التوجه لأي جماهيرية من خلال دينامية فكرية وحراك اجتماعي، فباستثناء ما قام به الدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله والذي كان يتمتع بقدرة تواصلية كبيرة وإتقان للغات كما سجل ذلك الأستاذ علي الريسوني، فلم تستطع رؤوس الحركة الوهابية في المغرب أن تثبت رمزيتها، ولعل ذلك يرجع بشكل أساس إلا أنها حركة استنبتت في واقع المغرب بدوافع أخرى خارج سياق التدافع الفكري والمخاض الذي يفترض أن يقطعه أي فكر وهو يخوض معركة إثبات وجوده. وبالإضافة إلى العامل السياسي الذي مكن لهذه الحركة وأعطى لها إمكانات فسيحة للتحرك في مرحلة من المراحل السياسية، يمكن أن نسجل وبحسب الإفادة من الشهادات التاريخية التي اندرجت ضمن ملف ذاكرة الحركة الإسلامية أن اللجوء إلى التوجه الوهابي إنما كان يتم في سياق الأزمة. نلحظ ذلك من خلال مبادرة كل من عبد الحميد أبو النعيم وجماعته المسماة وقتها بجماعة السنة، فالذي يتأمل سياق النشأة وملابساتها يدرك أن الأمر يتعلق بسياق ما بعد الفتنة في الشبيبة الإسلامية وان مبادرة أبو النعيم إنما تمت بعد الخلاف مع عبد الكريم مطيع وبعد استقالته من التنظيم. ويمكن أن نسجل نفس الملاحظة بالنسبة لجماعة >التبين< التي ما إن فاصلت الشبيبة الإسلامية حتى بدأت رحلة البحث عن ذاتها وكان أول محطة لها هو الفكر السلفي، وبدأت تنزع نحو هذا التوجه إلى درجة أن بعض عناصرها افتعلوا أزمة كبيرة مع الشيخ عبد السلام ياسين على خلفية ما ورد في كتاباته من شطحات صوفية. ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للجماعة الإسلامية في فترة انفصالها عن الشبيبة الإسلامية، فقد كان كثير من أبنائها متأثرين بفكر الدكتور تقي الدين الهلالي وبقي ذلك واضحا في تعبيراتها الإعلامية إلى ما قبل الأيام التكوينية )1989) والتي بدأت تطرح للنقاش الهوية الفكرية والمذهبية للحركة وموقفها من السلفية والتصوف إلى أن استقر موقفها بالشكل المعروف اليوم ضمن الوثيقة السياسية لحركة التوحيد والإصلاح. ملاحظة تنعكس أيضا على الحركة من أجل الأمة في بعض مراحل تطورها، وهي تؤشر على أن اللجوء إلى الفكر السلفي بالصيغة الوهابية لم يكن أبدا في أي وقت من الأوقات هوية للحركة الإسلامية، وإنما كان في أحسن أحواله رافدا من روافد التفكير المنسابة داخل الجسم الحركي، هذا إن لم تكن ممرا عابرا تصطاف عنده الحركة الإسلامية لتتجاوز مرحلة أزمتها وتدخل مرحلة أخرى وقد صفت كل الإرث الوهابي من خطابها.