بقلم : عبد الكريم النظفاوي* يعد القضاء إحدى أهم اللبنات الأساسية لبناء دولة الحق والقانون، وهو يضطلع بمهمة الفصل في الحقوق المتنازع حولها وفق مساطر قانونية تضمن شروط المحاكمة العادلة شكلا ومضمونا ، ولأهيته في حياة الأمم أضحى مقياسا لمؤشرات التنمية في الدول العالم بصورة يحسم في طبيعة الدول هل هي متقدمة أم متخلفة ، فمتى كان القضاء مستقلا كنا امام دولة صاعدة أو متقدمة والعكس صحيح وبالتالي ما يهمنا في هذا الإطار هو ما جاء به دستور 2011 حول استقلالية السلطة القضائية بالمغرب. أورد الدستور القديم // الجديد في الباب السابع والفصل 107 منه على أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية والتنفيذية وأن الملك هو الضامن لهذه الاستقلالية من رئاسته للمجلس الأعلى للسلطة الذي يكرس التمثيلية لجميع مكونات الجسم القضائي بالمغرب عكس دستور 1996 الذي اضطلع فيه وزير العدل بمهمة نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشيء الذي جعله يؤثر في السياسة القضائية سلبا وإيجابا ويتمتع بسلطات واسعة فيما يخص تأديب القضاة وترقيتهم وتنقيلهم وما إلى ذلك من صلاحيات تبوئه منزلة الإشراف على الجهاز القضائي برمته. إذا كان لوزير العدل وفق دستور 1996 وضعا اعتباريا ومحوريا في صناعة السياسة القضائية ، فإنه وفي الدستور الحالي أصبح مقصيا ولم يدخل قط في التركيبة البشرية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية حيث حل محله الرئيس الأول لمحكمة النقض بصفته رئيسا منتدبا ويتولى تدبير شؤون القضاة طبقا لمقتضيات الفصل 113 و116 من الدستور. ومن حسنات هذا الدستور، أنه أتي بجملة من الضمانات لفائدة استقلالية القضاة تم التنصيص عليها في الفصول 100 و 108 و 110 و 111 ، حيث يمنع التدخل في القضايا المعروضة على أنظار المحاكم من خلال التأثير على القاضي في شكل أوامر أو تعليمات أو أي شكل من الأشكال التي من شأنها إخضاعه وتركيعه ، فضلا عن ذلك يتعين على القاضي الذي يحس بأن استقلاليته مهددة بمناسبة نظره في قضية من القضايا المعروضة عليه ، أن يحيل الأمر على المجلس الأعلى للسلطة القضائية تحت طائلة إرتكابه خطأ مهنيا جسيما يعرضه لعقوبات تأديبية وقضائية مؤكدة ، لكن هنا يطرح التساؤل حول المقصود 'الأمر' بالإحالة ، هل يقصد به إحالة القضية برمتها أم فقط توجيه مذكرة عن وقائع تهديد الاستقلالية مع حفظ القضية بالمحكمة مصدرة الأمر بالإحالة ؟ . وإذا كان المقصود ب 'الأمر' مستشكلا إلى هذا الحد ، فإن نفس الإشكال يظل أيضا مطروحا بالنسبة لطبيعة القضايا التي يمكن للقاضي إعمال الإحالة فيها ؟ وهل يمكنه إحالة جميع القضايا سواء كانت مدنية أو جنائية وغيرها أم لا بد من توافر شروط معينة حتى تقبل الإحالة ؟. على أية حال ، أعتقد جازما أن عدم تقييد هذه الإحالة بضوابط معينة ، سوف يكرس نوعا من انسيابية الملفات - موضوع تهديد الاستقلالية - على المجلس الأعلى للسلطة القضائية وهو ما سيستدعي جهدا بشريا مضاعفا على مستوى المعالجة القضائية ، فالقاضي المحيل للملف موضوع الشبهة يبدل عناية في التحقيق والتحري ونفس الشيء بالنسبة للقاضي المحال عليه والنتيجة هي أن الجهة المعنية بالنظر في هذا الملف ، إما أن تكون مؤهلة قانونيا للبت فيها قضائيا ، وفي هذه الحالة لا يطرح أي إشكال ، في حين تطرح صعوبة عندما يتعلق الأمر بتخلف شرط الأهلية القضائية لدى هذه الجهة وبالتالي فهل يتدخل المجلس الأعلى للسلطة القضائية بصفته الولائية أم القضائية أو الاستعجالية للبت في الأمر الصادر بالإحالة هذا ؟. إن المشرع جانب الصواب حينما أثقل كاهل المجلس الأعلى للسلطة القضائية بقضايا عادة ما يختص القضاء العادي بالنظر فيها مجسدا في محاكم الدرجة الأولى والثانية التي تعمد إلى مراعاة مدى توافر الشروط الشكلية والموضوعية من عدمها على التوالي في الدعاوى المطروحة أمامها وبالتالي تطبيق القانون، وأما عن محكمة النقض ، فالمسألة مقتصرة على ملاحظة مدى تطبيق القانون من طرف محاكم الدنيا بصورة سليمة ومن تم تصدر قرارا بالتأييد أو الرفض أو الإحالة ، لذلك لا نرى أن يتدخل المجلس الأعلى للسلطة القضائية تحت ذريعة أية صفة سواء كانت ولائية أو استعجالية أو قضائية للنظر في الأوامر بالإحالة لأن تدخله هذا سيخرج القضايا الصادرة فيها الأوامر بالإحالة من إطارها القضائي إلى إطار إداري محض وهو ما لا يستقيم تماما واعتبار المجلس المذكور درجة أعلى من درجة التقاضي لمخالفة ذلك للمنطق الذي يقوم على أهلية محكمة النقض للنظر في الأوامر بالإحالة خاصة مع ما يحققه ذلك من تفادي إرهاق المتقاضين بالصوائر سواء تلك المتعلقة بأتعاب المحامين أو بالرسوم القضائية وإحقاق السرعة المطلوبة للبت في القضايا المعروضة على أنظار القضاء بصفة عامة . وإن دفعنا الرامي إلى أن تكون محكمة النقض صاحبة الاختصاص للنظر في الأوامر الصادرة بالإحالة طبقا للمسوغات والمسببات الآنفة الذكر ، فإنه نرى وفي المقابل أن دور المجلس الأعلى للسلطة القضائية يتعين أن يقتصر على بلورة السياسات القضائية بالتنسيق مع الأجهزة الحكومية خاصة ما يتعلق بتوفير الموارد المالية والبشرية اللازمة لتأمين دوران عجلة الأمن القضائي بالبلد ، فضلا على أن محكمة النقض لا ينبغي أن تظل أداة لتنفيذ كل ما يقرره المجلس الأعلى للسلطة القضائية بل يجب أن يسمع صوتها للمشاركة في صنع هذه السياسات القضائية خاصة وأن ناديا لقضاة المغرب تأسس للغرض نفسه وهو التعبير عن مواقف وأراء السادة القضاة في كل ما يتصل بالعدالة وتطويرها . وإذا كان رأينا يذهب إلى إسناد الاختصاص في الأمر بالإحالة لفائدة محكمة النقض وليس إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية فذلك يروم النجاعة القضائية من خلال توافر شروط المحاكمات العادلة شكليا وموضوعا بضمان مرونة في الإجراءات والمساطر القضائية التي أضحت إشكالية تقف حجرة عثرة أمام التنمية القضائية ما لم يباشر المشرع مبادرات واسعة لتحين القوانين الإجرائية بما ينسجم ومتطلبات العصر الجديد ، بحيث كما النموذج المسطري الذي نحن بصدده وهو أن يظل المجلس الأعلى للسلطة القضائية مبعدا عن النظر في الأمر بالإحالة لما لذلك من مساوئ تحسب ضد العدالة المغربية . وإلى جانب تحقق شرط الاستقلالية مهمة لفائدة السادة القضاء والقضاة ، فإن ذلك سيظل غير كاف ما لم يصاحبها شرط آخر وهو النزاهة ، فما السبيل إذن لقيام هذا الشرط ؟ ولعل ذلك لا يتعلق بفصل الأجهزة بعضها عن بعض كما الشأن بالنسبة لعنصر الاستقلالية وإنما يتعلق بأمور يتداخل فيها ما هو بيئي وثقافي وعلمي ، فالإنسان كما يقال ابن بيئته فمتى توافرت شروط التنشئة السليمة من غذاء مادي ومعنوي ، كنا أمام إنسان سليم والعكس صحيح ، فالقاضي الناجح لا يخرج وضعه عن هذه المعادلة تماما مع ترجيح أكبر للجانب المعرفي والعلمي في حقه حيث هو المؤسس الحاسم لضمير شخصية قضائية متوازنة قوامها إرساء الأمن والعدل القضائي بين المتنازعين دون محاباة أو تحيز لهذا الطرف أو ذاك بسبب العرق أو الجاه أو السلطة أو المال ، فهل سيشارك الفقه المغربي في الدفع بانصاف محكمة النقض لاختصاصها للنظر في 'الأمر بالإحالة' موضوع تهديد الاستقلالية ؟ .