سؤال الشعر بنفس الرتابة ، ونفس الإيقاع ، يساق الشعر العربي في يومه العالمي مرغما إلى حفل تنكري .. فالشعر ليس غاية ميكيافلية ، وإنما وسيلة للمكاشفة ، ومحطة لمساءلة بعض المحسوبين على قلب الشعر النابض بأنفاس الفقراء .. بهذا المعنى ، فالشعر مطالب بفضح تجار المناسبات ، أولئك المتسولون الذين حولوه إلى " حزب " مشبوه ، وجعلوا منه " غواية " للسباق نحو سراب الكراسي والمناصب ، " يقولون ما لا يفعلون " ، ويهيمون على بطونهم في " كل واد " باحثين على فتات الصدقات .. هؤلاء لا يدركون أن للشعراء كرامة ، وأن للشعر قدسيته ، ولن ينحني أبدا لحاكم أو لص متخصص في توزيع الهبات .. كان أبولو إلها مقدسا في الميثولوجيا الإغريقية ، أحبه شعب الإغريق ، لأنه تربع على عرش مملكة الشعر ، فالشعر معه كان عشقا وعبادة ، وطقسا يفرض على أثينا الهيبة والاحترام .. هنا كان شعب أبولو حاضرا ، كريما وخلاَّقا ، خلف لنا أشعارا وملاحم ظلت خالدة رغم تقدم الحضارات التكنولوجية الرهيبة ، بينما شعب " ديوان العرب " ظل محاصرا بعقلية القبيلة حتى أضحى الشعر مغتربا على أرضه ، بعيدا عن واقعه ، ومنفصلا عن قضايا عصره الجوهرية .. لم يعد الشعر ذلك الديكتاتور الذي يفرض متعة الاحترام ، وإنما فقد بريقه في زمن التشرذم والتفرقة .. من هنا يصحو السؤال المستفز ، هل الشعر ضامن للوحدة العربية ؟ .. هل يمكن اعتباره خاصرة النضال ؟ .. لماذا تأخرت صحوة الشعر بالمقارنة مع صحوة المجتمع ؟ .. هل بقي للشعر نصيب في زمن العولمة الكاسحة ؟ .. هل حقا ما زال للشعر بريق في زمن التكنولوجيات الحديثة ؟ .. بمعنى ما من المعاني ، هل نحن مستعدون للإعلان عن موت الشعر ؟ .. الشعر ليس فدلكة لغوية تحلق بنا في سماء الأوهام ؟ .. ولا صفة تعلق على مليشيات الكذب والنفاق ، ولا نياشين تزين صدور كلاب تتقن النباح وتحسبه شعرا على مقاس الكبار .. لا نريد احتفالا بيوم كرنفالي يعيد إنتاج نمط الرتابة ، فالشعر ليس مسألة بحور ، وإنما سؤال تراجيدي يبحث عن التحرر ، هو نشيد يحلم بالثورة على إمارة الفراهيدي ، وعبيد الفراهيدي ، وسجون الفراهيدي وكلابه .. فمهما كانت الخلفيات والأسباب ، فما الفائدة من الاحتفال بيوم حجبت فيه وزارة الثقافة شمس العيد من خلال تعليق جائزة الشعر وتحويلها نقدا لخزينة الدولة ؟ .. هل بهذا السلوك نكون قد أعلنا رسميا عن موت الشعر والشعراء ؟ .. ما الفائدة من الاحتفال بعيد في مجتمعات عربية تقمع الفرح ؟ .. لم يولد المتنبي ولا المعري من فراغ ، وإنما راكما تجربة زاوجت بين الاشتغال على اللغة والفكر ، فالشعر والفلسفة هما جسر العبور نحو ماهية الوجود والإنسان ، تلك هي القضية التي شغلت شعراء الفلسفة ، وفلاسفة الشعر .. من هذا المسار نستحضر اليوم طيفهما ولو من باب التأويل ، فترانيم الاحتفال من زاوية المصادرة على المطلوب قد تغدو صرخة على لسان المعري تصيح : غير مجد في ملتي واعتقادي نَوْحُ باك ولا ترنم شاد وشبيه صوت النَّعي إذا قيس بصوت البشير في كل ناد هل ننعي شعرنا العربي اليوم وهو في غمرة احتفالاته بسؤال المتنبي وسخريته ؟ .. عيد بأية حال عدت ياعيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد ؟ .. شعر الإسمنت يتنوع المفهوم بتنوع السياق والدلالة ، فشعر الإسمنت يتشابه لكنه يختلف من حيث المبدأ والقناعة ، وكذلك من حيث الرؤية الإسمنتية لوظيفة الإبداع ، وهنا يختلط السياسي بالإيديولوجي ، فكلاهما يُحوِّل الشعر من عالم " الأنا " إلى عالم " النحن " ، ويعطيه هوية وجودية .. فالعنصران متداخلان ، لأن مجال الشعر هو السياسة والإيديولوجيا ، وهنا تكمن مأساته حين يقتحم عالم اللغة والفكر .. لا يمكننا اعتبار كل من ريمون أرون ، وفوكوياما خاطئين إلا إذا اقتنعنا بأن رفضهما للإيديولوجيا هو إيديولوجيا في حد ذاتها .. ولا يمكننا اعتبار الماركسية على صواب إلا إذا تخلينا عن فكرة الوعي المقلوب ، فالإيديولوجيا وعي جمعي لجماعة لها نفس المصالح والأفكار تسعى جاهدة لتحقيقها بكل الوسائل المتاحة .. سلطة الشعر ، إذن ، تستمد قوتها من هذا الواقع ، وهذا ما يفسر صراع بعض الإيديولوجيات من جمعيات ، وهيئات ، واتحادات عربية وغيرها للسيطرة على هذه السلطة وجعلها دعاية في خدمة أفكارها وتوجهاتها .. وهنا يفقد الشعر بريقه ويتحول إسمنتا في خدمة فئة تبحث عن مصالحها الضيقة بمظهر زعامة خادعة تقف بين حدين متناقضين ، تغازل الأنظمة الحاكمة ، وتساند في الآن ذاته مطالب الطبقات الشعبية ، وهذه إحدى مظاهر دهاء الوعي الشقي .. وعلى الضفة الأخرى نجد شعراء اختاروا طريق القلق والتوتر ، فكتبوا بآلام الشعب ودموعه أشعار الفرح فكانت الضريبة المتوقعة هي فقدانهم لحريتهم الفردية من أجل بناء حرية جماعية جديدة .. هؤلاء الشعراء وغيرهم آمنوا بالإنسان ، واعتنقوا مبدأ نصرة الحق أساسا للذهاب بالشعر نحو أفق التنوير ، والحرية ، والتحرر من سجن الوهم وعبيده ، إنهم ترياق الأمل وإسمنت الفرح الواعد ، لكن في المقابل نجد بعض الشعراء حراس التقليد قد حوَّلوا القاعات ، والصالونات الإسمنتية إلى لقاءات نخبوية مفروشة بثغاء ينم عن ثراء العلف الشعري وضيق الأفق الفكري .. فإذا كان لابد من الاحتفال باليوم العالمي للشعر باعتباره ضرورة بيولوجية للسمو بقيم الإنسان ، فإن الضرورة تحتم على الشعر أن يخرج من عزلته ، وأن يعيد النظر في أنساقه العامة ، وذلك من خلال انخراط الشعراء في معركة الحياة .. فلم يعد من المقبول أن نقضي وقتا في الاستماع إلى شاعر متخلف عن عصره يعيدنا إلى العصر الجاهلي ، فالعصر الجاهلي قد ولى بشعرائه الفطاحل ، وبمشاكله وقضاياه ، فالشعر إما أن يطرح قضايا ومشاكل عصرنا أو يصمت .. لم يعد مقبولا أن نعيد الماضي ، فالماضي ضرب من العدم والخيال ، ولم يعد من المستساغ أن نقبل بشاعر يقدم لنا شكلا بلا مضمون ، فالشكل تكرار للحضارة الرأسمالية المتوحشة التي أفرغت الهويات من مضامينها ، وهيأت العقول لقبول المظهر بدل الجوهر لن نقبل في عصرنا الراهن بشعراء الفدلكة ، فالشاعر إما أن يكون أو لا يكون ..