يلجأ بعض المحللين السياسيين المغاربة، بين الفينة والأخرى، إلى أسلوب التبسيطية والاختزال، في سعي منهم إلى تمرير خطابهم الإيديولوجي أو تصفية الحساب مع خصومهم، ظنا منهم أن صفة " أستاذ باحث " التي يحملونها كفيلة وحدها بجعل القارئ يقتنع بما يروجون له من أفكار. وهم واهمون لأن القارئ المتابع لما ينشر في الصحافة المكتوبة والإلكترونية قادر على التمييز بين التحليل السياسي الرصين الذي يستند إلى الموضوعية والعمق والشمولية، وبين الخطاب الإيديولوجي التبسيطي الذي، وإن كان يقدم نفسه تحت لافتة التحليل السياسي، فإنه يبقى سطحيا يتماهى مع خطاب الداعية المتحمس أو السياسي الذي يروم إقصاء خصومه بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة. وسأتوقف عند مقالين أحدهما للأستاذ سمير أبو القاسم والثاني للأستاذ سعيد الكحل تم نشرهما في إحدى الجرائد الإلكترونية المغربية لأبرهن على ما أقول. الملاحظة الأولى التي تقفز بجلاء أمام القارئ هي أن تحليلات الأول (أبو القاسم) تميل إلى التبسيطية المقصودة لأنها مؤطرة بانتمائه الحزبي الذي يحاول إخفاءه تحت ستار البحث العلمي لكنها محاولة غير موفقة كما سنبين لاحقا. أما الثاني ( الكحل ) فقد اختار عن اقتناع وسبق إصرار أسلوب التأليب والتحريض ضد من يختلفون معه في التوجه الفكري والسياسي وبخاصة من الإسلاميين. حاول الأستاذ أبو القاسم في مقاله ، بأسلوب لا يخلو من سخرية ، أن يقف عند قضية عدم وفاء بنكيران بوعوده الانتخابية، وعجزه عن تطبيق برنامجه الانتخابي وبخاصة في شقه المتعلق بمحاربة الفساد السياسي. وبذلك يكون – في نظره – مخلفا لوعده من الناحية الدينية، ويكون على فقهاء الجنس والحيض والاحتكاك - كما سماهم – أن يبحثوا عن الحكم الشرعي لهذه النازلة، يقصد نازلة إخلاف بنكيران لوعوده الانتخابية... هذا مثال صارخ على التبسيطية في التحليل السياسي وإن كان القصد التهكم والسخرية. لقد كنا ننتظر من الأستاذ أبو القاسم تحليلا معمقا للأسباب الذاتية والموضوعية التي جعلت حزب بنكيران والأحزاب الإسلامية الأخرى في الوطن العربي تظهر بمظهر العاجز عن تطبيق برامجها الانتخابية. من مظاهر التبسيطية أيضا أن نوهم القراء بأن رئيس الحكومة المغربية تخلى عن مبادئ حزبه حين شرع يدق أبواب أحزاب مثل البام والأحرار لترميم بيت حكومته بعد انسحاب حزب الاستقلال. إن هناك رغبة لدى أنصار هذا الطرح في إخفاء حقيقة دور الهندسة الانتخابية ببلادنا في ما يحصل حاليا. فالقانون الانتخابي كما هو معلوم لايسمح للحزب الفائز بالأغلبية بالانفراد بالتسيير الحكومي، وبناء على ذلك فبنكيران مجبر على ترميم حكومته بأحزاب يختلف معها في التوجه الإديولوجي أو دخل معها في صراع تولدت عنه ضغائن شخصية، بحيث ينطبق عليه المثل القائل " مكره أخوك لابطل " .وبناء على ذلك تكون الأحزاب السياسية التي اختارت مقاطعة الانتخابات واشترطت إعادة النظر في القوانين الانتخابية (التي وضعت، أصلا، لقطع الطريق على الحزب الفائز بالأغلبية للإنفراد بالحكم) تكون هذه الأحزاب أكثر تقدمية من جميع الأحزاب التي اختارت الانخراط في اللعبة السياسية في ظل القانون الانتخابي الموجود. إن المحلل السياسي الرصين لا ينبغي له أن يكتفي بتصوير الأمر كما لو كان يتعلق بانعدام الكفاءة السياسية، لأن الأمر أبعد من ذلك؛ إنه يتعلق بقبول لعبة سياسية يتحكم القانون الانتخابي في خيوطها، بالإضافة إلى عوامل أخرى متعددة لعل أهما دور جيوب مقاومة الإصلاح في عرقلة المسار الديموقراطي الذي أعقب ما سمي بالربيع العربي. وإلا فهل يريدوننا أن نقتنع ببساطة أن تسيير الشأن السياسي العام ببلادنا يحتاج إلى مؤهلات ذاتية لاتتوفر في أعضاء حزب الميزان وفي كل الإسلاميين وتوجد لدى غيرهم في الأحزاب الأخرى؟ إن مثل هذا الادعاء تبسيط مفتعل يبرر الانقلاب على حكم الإخوان المسلمين في مصر ويمهد للانقلاب عليهم في تونس والمغرب. هل مجرد سحب الحكم من حزب العدالة والتنمية وتسليمه لحزب آخر كفيل بحل مشاكل المغرب الاقتصادية والاجتماعية؟ وهذا ما يحصل اليوم في مصر حيث هناك من يريدنا أن نقتنع بأن سحب الحكم من الإخوان المسلمين وتسليمه إلى الجيش أو البرادعي أو عمرو موسى ... كفيل بحل مشاكل الشعب المصري السياسية والاقتصادية والاجتماعية. بينما الأمر أعقد من ذلك بكثير لأنه يتعلق بتضارب مصالح داخل مصر وخارجها ( ما زالت أمريكا – مثلا - مصرة على أنها لن تصف ما حصل في مصر بالانقلاب ) ويتعلق – أيضا - بوجود تيار رافض من حيث المبدأ وصول الاسلاميين إلى الحكم بأي شكل من الأشكال حتى ولو كان عن طريق اليموقراطية ، مثلما حصل في الجزائر بداية التسعينات حينما انقلب العسكر على الديموقراطية لأنها أوصلت إلى الحكم حزبا إسلاميا غير مرغوب فيه هو جبهة الانقاذ. واليوم ترتفع أصوات بعض المثقفين والمحللين السياسيين المغاربة والعرب مرحبة بالانقلاب العسكري في مصر ليس ليقينها بأنه سيجلب الخير للمواطنين ولكن شماتة في الاسلاميين لاغير. ولم تخجل بعض الأصوات التي أطلت علينا من بعض القنوات الفضائية العربية صارخة أن مصر الانقلاب تقدم درسا في "الديموقراطية الشعبية " للعالم. هذا يعني أننا نلقن اليونان وإيطاليا وإسبانيا التي عرفت أزمات سياسية كيف تطبق الديموقراطية على الطريقة المصرية؛ يكفي أن نشجع بطرق متعددة معارضي الحكومة القائمة في أي بلد على التظاهر في الشارع ثم نفسح المجال لتدخل العسكر ونزيح الحكومة المنتخبة ديموقراطيا بمبرر عدم كفاءتها، ونعين حكومة جديدة ليقال في الأخير لقد تمت الاستجابة لإرادة الشعب، ثم نقمع الإرادة الشعبية الأخرى المتشبثة بالحكومة المنتخبة ديموقراطيا بعد أن نصنفها ضمن الجماعات الإرهابية . إنها حقا دعوة إلى العبث والفوضى حين يقال إن ما حدث في مصر ليس انقلابا عسكريا وإنما هو استجابة لإرادة الشعب. ولذلك فمن تابع خطاب " السيسي " قائد الانقلاب العسكري الذي ألقاه صبيحة يوم الأربعاء الماضي يلاحظ أنه خطاب تبريري بأكمله. وما لم نكن نعلمه، وجاء في هذا الخطاب، هو أن من حق الجيش في الدولة العصرية الحديثة أن يقدم النصح لرئيس الدولة المنتخب ديموقراطيا لإيجاد حلول سريعة لأزمة سياسية تمر منها البلاد، فإن لم يقبل " النصح " وجب عزله ثم سجنه بتهم كثيرة منها التآمر على أمن الدولة. والأدهى من ذلك خروج أصوات مؤيدة للانقلاب العسكري شرعت تعلمنا كيف أن الديموقراطية ليست مجرد نسب مئوية في صناديق الانتخابات ... وبناء على هذا المنطق علينا أن نكفر بالديموقراطية إذا أوصلت الإسلاميين إلى الحكم، ونرحب بها عندما توصل خصومهم . أوعلينا أن نؤمن بأن الشعوب العربية ما زالت قاصرة لاتحسن اختيار من يصلح لحكمها ، ولذلك لابأس من تدخل الجيش عندما ترى الفئة المتنورة من الشعب ( حتى ولو كانت قليلة كفئة البرادعي وعمرو موسى ) ضرورة ذلك. هذا هو منطق المؤيدين للانقلاب العسكري في مصر. ويبدو أن السيسي في خطابه الأخير يود أن يعيد تجربة الراحل جمال عبد الناصر، ويظهر بمظهر الزعيم الشعبي رغم أن الزمن والظروف تغيرت ورغم أن الجيش المصري ومعه بعض الجيوش العربية ليس لها ما تفتخر به منذ هزيمتها أمام إسرائيل عام 1967. نأتي الآن إلى مقال الأستاذ الكحل لنبرهن على غياب المنطق والموضوعية، وحضور التأليب والوصاية الفكرية في بعض مقالات التحليل السياسي ببلادنا. فقد تمحور هذا المقال حول موقف الشيخ حسن الكتاني من الديموقراطية التي هي في نظره (نظر الكتاني) نظام علماني لايصلح للمسلمين. وبدل أن يتم التصدي للموضوع من الناحية الفكرية باعتبارها قضية مطروحة في الثقافة العربية منذ عصر النهضة،إذ تصدى لها كثير من المفكرين السلفيين الأوائل مفضلين عليها مفهوم الشورى، بدل أن يقوم الأستاذ الكحل بذلك، فضل – كعادته - اللجوء إلى التأويل المغرض قصد إحراج الكتاني مع السلطة فذهب إلى أن رفض الديموقراطية بهذا الشكل الذي قدمه الشيخ الكتاني (باعتبارها نظاما علمانيا غير صالح للمسلمين) إنما هو خروج على توابث الشعب المغربي، بل أكثر من ذلك إنه مس " بهيبة الدولة وطعن في الدور الدستوري لإمارة المومنين في حماية الملة والدين" (والعبارة للأستاذ الكحل). وعليه فإن الأمر خطير – في نظره – و يستدعي تدخل جهتين على الأقل: الأولى هي الهيئة السياسية التي ينتمي إليها الشيخ الكتاني، والثانية هي وزارة الداخلية. هل يحتاج هذا الموقف الشاذ إلى تعليق؟ باحث مغربي في الإسلام السياسي، يدعو إلى مواجهة رأي شيخ سلفي حول الديموقراطية بالمقاربة الأمنية؟ هذا في الوقت الذي اختارت فيه الدولة نفسها مواجهة التشدد السلفي من خلال المقاربة الفكرية؟ إن ما حدث في مصر يكشف حجم الكراهية التي يكنها البعض للاسلاميين الذين لاشك في أنهم راكموا أخطاء سياسية كغيرهم من الأحزاب الشيوعية واليسارية العربية، لكن الفرق أن الجميع صبر طويلا على أخطاء اليسار العربي بينما لا أحد اليوم مستعد للصبر على الاسلاميين أكثر من سنة ونصف السنة.