المبادئ عملة نادرة في سوق الصرافة المجتمعية، والمتمسكون بالمبادئ ولو كانت على حساب مصلحتهم قلة في عصرنا هذا، يمكن أن نذكر منهم حركة حماس الفلسطينية التي التزمت بمبادئها واصطفت إلى جانب الشعب السوري في حراكه، وفقدت بذلك الكثير من مكاسبها، فقدت المقرات واللجوء في الأراضي السورية، وفقدت – وهذا الأهم – الدعم المالي والمادي الإيراني، وهي الآن تعاني كثيرا من الناحية المادية، لكن رأسمالها الرمزي لم يُمَسّ قيد أنملة، على عكس حزب الله الإيراني الذي لم يفقد علاقاته القوية بالنظام السوري ولم يفقد ملايير الدولارات التي يضخها في حسابه النظام الإيراني، ورغم ذلك فقد الكثير من شعبيته ومن رأسماله الرمزي الذي بناه شهداؤه ومناضلوه بصبرهم وجلدهم في مواجهة العدو الصهيوني. هذا التشبث بالمبادئ لم نعد نجد له وجودا في أغلب الحركات والهيآت والتنظيمات بل والأنظمة، وكنا إلى الأمس القريب نسمع شعارات ونقرأ كتابات اليساريين العرب فخُدعنا بها أيما خديعة، ظنا منا أننا أمام أهل المبادئ والقيم، لكن سرعان ما توضع تلك المبادئ في الدولاب حين تحضر المصالح، وتلك انتهازية ما كان بهم أن يقعوا في براثنها خصوصا أن منهم من أمضى زمنا غير يسير في المعتقلات والسجون من أجل "مبادئه". ولم يشذ اليساريون المغاربة عن هذا النسق، فهم يُصابون كغيرهم بداء التحول والتغير كلما وقعت في الأمة بعض الرجات أو الأحداث العظام، ويمكن رصد ذلك من خلال عينة من التصريحات والمواقف الأخيرة لبعضهم. الأستاذ عبد الصمد بلكبير : بعد الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب محمد مرسي، صرح الأستاذ عبد الصمد بلكبير (مثقف قومي) لموقع لكم الإلكتروني أن ما حدث "أمر شرعي بمنطق سياسي"، ولإسباغ حلة منطقية على مقوله، حاول أن يعلله بمجموعة من التعلات، منها "أن كل المؤسسات تصبح خاضعة في آخر المطاف للحراك الشعبي"، هذا التعليل قد يكون مقبولا منه لو أنه يستصحبه في جميع المواقف المماثلة، لكن داء التحول النابع من المصلحة الضيقة يفرض عليه عكس ذلك. ** يعتبر الأستاذ عبد الصمد بلكبير من المناصرين لبشار الأسد ونظامه، ولم يعر أي اهتمام للحراك الشعبي السوري الممثل لكل الأطياف (بما في ذلك العلويون)، بل أيد في مقال له قبل أقل من شهرين "الصمود الأسطوري للشعب السوري وجيشه العربي العتيد". ** أثناء الحراك الثوري الشعبي الليبي، حل الأستاذ بلكبير ضيفا على قناة الجماهيرية، وعبر شاشتها دعا المغاربة أجمعين أكتعين إلى مساندة القذافي، ولما كان يعلم يقينا أن دعوته ليست إلا صيحة في واد، حاول أن يقنع مخاطَبيه بتعليلات منها أن المغاربة سيتضررون من زوال نظام القذافي، لأن ليبيا هي الممول الرئيس لبناء الفنادق في المغرب. من خلال هذه الآراء، يتبين أن ذ. بلكبير مع الإطاحة بمرسي وضد الإطاحة ببشار والقذافي، وهذا التمييز والتفريق لا يمت إلى المبادئ بصلة، لأن الإنسان المبدئي يدور مع مبدئه وجودا وعدما، فإذا كان يعتقد بصواب خضوع المؤسسات للحراك الشعبي فيجب أن يسحب ذلك على حالة مرسي كما على حالة بشار والقذافي سواء بسواء. واسترسل الأستاذ في تصريحه المذكور وقال : "إذا كان 30 مليون مصري قد خرجوا للشارع ضد مرسي ودستوره، فإن تدخل الجيش يكون استجابة لشرعية الشارع التي لا تعلو عليها شرعية أخرى"، وبناء على هذا التقرير، يمكن للأستاذ بلكبير أن يصرح بتصريح جديد ناسخ لتصريحه السابق، لأن الشارع خرج منتفضا ضد انقلاب العسكر، وخرج يوم جمعة الرفض أكثر من 30 مليون مصري حسب تقارير bbc و cnn، وعمت المظاهرات كل جمهورية مصر، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، فهل يستطيع الأستاذ الخضوع للمبدأ ونسخ تصريحه ؟ أم أن المصلحة تمنعه من ذلك، خصوصا إذا علمنا أن الرئيس مرسي هو أول رئيس منتخب يضع حدا لحكم العسكر الذي بدأه حبيب القوميين جمال عبد الناصر رحمه الله. الأستاذ حسان بوقنطار : بعد إسقاط مرسي بواسطة العسكر، كتب الأستاذ الحسان بوقنطار مقالا تحليليا حاول من خلاله تسويغ الفعل العسكري الشنيع الذي وصفه ب "الانقلاب الضروري والناعم"، ويحق لأبسط قارئ أن يتساءل مع الأستاذ حول هذا التوصيف، وهل يوجد انقلاب ناعم ؟ إنه مكر اللغة، أو بالأحرى مكر مستعملي اللغة، حيث توصف الخشونة بالنعومة، ولا ضير في ذلك، فالكلام صادر عن عضو اللجنة الإدارية لحزب الاتحاد الاشتراكي الذي عمل بعض قادته على التواطئ يوما ما مع العسكر لإنجاز "انقلاب ضروري وناعم" ضد المؤسسة الملكية، ولنُعِد قراءة رسالة الفقيه البصري رحمه الله ثانيةً. ولم يخلص الأستاذ بوقنطار لهذا التوصيف دون مقدمات، بل تحدث عن أخطاء مرسي، وقال : "إن الشرعية الديمقراطية ليست فقط شرعية قائمة على صناديق الاقتراع، بل إنها بالأساس شرعية الإنجاز"، جملةٌ لو قالها أحد منظري الاستبداد لكانت ملائمة له، أما أن تصدر عن مثقف منتم لحزب ناضل مؤسسوه وبذلوا أرواحهم فداء للديمقراطية فذلك مدعاة للتعجب. وقبل تحليل هذه العبارة، دعونا نتوقف مع قادة حزب ذ. بوقنطار الذين عبروا في أكثر من مناسبة على تعاملهم مع حزب الأصالة والمعاصرة بدعوى أنه حصل على شرعية صناديق الاقتراع، فلماذا تعتبر شرعية الصناديق مهمة مع البام وغير مهمة مع مرسي ؟ أم أن المصلحة تقتضي منا التلَوُّن والتحول ؟ لنعد إلى العبارة/القاعدة التي قعّدها الأستاذ بوقنطار، حيث تحدث عن ثنائية شرعية صناديق الاقتراع وشرعية الإنجاز، بل عمد إلى التضخيم من الثانية وتبخيس الأولى بعبارة واضحة لا لبس فيها، حيث وصف الثانية ب "الأساس"، فهل يصدر هذا الكلام عن أناس قياديين في حزب يمكن الاعتماد عليه في عملية الانتقال الديمقراطي ؟ أم أن هذه العبارة تعد اغتيالا ثانيا لشهداء حزبه رحمهم الله ؟. بل يمكن اعتبار عبارة ذ. بوقنطار محاولة منه لإضفاء الشرعية أكثر على نظام حسني مبارك الذي أسسه جمال عبد الناصر الفاقد لشرعية الانتخاب وصاحب شرعية الإنجازات، مع العلم أن العهد الناصري أطول بكثير من عهد مرسي، فلا تجوز المقارنة بينهما، إضافة إلى أن عبد الناصر حكم شعبه بالحديد والنار، ما أسهم في شيوع السلم والاستقرار القسري الذي سمح له بالانطلاق في الإنجازات، أما عهد مرسي (سنة واحدة) فلم يخلُ يوم واحد دون وجود مظاهرات مناوئة وتحرشات من قبل المرتبطين بالخارج (عمرو موسى والبرادعي) إضافة إلى الإعلام المرتبط بالنظام السابق. وللإشارة، فإن عهد مرسي تميز بوجود أزمة السولار والكهرباء، وهي الأزمة التي أججت غضب الشعب عليه، لكن الأزمة سرعان ما انتهت منذ الانقلاب العسكري، فمن هو العفريت الذي أنقذ مصر من تلك الأزمة قبل أن يرتد إليه طرفه ؟ الأستاذ محمد الساسي : في مقال له بعنوان "أردوغان، روحاني وبنكيران"، قال الأستاذ الساسي : "هل الديمقراطية دائما لدى حكم الإسلاميين أينما وجدوا هي صناديق الاقتراع فقط ؟ وهل أقصى ما يمكن أن يمنحنا هذا النوع من الحكم هو تطور الاقتصاد بدون حريات ؟". يتطابق رأي ذ. الساسي مع رأي ذ. بوقنطار في تبخيس صندوق الاقتراع، لكنه يختلف مع سابقه في قضية الإنجازات، حيث يقر بتطور الاقتصاد (الإنجازات) مع الإسلاميين لكن ذلك دون حريات، مع العلم أن أردوغان لم يقمع الحريات، رغم أن المظاهرات ضده لم تكن بريئة، حيث رفع المتظاهرون شعار البيئة بدعوى إزالة بعض الأشجار من ساحة تقسيم، وهذا لا يمكن عقلا ومنطقا أن يكون سببا في انتشار المظاهرات في عموم البلاد، وقد رد عليهم رئيس الوزراء بتذكيرهم بعنايته العملية والبالغة بالبيئة، حيث زرع ما يقارب ثلاثة ملايين شجرة في استنبول لما كان عمدة لها، وزرع حوالي أكثر من ملياري شجرة في عموم تركيا طيلة السنوات العشر الماضية، لذلك كان السبب في تلك التظاهرات هو الخلاف الإيديولوجي بين المعارضين وحزب العدالة والتنمية، وقد برهنوا على ذلك من خلال رفع قنينات الخمور في تظاهراتهم، وهذه طريقة جديدة في الاحتجاج تشبه إلى حد ما ظاهرة فيمن، ولو لم يكن الخلاف الإيديولوجي مستحكما على عقل الأستاذ الساسي لما اتهم أردوغان بقمع الحريات. والأستاذ الساسي ينتمي إلى حزب ذي أزمة انتخابية، لا يستطيع أن يفرض نفسه عبر صناديق الاقتراع، لذلك قال في مقاله السابق : "وهل التصلب والاستعلاء والتهديد وتجريم الرأي الآخر هي ثوابت في خطاب الحاكم الإسلامي كلما اكتسب أغلبية انتخابية وانتفض ضده جزء من الشعب ؟"، ولنتأمل كلمة "جزء"، لذلك لا بد من إجابته بقولنا "هل الاستعلاء والتصلب والتهديد وتجريم الرأي الآخر هي ثوابت في خطاب المناضل اليساري كلما أفرزت صناديق الاقتراع نتائج مخالفة للهوى والمراد ؟". الأستاذ النقيب عبد الرحمن بنعمرو : من غرائب ما قاله المناضل اليساري ذ. عبد الرحمن بنعمرو أن ما وقع في مصر ليس انقلابا، وقدم لرأيه مجموعة من الدفوعات، منها أن الجيش لم يتحمل المسؤولية التشريعية والمدنية والتنفيذية، ومنها أن التظاهرات ضد الرئيس المنتخب شارك فيها الشعب بجميع أطيافه ومكوناته (أفراد الشرطة – محامون – قضاة ...)، وتفاءل خيرا في المستقبل حيث تنبأ أن الوثيقة الدستورية المقبلة ستسهم في صياغتها جميع مكونات الشعب، ولتبرير ما فعله العسكر استشهد بما وقع في البرتغال وما صنعه الجيش مع البلاشفة ولينين. الغريب العجيب في هذا التصريح، هو أن يصير إنسان أمضى حياته كلها مناضلا ضد الاستبداد مطالبا بالديمقراطية في المغرب إلى إنسان مُنظر للانقلاب على الديمقراطية الوليدة في مصر. منذ سنوات انتصر المنتخب المغربي في إحدى المباريات، وخرج المغاربة ساعات طوال إلى الشوارع ليعبروا عن فرحتهم بالانتصار، واستجوبت إحدى الصحف الأستاذ أحمد بنجلون (رئيس حزب الطليعة آنذاك) كما استجوبت غيره حول الحدث، فضمّن جوابه ضرورة ترك العسكر للجامعة الملكية لكرة القدم وعودتهم إلى الثكنات. رئيس حزب الطليعة السابق يطالب بعدم تدخل العسكر في الكرة، ورئيس حزب الطليعة الحالي يسوغ تدخل العسكر في صناعة الدولة وهيكلتها، مَن المصيب ومن المخطئ ؟ لقد كان توصيف الأستاذ عبد الرحمن بنعمرو متوافقا مع مواقف الدول العظمى، لذلك علق عليها الكاتب الصحفي روبرت فيسك بقوله : "لأول مرة في التاريخ يكون الانقلاب العسكري ليس انقلابا عسكريا"، وحسنا فعلت الدول الإفريقية حين جمدت عضوية مصر في الاتحاد الإفريقي نظرا للانقلاب العسكري ذي الواجهة المدنية. واعتبر ذ. بنعمرو مشاركة كل مكونات الشعب في التظاهرات المناوئة للرئيس تعليلا مسوغا لإسقاطه، ولو كان يحترم المبادئ والمنطق السليم لأسرع إلى المطالبة بإرجاع الرئيس المنتخب بالتعليل ذاته، لأن المظاهرات المناوئة للانقلاب العسكري شارك فيها إضافة إلى الشعب المحامون والأطباء والقضاة وضباط من العسكر أيضا، ويكفي أن بعض الضباط صعد يوم الجمعة إلى منصة رابعة العدوية مخاطبا المعتصمين، أم "قضاة من أجل مصر" فأصدروا بيانا منددا بفعل العسكر، وارتقى أحدهم (رئيس محكمة الاسكندرية) إلى منصة الاعتصام مخاطبا الحضور. فإذا كان الحضور المجتمعي المتنوع مستندا مشروعا لفعل الانقلاب، فإن الحضور المجتمعي الآخر مستند مشروع للانقلاب على الانقلاب. أما تشبيهه الحالة المصرية بما وقع مع البلاشفة فلا أعرف لذلك وجها للشبه، إذ ما هي القواسم المشتركة بين مرسي والقيصر ؟ أما تنبؤه بمشاركة الجميع في صياغة الوثيقة الدستورية المقبلة فتنبؤ لا يصدر عن إنسان ذي حس سياسي وماضي نضالي، إذ علامات الإقصاء الممنهج ظهرت للأستاذ النقيب منذ الدقيقة الأولى للانقلاب، حيث الاعتقالات والقتل وإغلاق القنوات المصرية وقطع البث عن بعض القنوات الفضائية غير المصرية، وما سيلي أعظم وأفظع. الأستاذ صلاح الوديع : لعل الصرامة المنهجية تمنعني من إيراد الأستاذ الوديع ومواقفه ضمن هذا المقال، على أساس أنه خاص باليساريين، وعذري في هذا الإيراد أن الأستاذ المذكور من قدماء اليساريين الذين احتضنهم المخزن بعد يُتْم، لهذه الصلة كان هذا الإيراد. كتب الأستاذ صلاح الوديع بعد إسقاط مرسي خاطرة أو شبه مقال ذكر فيه : "نعم، الشعب يريد الديمقراطية المدنية هنا والآن". غريب أن يصدر هذا الكلام من رجل ديمقراطي بامتياز (ينتمي إلى حركة لكل الديمقراطيين)، وكأن الديمقراطية ضربة ساحر يأتي بها (هنا والآن) مباشرة بعد تحريك خاتم، وهذا الكلام يدل على أن الأستاذ الوديع لا يعرف الديمقراطية ولا يفهم معناها، وقد يكون –في أحسن الأحوال - سمع بها. وفي الحقيقة، لا غرابة في تصريح الأستاذ الوديع. فهو ينتمي إلى حركة لكل الديمقراطيين، وهي جمعية تأسست هنا والآن. وهو ينتمي إلى حزب الأصالة والمعاصرة الذي أسس فريقه الانتخابي هنا والآن. لذلك يطلب من المصريين أن يستنسخوا تجربته هنا والآن. ثم زاد الأستاذ الوديع في هجاء مرسي : "نعم، الشعب لم يعد يطيق مرسي ولا حتى دقيقة إضافية"، هكذا يقول شاعر لكل الديمقراطيين عن رئيس منتخب بانتخابات حرة ونزيهة نازَل من خلالها الفلول بقوتهم اللوجستيكية والإعلامية والمالية ...، إنها الديمقراطية التي يود الأستاذ الوديع تنزيلها على أرض المغرب (اللهم حِفظك). لم يقف شاعر لكل الديمقراطيين عند الهجاء فقط، بل ارتمى في أحضان المدح، وقال عن العسكري الانقلابي ما لم يقله فيه البرادعي، "يبدو السيسي رجلا ذا كاريزما، صادق القول"، فهل يقول هذا الكلام مناضل ديمقراطي ؟ ألم أقل إن حظ الأستاذ الوديع من الديمقراطية أنه سمع بها فقط ؟ حبذا لو اكتفى الأستاذ الوديع بما قال، لكنه تمادى وختم خاطرته بالقول : "ما يصدق على مصر يصدق على غيرها من البلدان التي تعرف التجربة الإخوانية بلا استثناء" !!! كلام واضح ينم عن استعداد صاحبه لاستعمال كل الوسائل غير الديمقراطية من أجل الإطاحة بخصومه من أصحاب التجربة الإخوانية. لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين .. لا ديمقراطيين بدون مبادئ.