كما أن هناك خصوصيات تميز ثقافتنا عن غيرنا من الأمم، من قبيل «الرجل الشرقي» و»المرأة الشرقية»، و»العقلية الشرقية» و»الثقافة الشرقية»، والتي سارت بذكرها الركبان، يمكننا، في أجواء موجة التقويم التي تشهدها ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا، أن نُغْني «قاموسنا الشرقي» بمصطلح جديد ألا وهو «الشرعية الشرقية». مناسبة هذا الكلام الذي أستهل به هذه المقالة، هو الجدل الدائر حاليا حول طبيعة ما يجري بمصر، وما إذا كان خروج جماهير المصريين عن بكرة أبيهم يوم 30 يونيو 2013، مطالبين برحيل الدكتور محمد مرسي، يعد ثورة مجيدة على نظام حكم غير ديمقراطي، أم انقلابا غاشما على الشرعية الديمقراطية، التي أتت بأول رئيس منتخب إلى سدة الرئاسة بأرض الكنانة. من خلال متابعتي لمختلف النقاشات والمناظرات التي تقدمها القنوات التلفزية المهتمة، أو عند قراءتي لبعض المقالات المتطرقة للموضوع نفسه، في مختلف الجرائد الوطنية وفي بعض المواقع الإخبارية، يمكنني تقسيم المتدخلين، محللين سياسيين و كتاب ومواطنين، إلى فئتين اثنتين: المؤيدون «للثورة» الذين يعارضون «حكم المرشد»، في مقابل المؤيدين «للشرعية»، وهم المعارضون «للانقلاب العسكري»؛ أي أن كل طرف يحمل في الوقت نفسه صفتين متعارضتين: «مؤيد» و «معارض»، بحسب موضوع معارضته أو تأييده، والذي يحدده الموقع الذي يتخذه من حكم الإخوان المسلمين، ومن تدخل الجيش في العملية الديمقراطية. بيد أن المصطلحات والمقولات المستعملة من طرف كل هؤلاء، في مقاربة التطورات السريعة التي تحبل بها الحياة السياسية المتسارعة في مصر، تحتاج في تقديري ، إلى وقفة تأمل أراها ضرورية، للوقوف على حقيقة ما يجري في «أم الدنيا»، كما يحلو للمصريين تسميتها، وذلك من خلال التدقيق في هذه المصطلحات والمقولات، وهذا ما أود التطرق إليه من خلال الملاحظات التالية: إن الانطلاق من مقولات نظرية بحتة، من قبيل مصطلحات «الشرعية» ، «الانقلاب العسكري»، «الثورة المضادة»، إلخ، وإسقاطها على الحالة المصرية، دون كثير حذر ولا مراعاة لخصوصية التجربة، يعبر في نظري عن نوع من الكسل في التحليل والقصور في النظر. على سبيل المثال، تستعمل كلمة «الشرعية» بصيغة المفرد المُعَرّف، إطلاقا هكذا، وكأنها تحيل على مدلول محسوم في دلالته، بحيث لا تحتاج إلى صفة أو نعت يخصص معناها، لكي تشير بدقة إلى الدلالة التي تستدعي استعمالها. والحال أن المقصود بلفظة «الشرعية»، التي كرس تداولها بهذه الصيغة الرئيس المخلوع محمد مرسي نفسه، في خطابه الشهير ليلة تنحيته، هو «شرعية صندوق الانتخاب»، باعتباره وصل إلى سدة رئاسة الجمهورية المصرية عن طريق انتخابات نزيهة، فاز فيها بنسبة %51,5 . بيد أن الحديث عن «شرعية الصناديق» لا يستقيم في تقديري خارج السياقات الخاصة التي أفرزته كمفهوم، أي في مناخ دولٍ استكملت بناء نظامها الديمقراطي، فصارت كل استحقاقاتها الانتخابية تجري بشكل منتظم، وتفرز حكومات ترتهن في تشكيلها واستمرارها أو رحيلها إلى أصوات الناخبين؛ حكومات تلتزم بمقتضيات دستور متوافق عليه بشكل مسبق، مستفتى بشأنه من طرف الشعب، لا يخضع في تأسيسه لمنطق الأغلبية، وينتج مؤسسات تمارس الأدوار الموكولة إليها بشكل روتيني. مما يفضي إلى حياة سياسية مستقرة، يشعر فيها المواطن بقيمته كمواطن، مما يدفعه إلى المشاركة في الحياة السياسية بكل ثقة، وهذا من شأنه أن يفضي إلى تطور وتقدم المجتمع والدولة والفرد. فهل يعكس هذا التحليل ما حدث ويحدث في التجربة الديمقراطية القصيرة لمصر الثورة ؟ لقد كان الرئيس مرسي أمام تحديين كبيرين في تقديري: 1 تحدي بناء الصرح الديمقراطي لدولة مصر بعد الثورة، وهذه مهمة تتطلب تجردا تاما عن أي انتماء لفئة أو جماعة أو حزب سياسي، أي أنها مهمة تتطلب التحلي بصفة رجل الدولة، بمواصفات تتعالى عن أية فئوية أو تحزب. 2 تحدي تدبير فترته الرئاسية بنجاح، كرئيس لكافة المصريين، وهنا مطلوب كذلك التحلي بصفة رجل الدولة. غير أن هذا التحدي لا يمنعه من استثمار نجاحاته لفائدة التيار الإسلامي الذي يمثله، وهذا أمر مرغوب حزبيا ومشروع سياسيا ، خصوصا وأن الحكومة التي تشتغل بجانبه ذات أغلبية إسلامية كذلك. بيد أن المتتبع لمسار فترة الدكتور مرسي القصيرة، يلاحظ خلطه بين التحديين المذكورين، ومحاولته تدبير التحدي الأول، المطلوب فيه التجرد عن كل انتماء كما أسلفنا، بمنطق حزبي ضيق. لقد أدخلته أولويات سياسته منذ الوهلة الأولى في مواجهات مع القضاء والشرطة والإعلام والجيش، مما يبرهن عن توجهه نحو السيطرة على كل المجالات المرتبطة بالسلطة، وذلك بموازاة إغفال القطاعات الاجتماعية، المرتبطة بالفئات الفقيرة والمتوسطة الداعمة للثورة، والتي لم تكن لتستحمل مزيدا من الانتظار، مما جعل المصريين يتخوفون حتى من أن يستكمل فترته الرئاسية، بالنظر إلى وتيرة مبادراته السياسية البعيدة عن المنهجية الديمقراطية، بهدف «التمكين لحكم الإخوان»، بتوجيه من المرشد، كما تدل على ذلك كل المؤشرات، والتأسيس بالتالي لديكتاتورية جديدة بغطاء دستوري. فعن أية شرعية يتحدث المدافعون عن الرئيس المخلوع بعد كل هذا؟ لكل ذلك جاءت ثورة 30 يونيو 2013 كتصحيح لمسار ثورة 25 يناير 2011 . لكن الأمر المستجد هذه المرة، هو التدخل السريع للجيش، وانحيازه للثوار، مما جعل الكثير من المتتبعين يتحدثون عن «انقلاب عسكري» . مرة أخرى، لا ينتبه مروجو مقولة «الانقلاب العسكري» إلى أنه، في الحالة المصرية، لا يكفي الانطلاق من التعريف المقتضب الذي تتحدث عنه كتب السياسة عن الانقلاب العسكري، والذي يُعرّف نظريا باعتبار أنه «تدخل للجيش في الحياة السياسية» حتى نحيط بحقيقة الدور الذي قامت به القوات المسلحة المصرية، بوقوفها في صف الثوار. ذلك أن الانقلاب العسكري غير النظري، كما مورس في العديد من الدول الأفريقية والأمريكية اللاتينية، يقوم به ضباط أو جنرالات بشكل مفاجئ ، ضد أنظمة مستبدة على العموم، أو ضد ديمقراطيات ناشئة، كما في حالة الشيلي 1973 ، ويُتوّج بحكم عسكري قد يطول أو يقصر، أو تُنصّب بعده حكومات مدنية يتحكم فيها العسكر من وراء الستار. فهل يصدق هذا التحليل على الحالة المصرية؟ كلا، وقد شاهدنا بأم أعيننا كيف استطاعت حركة «تمرد» أن تجمع حولها فئات عريضة من الشعب المصري المخذول من طرف الإخوان، والذين خرجوا عن بكرة أبيهم في تظاهرة حاشدة نالت إعجاب كل المتتبعين، في يوم مشهود سيبقى خالدا في الأذهان إلى أبد الآبدين. وحيث أن الإخوان المسلمين هم الفصيل الأكثر تنظيما في الساحة السياسية المصرية بعد الثورة، وباعتبار وجودهم على رأس السلطة، سواء في بعدها الرئاسي أو الحكومي، ورهانهم على إتمام فترة انتدابهم لاستكمال هيمنتهم على مفاصل الدولة، فإن انحياز الجيش للثورة، باعتباره القوة الوحيدة المتبقية التي في استطاعتها إيقاف مسلسل «الأخونة» الممارس على أكثر من صعيد، وإرجاع الأمور إلى نصابها، لا يمكن اعتباره انقلابا عسكريا، بل ممارسة لمسؤولية تاريخية فرضتها عليه ظروف الثورة، إذ جعلته يقوم بدور الحكم، ضد تغوّل جماعة دينية ذات تصورات إقصائية، على باقي فئات المجتمع، تحت غطاء «الشرعية» . وأعتقد أنه بالنظر إلى واقع الأمور في بلدان الثورة عموما، وكذا في دول الانتقال الديمقراطي، التي تتميز بهشاشه مؤسساتها، يمكن، بل يجب أن تكون للجيش أدوار انتقالية تنتهي بانتهاء الحاجة إليها؛ وهذا الدور الذي قام به الجيش المصري يذكرنا بالدور التاريخي الذي يقوم به نظيره التركي لحماية مبادئ الجمهورية التركية الحديثة، منذ تأسيسها من طرف مصطفى كمال أتاتورك سنة 1924 . ثم إن الجيش المصري وضع رزنامة مدققة لتدبير الفترة الانتقالية بعد ثورة 30 يونيو، بعد مشاوراته مع القوى الفاعلة في الساحة السياسية المصرية حاليا، من شباب حركة تمرد و جبهة الإنقاذ والكنيسة والأزهر و حزب النور السلفي، في أفق إرجاع قطار الديمقراطية إلى سكته الصحيحة، بعد كتابة دستور جديد يعبر عن آمال وطموحات كافة فئات الشعب المصري، واستفتاء المواطنين حوله. فهل فعل الرئيس المخلوع شيئا من هذا القبيل؟ وعن أي انقلاب عسكري يتحدث مؤيدوه؟ غريب حقيقة أمرُ من يتبنى عقائد سياسية لا تؤمن بفصل السلط، ثم يأتي في الأخير ويتحدث عن حكم العسكر ! غريب حقا أمر من حصل بالكاد على نسبة 51,5 %، وينعت ال48,5 % الآخرين بأقدح النعوت، ويمارس صلاحياته بغرورِ وعنجهية من حصل على نسبة 99,99 % سيئة الذكر ! ثم يأتي بعد ذلك ويتحدث عن الشرعية. لعمري إنها بحق و بامتياز «شرعية شرقية»! *أستاذ باحث ومترجم