1 - ما من شك في أن مدينة طنجة المغربية أضحت في العقد الأخير القطب الاقتصادي الثاني بعد مدينة الدارالبيضاء الكبرى ، بفضل الاستثمارات و المشاريع العملاقة التي شهدتها ، و المقاربة السياسية الحديثة التي فطنت لإمكانات مدهشة تتوفر عليها ، بحرا و أرضا و موقعا و تاريخا ! مما جعلها محط أنظار المعنيين بعالم المال و الأعمال ، فأضحت المدينة ورشا كبيرا و بؤرة للدينامكية التجارية و العقارية قل نظيرها في تراب المملكة ، و معلوم أن المسؤولين المغاربة يراهنون على الامتياز اللوجستيكي للمدينة ، فهي معبر للربط بين أوروبا و المغرب و أفريقيا ، و ممر بين البحرين الأبيض المتوسط و المحيط الأطلسي. و لعل مشروع ميناء طنجة المتوسطي و المنطقة الصناعية الكبرى و الاستمرار في إنجاز التجهيزات على مستوى البنية التحتية بالمعنى الشامل .. كل ذلك جعل هذه المدينة الساحرة تلعب دورا محوريا كقاطرة للتنمية الوطنية و المبادلات التجارية فائقة الأهمية .و لان هذه المشاريع الرائدة لا يمكن أن تعطي أكلها و تعود بالخير الملموس على الساكنة إلا بعد سنوات ، فقد عبر المواطنون غير ما مرة عن امتعاضهم و تبرمهم من الانتظارية المؤلمة ، و لعل ذلك من ضمن الأسباب التي جعلت مدينة البوغاز تشهد مسيرات شعبية حاشدة منددة بإسقاط الاستبداد و الفساد ،متؤثرة في ذلك بما تشهده المنطقة العربية من انتفاضات شعبية هادرة ، فقد وجد الطنجويون أنفسهم أمام وضعيتين متعارضتين : استثمارات هيكلية غير مسبوقة لم تحدث أي تغيير إيجابي في حياتهم الواقعية إلى حد الآن ، و غلاء مخيف للمعيشة يكاد يقض مضجع مختلف الفئات الاجتماعية . 2 - غير أن البعد الكمي للحراك الشعبي الذي تعرفه المدينة في نهاية كل أسبوع لا يعكس بالضرورة وعيا سياسيا رفيعا ، وفهما لطبيعة السياق الوطني و الدولي بالغ التعقيد و التركيب ، خاصة بعد أن أبانت المملكة المغربية عن قدر غير يسير من الجرأة و الذكاء السياسيين ؛ المتمثلين في إحداث إصلاحات عميقة من قبيل ؛ تغييرات دستورية لا يستهان بها و الدعوة إلى استحقاقات برلمانية سابقة لأوانها و تغييرات سياسية و حقوقية و ترابية .. رغم محدوديتها إلا أنها يمكن أن تكون منطلقا حقيقيا لتغيير بنيوي تدريجي و عقلاني . إن المتأمل للراهن السياسي و المجتمعي لهذه " المدينة الدولية " يدرك بسهولة أنها تعاني من عدد غير قليل من مظاهر القصور و الضعف ، فهي من ضمن المدن المغربية القليلة التي ابتليت بنزيف أبنائها المتنورين و هجرة مثقفيها الذين برهنوا على كفاءتهم و تميزهم في مجالاتهم المعرفية و السياسية ، كما أنها كانت عرضة للتهميش القسري و الإقصاء التنموي في العهد السابق ، مما فوت عليها فرص الارتقاء و التحديث و العصرنة .. بالشكل المطلوب ، و لعل عددا من المتتبعين و المهتمين بمصير و آفاق هذه المدينة المفتاح ، يرجعون الحضور المكثف لجماعة العدل و الإحسان و بعض التوجهات الدينية المتشددة و التيارات الحزبية المتطرفة و الراديكالية في الحراك العشريني ، إلى ضعف التأطير الثقافي المنفتح على القيم الكونية و المتشبع بمفردات الفكر العقلاني و المنجز الإنساني العلمي ، و انزواء خيرة أبناء المدينة و شبابها المتعلم و ابتعادهم عن الأضواء بداعي عدم إمكانية و جدوى مجابهة قوى الظلام . 3 - و نحن إذ نقر بمشروعية الاحتجاجات السلمية والحضارية ، و المطالبة بإسقاط مختلف أوجه الفساد و الاستبداد و محاكمة ناهبي المال العام ، و محاربة كل أشكال الريع الاقتصادي و السياسي .. و نعترف بالحيوية المذهلة التي أضفتها الحركة العشرينية الأصيلة على الجسم السياسي المترهل ، فإننا ندعو في الآن عينه إلى التبصر و الأخذ بعين الاعتبار مقومات الأمة المغربية و مقدساتها التي لا تخفى على أي مواطن حصيف : الإسلام المعتدل و الملكية الديمقراطية و الوحدة الترابية . كما أن الأرضية التأسيسية لحركة 20 فبراير و الداعية إلى تغيير نمط الحكم من ملكية دستورية إلى ملكية برلمانية من شأنها أن تكون مهماز الربيع المغربي ؛ ربيع الديمقراطية كما هو متعارف عليها دوليا ، إلا أن الملكية البرلمانية التي تكون فيها السلطة و السيادة بيد الشعب تظل أفقا نسعى إلى إنجازه تدريجيا بعد انتخابات برلمانية حرة و شفافة و استئناس بروح الدستور الجديد و الإصرار على مواصلة نشر الوعي السياسي و تبيئة مستلزمات الديمقراطية . و في هذا السياق يمكن لعشرينيي طنجة الذين لم ينبطحوا للمتاجرين في العدم أن يقدموا لمدينتهم خدمة مفصلية في هذه الفترة التاريخية بالغة الحساسية ، و هي فضح كل الفاعلين السياسيين الفاسدين و التنديد الممنهج بكل المسلكيات المنحطة و الدينصورات الانتخابية و ما أكثرها و تجنب السقوط في المحظور ، من قبيل تريد شعارات دراماتيكية مزيفة و دعوات انفصالية و نزعات عنصرية مقيتة ؛ تتنافى و منطق القرن الحالي . على المواطنين الطنجويين و كاتب هذه السطور واحد منهم أن يرفعوا التحدي و يكونوا في الموعد من أجل الدفاع عن العدالة و الكرامة و الحرية و العمل حتى رحيل كل من أساء إلى هذه المدينة الخالدة ، و عاث فيها فسادا و استبدادا ، لتسترجع ألقها و تعيد بهاءها الاسطوري!! * باحث في قضايا الفكر و السياسة