لوحظ في الآونة الأخيرة أن الأزمة العالميّة تحتدِم. وقد انتقلت آثارها بشكلٍ قاسٍ إلى الاقتصاد الحقيقيّ، مولّدةً انهياراً (وليس انخفاضات وتراجعات بسيطة) في الاستهلاك والإنتاج والاستثمار والتجارة العالميّة. فقد أشار صندوق النقد الدولي في تحديثٍ أخير لتقريره حول تطلّعات 2009، أنّ الإنتاج الصناعي العالمي قد هوى ب13% في نوفمبر الماضي، وقيمة الصادرات العالميّة للسلع بأكثر من 42% [1]. وقد حذّرت منظّمة العمل الدولية في تقاريرها الأخيرة من تسارع معدّلات البطالة (مع فقدان وظائف بالملايين في الولاياتالمتحدة وأوروبا، وعشرات الملايين في آسيا)، معلنةً على مقدّمة موقعها أنّ «الخشية تتصاعد حول توازن وعدالة واستدامة عولمةٍ أوصلتنا إلى الانهيار المالي» [2]. بل أنّ أحد مراكز الأبحاث قد أطلق نقاشاً واسعاً بعد نشره تحليلات عن إمكانيّة "إفلاس" بريطانيا والولايات المتّحدة خلال صيف 2009، من جرّاء عقم سياسات "الإنعاش" الحالية، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تفكّكٍ للولايات المتّحدة(!)، وللجغرافيا السياسية العالميّة[3]. وما زاد من حدّة النقاش أنّ هذه التوقّعات، التي يمكن اعتبارها "مبالِغة"، جاءت من المراكز البحثيّة النادرة التي توقّعت بالذات الأزمة الحالية.... ومنذ عام 2006، وأنّ مسؤول الأمن القومي في الإدارة الأمريكيةالجديدة قد صرّح أنّ «عدم الاستقرار الذي خلقته الأزمة قد أصبح أهم خطرٍ يواجه الأمن القومي الأمريكي، يتخطّى خطر الإرهاب» [4]. معظم الحكومات العربيّة لم تعُد تنكُر الأزمة وتأثّرها بها. إذ مع غياب المعطيات الدقيقة في أغلب الأحيان (مقارنةً مع البلدان الأخرى) لتتبّع ما حدث فعلاً في الفصل الأخير من 2008، بدأت بعض المؤشِّرات ذات الدلالة تلقي بظلالها: انهيار البورصات العربية، تراجع إيرادات قناة السويس 17% في ثلاثة أشهر بعد أن كانت تنمو بوتيرة 16% سنويّاً، تراجع تحويلات العمّال المغتربين[5]. بل ما هو أجدى كان صراخ الصناعيين والمصدّرين، هنا وهناك، على ضعف التصنيع والتصدير المصنّع العربيين، أمام الحكومات والسلطات السياسيّة. بعضهم فقد أسواقه، وآخر يجد صعوبات في تمويل الصادرات، ثمّ ذلك الذي بدأ يواجه السياسات الحمائيّة في الخارج، أو الذي يواجه أمري الأزمة وسياسات "التحرير الاقتصادي" الداخليّة مجتمعةً دون القدرة على التكيّف، أو الذي فقد أمواله المتراكمة في البورصات المحليّة أو العالميّة. حتماً تلقى تلك التذمّرات صدىً، ليس فقط لدى الحكومات والوزراء، بل أيضاً لدى السلطة العليا التي فقدت هي أيضاً الكثير ممّا كانت تراكمه لشراء الولاء، إذ أنّها هي أيضاً تستخدم نفس النظام المالي العالمي لاستثمار "إيراداتها"(!). بعض الحكومات العربيّة، خطّطت، بل بدأت بتنفيذ خطط إنعاشٍ اقتصاديّ. ولكنّ يمكن طرح التساؤلات حول منطق وفعاليّة خطط الإنعاش هذه. بل يمكن أيضاً طرح إشكاليّة الأزمة وخطط الإنعاش على تطوّر الاقتصاد السياسي في البلاد العربيّة، أي الصراع أو "العقد" الاجتماعي لاجتياز الأزمة والخروج منها؟ الباب الأوّل لهذا الطرح: ماليّ. إذ لا يُبنى الاقتصاد السياسي العربي على "دولةٍ" قويّة تعتمد على اقتطاعات ضريبيّة ملحوظة (من الناتج المحلّي) تقوم بتوزيعها وبضمان السلام الاجتماعي. وإذا ما انخفضت "الريوع" الآتية من صادرات المواد الأوليّة ومن السياحة وتحويلات المغتربين، فمن أين تأتي "الدولة" بقفزة في الإيرادات لإطلاق برامج إنعاشٍ ملحوظة يكون لها تأثيرٌ فعليّ؟ هذا في ظلّ ضعف إمكانيّة الاستدانة "السياديّة" عالميّاً، كما من المصارف المحليّة. ليس أمامها سوى زيادة الرسوم الجمركيّة على الواردات (أي العودة إلى الحمائيّة) وزيادة الضرائب على الخدمات (ومن بينها الهاتف النقال، أحد أكثر القطّاعات ريعيّةً). لكن كلا الأمرين سيفرضان مواجهةً بين الدولة وأصحاب الريوع الأساسيّة المرتبطين عضويّاً بالسلطة العليا. الباب الثاني اجتماعي. ففي حين تشير منظّمة العمل الدولية إلى أنّ البلدان العربيّة «ما زالت تعرف أعلى معدّلات البطالة في العالم»[6]، وحيث تعاني الكثير منها أكبر نسبٍ من الفقر (والمناطق غير النظامية دون خدمات في المدن)، وحيث تأتي تحويلات المغتربين لأقربائهم كشبكة الحماية الاجتماعية الأولى التي منعت (حتّى الآن) انفجار السخط الشعبي، ما هو منطق برامج الإنعاش الذي سينقذ هذه البلدان من اندلاع التوتّرات؟ ونعود إلى الإشكالية المالية، ولأنّ في الكثير من الحالات هناك مشاكل "توريث" لسلطة هَرِمَت، ولأنّ الأزمة تأتي أيضاً على الريوع وعلى التوازن بين اللاعبين في السلطة. وبما أنّ معظم الحكومات العربيّة هي "تكنوقراطيّة"، أي دون شرعية سياسيّة واجتماعيّة حقيقيّة؛ جيء بها أصلاً لتحرير التجارة ولخصخصة الاقتصاد ومنح الإعفاءات الضريبيّة ومسايرة الاحتكارات الريعيّة، فكيف تقلب هذه الحكومات إذاً سياساتها رأساً على عقب؟ ومن أين تخلق لنفسها قاعدةً اجتماعيّة لمرحلة مواجهة الأزمة الحسّاسة؟ إذا صدقت التوقّعات، وكما في كافّة البلدان الأخرى، ستضع الأزمة مجمل منظومة الاقتصاد السياسي التي تقوم عليها البلاد العربيّة على المحك؟ وسترتفع أمام آثارها أصوات العاطلين والفقراء والمشتغلين في أعمالٍ هشّة، وحتّى أولئك المشتغلين النظاميين لتدنّي الدخل المتاح. ويمكن أن تندلع انتفاضات اجتماعية كبيرة. ويبقى على القوى الاجتماعية والسياسيّة في هذه البلدان، وعلى القوى الاقتصادية أيضاً وكثيراً، أن تأخذ العبر من التاريخ ألاّ تذهب الأمور حرائق وفوضى. بل أن يتمّ استغلال "فرصة" الأزمة لإرساء أنظمة اقتصاد سياسيّ أكثر اجتماعيّةً وأكثر "تعاقديّة". المراجع : [1] راجع: http://www.imf.org/external/pubs/ft... [2] راجع: www.ilo.org [3] راجع: www.leap2020.eu [4] راجع صحيفة "نيويورك تايمز"، 14 فبراير 2009. [5] يقدّر البنك الدولي أن التحويلات الصادرة من بلدان الخليج العربي ستنخفض 9% في 2009، مقارنةً مع زيادة 38% في 2008. ولا تشّكل التحويلات من الخليج سوى حوالي 40% من تلك القادمة إلى البلاد العربيّة المصدّرة للعمالة، ويأتي الباقي من أوروبا والولايات المتّحدة اللتان تعيشان حدّة الأزمة أكثر من الخليج. [6] مع العلم، أنّ حسابها للبطالة يعدّ العاملين في القطّاع غير النظامي (بين ثلث ونصف المشتغلين في حالة البلدن العربية) كمشتغلين. ذ. محمد عادل التريكي رئيس ومدير التحرير لمجلة ال البيت