لقد تعددت مرجيات الخطاب، وتعدد هذا الأخير كذلك، وكثُرت المدارس التي استقرّت على خطابٍ دون غيره، وثارت غائلة العديد من مُنتقدي خطابِ هته المدرسة وروّادها على حِسابِ مدرسة أخرى وأتباعِها، وازدانت أرصِدة مشاريع الخطاب الحديث بأرصدة المنخرطين في صفوفه والمُروِّجين له في الداخل والخارِج. وإن رصداً أوّليا لإحداثيات تطوّر الخطاب الإسلامي من مقولاته الأولى التأسيسية مروراً برجالات التنوير العربي من مُختلف التيارات التي غَذَّتْهُ وأضْفَتْ عليه مقولات وتفسيراتٍ مواكِبة لكل عصر، وبالنظر إلى الإضافات البارزة هنا وهناك، يبدو للمتتبِّع أنّ الخطاب العربي – الإسلامي قد بَصَمَ سياق كل مرحلة تَوَاجَدَ فيها ببصمات الجِدّ والتأصيل لنماذج بديلة، والنّفاذ إلى عمق الإشكالات القائمة، ومُساجَلة أنواع الخطابات الأخرى، والمُساهَمة في إنتاج خطابٍ غير منفصِلٍ عن نبضِ الأمّة وغير مُنَْبتٍّ عن مسيرتها ولحظتها، ومِن ثمّ تحوّلاتها التي يدلِفُ بها نحو منعطفاتٍ قدَرِية وبشرية تحتاج فيها إلى خيرة عقول رجالها ونساءها، وإلى خطابٍ مُسايرٍ، ناهضٍ، راشد. وفي مُحاولةٍ منّا لتجلية أبعاد التموقع الصحيح للخطاب العربي الإسلامي في مُعادلات التحوّلات الراهنة، وقُدرته على بصْمِ المرحلة بأجوبة جسورة، مُنقِذة من ضلال التبدّلات والقضايا الشائكة التي تعرِض للمجتمعات العربية – الإسلامية فيما بعْدِية الربيع الديمقراطي؛ فإننا نتناول بالمُدراسة المتواضعة راهِن الخطاب العربي الإسلامي، وأفُقَ التّغيير المنشود، وذلك ِوفق العناصر الآتي ذكرها. 1_ السياق التاريخي لبروز وتطوّر الخطاب العربي – الإسلامي: تتحدّد قيمة البحث عن الإضافات النوعية لمسيرة وتأثير الخطاب العربي الإسلامي في الواقع الفكري والأكاديمي والاجتماعي والسياسي للأمّة بمعرفة مساره التاريخي ومنعرجاته والتحديات التي أحاطت به، أو حتّى إن تحوّطنا القول، فبالإحاطة علما بأبرز محطّاته وروّاده ومساحات تأثيره وتأثُّراته كذلك. فأوّل ما يُطالِعنا عند ذكر السياق التاريخي للخطاب العربي الإسلامي هو التأكيد على أمر ذي بال، يتعلّق بكون مسيرة الخطاب العربي ما كانت لتُمأسس ولا لتتطوّر وتؤثّر وتتدافعَ لولا تبنِّيها من قِبَلِ مجموعة من الحركات الإصلاحية والدعوات الملتزمة بخطّ السلف والتي قدّمت الكثير لليقظة الإسلامية في إبّان انطلاقتها. وبدافعٍ من ضغطِ السياقات الدولية والمحلية التي كانت تُحيط بتلك الحركات (التي هي في الأصل حركات ذات فكرة وخطاب إصلاحِيين)، تلك الضغوط التي تمثّلت أساسا في: الحملة الغربية على دار الإسلام، وانطلاق الغرب المُعادِي في استئناف مسار أربع قرون من الاستعمار، إضافةً إلى سُقوط الخلافة العثمانية، ظهور الخطاب السياسي المُبَدّل، حَظْرُ ثالوث (الخلافة، الشريعة، الجهاد)، شيوع موجة الإلحاد في العالم الإسلامي، وانوِلاد جواب الحركة الإسلامية الذي كان شموليا في البدء متمثِّلاً في مُفردة " النّهضة " . فركّز خطاب الحركة الإصلاحية في نأنأته الأولى على فرضيات وضعها نُصب عينيه، تتمثّل الفرضية الأولى في : ضرورة العودة للإسلام كمدخل لنهضة الأمّة، والفرضية الثانية تتعلّق بواجب الانتماء والالتزام بإسلام السّلف الصالح، أمّا الفرضية الثالثة فأصرّت على أنّ " الإسلام هو الحل "، لتؤكّد آخر الفرضيات على اعتبار الدولة أداة رئيسية لتحقيق الأهداف (مع استحضار "تديين الدولة " أو " ضرورة الدين للدولة، أنه لا دولة بلا دين "). فظهرت في أرجاء المعمور حركات إصلاحية وأخرى ثورية (حركة أحمد الشهيد في الهند، حركة الإمام منصور كامل في آسيا الوُسطى، حركة بن فوديو في غرب إفريقيا، حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حركة مُصطفى كامل في مصر، حركة الجامعة الإسلامية..) الجامع الناظم بينها " خطابٌ عربي إسلامي " له خصوصية الطرح والبدائل والوسائل والطّرائق الإجرائية، دون أن تكون مُعزّزة بذلكُم الكمّ المُقدّر من رجال الفكر وبُناة التًّصورات وقادة المُراجعات. فَبَعْدَ مدٍّ وجزر في الأداء، ومُدافعةً مع خصور الاستقلال والسيادة من الغُزاة والبُغاة، وامتِشاق سلاح المُقاومة لدحر الاحتلال؛ انبرت مجموعة من الكتابات التأسيسية داخل خطّ الحركات الإصلاحية مُعزِّزَةً جوانب الخطاب الإسلامي، ومؤسِّسة لأبعاد التجديد الفكري وخيار الإصلاح، فانبرى جيل من الكَتَبَة والفاعلين من أمثال (الأفغاني، وعبده، ورشيد رضا، عبد الله النّديم، رفاعة الطهطاوي، مُظفَّر محمود، وضياء الدين الرّيس، وحسن البنّا) ومن اللاحقين (خير الدين التونسي، البشير الإبراهيمي، عبد القادر عودة، سيد قُطب، الطاهر بن عاشور، باقر الصدر، علي شريعتي، رفيق العظم، عبد الحليم أبو شُقّة، محمد الغزالي، عبد السلام ياسين، فتح الله كولن،..) فأثْرت الساحة الفكرية والاجتماعية والسياسية بمقولات وسِجالات ومُقترحاتٍ أثٍّرت في التاريخ الصغير والكبير، وأعطت دُفعات قوِية للخطاب الإسلامي ليس أقلُّها لفت الانتباه إليه من طرف فلاسفة ومُفكِّري الغرب (أنظر كتابات أنتوني بلاك)، وقادةُ الحركة القومية ونُظراؤُهم من التيارات الأخرى، فاشتعلت ساحة المُدافعة على شتّى الصُّعُد والمناهِج والبرامج. لكن جملة تلك المُمكِنات التغييرية التي أحدثتها الحركة الفكرية والعِلمية لهؤلاء المفكرين، ومحاولاتهم الارتفاع بمواقع الحركة الإصلاحية وبإشكالات الواقع العربي والإسلامي من سؤال التدبير اليومي إلى سؤال الرهان الاستراتيجي، وقَوْدُ الفكر الراهن (يومئذٍ) للتفكير في المُستقبل، لا يُعفي من الاعتراف بجوانب النقص والعجز التي طَبَعت خطاب الحركات الإصلاحية الإسلامية، وتجمُّدَه عند نُخب كُفئة دون اختراقه للسبيكة المُجتمعية، ممّا حال دون أداءه للفاعلية الاجتماعية المطلوبة على حدّ تعبير مالك بن نبي رحمه الله، زيادةً على عجزه عن فهم مُتغَيِّرات المراحل التاريخية التي وُجد فيها (إشكالات الأنظمة السياسية العربية، ماهية الدولة، إقامة الدين في الدولة قبل المجتمع، التكتلات العالمية..) فأضحت جهود القائمين عليه وبِه تماماُ كما وصف المرحوم أبو القاسم حاج حمد في العالمية الإسلامية الثانية، صفحة 261 ".. إنهم أصوات الماضي تُبعَثٌ في الحاضِر " ! 2 _ مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر؛ رؤية غنّوشية: لا مندوحة من التنويه بأنّ هذا المقال لا يضطلع بمهمّة تقييم قرن من ميلاد الحركة الإسلامية الإصلاحية، ولا يُثبِتُ أو ينفي خُلاصات الإضافة النوعية لها، بل كلّ غرضه المُساءلة الموضوعية التي تمنَحُ المشروعية للمقولات والخطابات_ كما التّبريز الموضوعي _ للخطاب العربي الإسلامي في التجربة العربية والإسلامية، والسعي لفهم مدى تحقُّق مُخرجات الفرضيات التي سطّرتها القوى الإصلاحية منذ البدايات الأولى للفكر والمُمارسة الإصلاحيين وانتهاءً بمخاض التحول الديمقراطي في المنطقة العربية منذ مطلع 1433ه / 2011م. وسعْياً إلى جعل الآتي من البسْطِ لهذا الموضوع أكثر تخاصِّية نقفُ على تجربة معاصِرة لخطاب إسلامي عربي معاصِر، له من المُكْنَة والدُّربَة والامتداد ما يجعل الاستناد عليه عند انتقاد الخطاب الإسلامي وإبانةِ مشاكِله محموداً وعلى درجة من الصِّدقية والصّحة. يحرص المثقّف النبيل الأستاذ راشد الغنوشي حفظه الله على إيراد نُقطتين أساسيتين عند حديثه _ ابتداءً_ عن أبرز مُشكلات الخطاب الإسلامي المُعاصِر، فيؤكّد على أنّنا _ ونحن نقيِّم وننتقد ونَضَع الخطاب الإسلامي على مِشرحة الجراحة _ : - لا نكون مَعنيين إلا بالحديث عن جانب الخلل ومُركّبات النقص؛ وإلّا فلا يُنكِر أحدٌ من المُنصِفين جوانب النجاح وميكانيزمات التفوّق التي جعلت منه خطاباً مقبولا عند شرائح عديدة من شعوبنا، وهيّأته ليضطلِع بقضايا النّاس وتطلُّعاتِهم للحرية والعدل..؛ - لسنا معنيين بالحديث عن كل أنواع هذا الخطاب، وإنما معنيون فقط بالكلام عن صِنف واحد هو " خطاب التيار الوسطي " في الحركات الإسلامية. ينسجم هذا التوضيح مع ما أشرنا إليه في مُستهلِّ هته المقالة من حِرصنا على مناقشة نوع من أنواع الخطاب الإسلامي، ذاك الذي اختيار من ضمن توجّهاته واختيارته " الاعتدال والوسطية والمُشاركة ". فما هي أبرز جوانِب الخلل في هذا الخطاب؟ يرصد الغنوشي جملة من ميكانيزمات الخلل التي عانى أو يعاني منها الخطاب العربي الإسلامي الوسطي _ نقتَصِر على الآتي منها _ فيذكُر: - هو خطابٌ تغلب عليه المَنازِع القطرية ومُعضلة التّجزئة: حيث استطاع الغرب المعادي في بدايات القرن الماضي تنظيم مؤتمرات بَسَطَت على جدول أعمالها تقسيم تركة الرجل المريض (اتفاقية سايكس – بيكو (1916)، وعد بلفور (1917)، معاهدة سيفر (1920)، معاهدة سان ريمو (1920)، الانتداب البريطاني..) ومِن ثَمَّ إعادة التّشكيل الاستعماري للعالم العربي بتقطيعه إلى دُويلاتٍ وتجزئته إلى أقطار(العراق، سوريا، لبنان، الأردن، مصر، تونس،..) وعزّزت هذا الواقع دولة ما بعد الاستقلال، منتوج الإرث الإمبريالي، وقد عانت في ظِلّ الدول القُطرية محاولات القوى الثورية ومن بعدها الإصلاحية مِن إعادة لمّ الشمل ورأب الصدع، وتعالت أصوات الوحدة والتوحدّ والعُروبة من هنا وهناك، وحرص الخطاب العربي الإسلامي على جعل موضوع/مؤامرة التجزئة على طاولة محاوراته ومُساجلاته مع الغرب على المُستوى السياسي والاجتماعي والفكري. لكن؛ ولأسبابٍ موضوعية وذاتية لا مجال للتطرّق إليها، استمرّت عمليات التجزئة واتّسَعت، وتمَّ إلهاء كل قطر بقضاياه الخاصّة، وانعكس الوضع السياسي على الأحوال الفكرية والعِلمية للمجتمعات العربية والإسلامية، وانصبَغ الخطاب العربي بطابع المرحلة، وتعمّقت لديه (مع كل المحاولات التي كانت ترتدُّ إليه خاسئة وهو حسير) مَنازِع القُطرية وداء المحلي والميكرو على الماكرو قضايا . - هو خطابٌ يتضخّم فيه الجانب العَقَدي والتّربوي معزولاً عن مَحمُولاتِه المُجتَمَعية والسياسية: فشُعوراً بفقدان بوصلة السير على نهج السلف الصالح، وخوفاً من اكتساح الإيديولوجيات المادية الإلحادية لعقيدة الأمّة، واستِرشاداً بأدبيات المؤسّسين في الدعوة والتربية وإعادة التوازن الاجتماعي للمجتمع العربي الإسلامي، وسعياً لإقناع الفئات العريضة من الشعوب بفكرة الحركة الإسلامية وتوسيع قاعدة المتديّنين، وتفكيراً في كيفية إعادة تنزُّل الإسلام في القرن العشرين، وربما لسوء ترتيب الأولويات العملية والوظيفية في طبيعة الخطاب العربي وممارساته؛ طغى حُضور " الديني و العَقَدِي"، والاشتغال " بالمنهج الدعوي والتربوي والوَعظِي " غير الموصُولِ العُروقِ بمحمولاته الاجتماعية (الدين الاجتماعي؛ انظُر سورة الماعون)، فتمديد آثار التزكية والعقيدة والوعظ يجب أن لا يقِف عند مُستوى الالتِزام الفردي للفرد المُسلِم، بل يجب أن يتمَظْهَر في السلوك الاجتماعي لعموم المُواطِنين، وأن تنصَبِغَ به مواقِفه الاجتماعية والسياسية. فلا تشطير ولا تبعيض ولا عِظِينية ولا تمْسِيح في الإسلام، إنما هو إقامةُ للجانب الروحي والعَقَدِي، متلازِما مع الجوانب الاقتصادية والمُجتَمعية والسياسية، إنه إسلام الدولة والدين، الدين الحضارة، الدنيا والآخرة. - هو خطاب الزجرِ والعقاب، وطُغيانُ الفهم النّصِي للشريعة: هناك متلازِمة الاتصال بين ظهور خطاب الفصل بين الدين الروحي والدين الاجتماعي، خطاب تفريغ المحمولات الاقتصادية والسياسية (العدل، الحرية، الكرامة، الشورى، البيعة) من الإسلام؛ وطُغيان خطاب الزجر والعقاب، فعندما يضعفُ منسوب الخطاب القائم على التّثقيف السليم والتربية المتكامِلة والتأطير بالقدوة وإشاعة عواطف التغيير وتوفير الأساسيات والضروريات للشعب، والتفكير في الأجيال القادمة (إنّي أخشى أن يسألني اللع عمّن يأتي بعدي؛ وبِئسَ الوالي من قال: عليَّ من أمر الرعية ما يكون من عهدي، ثمّ لا يضرُّني ما يكون مِن بعدي ! _ عمر بن الخطّاب)، حينها يبزغُ صَنَم (إقامة الحُدود) والعقوبات والضّبط الرقابي والرّدع العِقابي، والفهمُ المُبَسْتَر للدين وأحكامه ومُقتضيات تنزيله. - هو خطابٌ يُعطِي الأولويات للظواهِر والجُزئيات والشّكلانِيات: قبل أن تهبَّ رياح التغيير وتحمل إسلاميي الوسطية وسلفيي المُشاركة إلى دفّة تدبير الشؤون العامة للناس؛ كانت بعضُ تلوينات الخطاب العربي – الإسلامي تُهمِل المقاصد الكُبرى والكُليات الأساسية للشرع؛ وتخوض معارك حول جُزئيات غير ذات بال (بالنظر إلى طبيعة المرحلة، حيث الاستبداد قد بلغ حناجر التسيير والتدبير بالمِنطقة، والفساد يُطبِق على العِباد والبلاد)، وشكلياتٌ إصلاحها لصيقُ الصِّلة بإصلاح الأعطاب الكبرى في بِنية الدولة ونَسق المجتمعات، من قبيل: (السفور، بيع الخُمور، دُور الحلاقة والتجميل، السينما والغناء)؛ رغم عِلم الحركات الإسلامية الإصلاحية أنّ معركتها منذ البداية كانت ضدّ التناقض المركزي متمثّلا في الاستبداد والفساد، وضِلع الفقر والقهر، والظلم والإقصاء، والتّضييق على الحُريات، وتجفيف منابع الإسلام ومحاربة رمزه.. إلخ. - هو خطابٌ وعظيٌّ تمجيديٌّ دِفاعيٌّ: كل شَيء يتحرَّك للتغلُّب على نقصِه الخاص؛ مقولة تُنسب للفيلسوف العملاق جورج هيغل، مفادها أنّ كل نقصٍ يقود لإنتاج سلوك ما، وأنّ التحرك للتغلب على ذلكم النّقص قد يكون تحرُّكا محموداً كما يمكن أن يكون مذموماً، فلئن كان تحرُّك الخطاب الإسلامي في ربع القرن المنصرِم لتغطية نواقِص (منها ما هو ذاتي، ومنها ما سبّبت فيه عوامل خارِجية) طبعت الإنتاج والممارسة الإسلاميين، فبِظُلمٍ من الأنظمة الاستبدادية وفجورٍ للمدّ الإلحادي، تحرّكت القوى الإصلاحية للتغلّب على نقص التواجد بالمؤسسات التشريعية لسن قوانين تحمي عقيدة الأمة من الهجوم والانحراف، أو للبثّ في قرار من القرارات الهامّة ذات الصلة بواقع المُجتمعات العربية، وكذا التحرُّك للتغلب على نقص التواجد بالجامعات والنقابات، والتحرُّك للتغلُّب على التغييب المُمنْهَج عن هيئات المجتمع المدني وتأطير المواطِنين وأحقية نشر الدعوة والدفاع عن الإسلام عبر القنوات الإعلامية؛ إلى ما غير ذلك من تحدّيات وصعوبات ضغطَت بالخطاب الإسلامي للانحشار في زاوية تمجيد الذات الإسلامية والدفاع عن النفس والمظلومية، فلئن سُمِح باعتبار هذا الأمر قائمَ الصلاحية التاريخية بالنّظر إلى الفترة السابقة، فإنّه لم يعُد مُستساغاً إدامَةُ اجترار ما تركه الآباء المؤسسين، أو التباكِي على اندراس معالم الإسلام هنا أو هناك نظراً للمتغيرات التي تجرُّها قاطرة ما بعد الحداثة وتُقحِم فيها مُجتمعاتنا العربية بفَجاجةٍ وعَنَتٍ؛ إنما المطلوب من الخطاب العربي الإسلامي الوسطي أن يُطوِّر مقولات المتن المؤسس للحركة الإسلامية (الإسلام هو الحل، جدلية الاستلزام بين النهضة والإسلام، ورطة السلفية، الوظيفة الدينية للدولة في السياق المعاصر، نوع التديّن المطلوب، الوظيفة المدنية والوظيفة الدينية للفاعل الإسلامي..)، وأن يُقيم وزْناً للدراسات الميدانية التي تعالج قضايا إنتاج الثروة وإعادة توزيعها، إنتاج القيم وإعادة توزيعها، إنتاج السّلطة وإعادة توزيعها، وقضايا الأوضاع التربوية والأسْرَوِية لِهذا البلد دون غيره، وأوضاعه الاقتصادية والسياسية والقانونية والتنموية، على غرار ما قدّمته التجربة التاريخية والحضارية للتيار السياسي الإسلامي في ماليزيا. تلك نُتَفٌّ من مُلاحظات نقدية لإشكاليات الخطاب الإسلامي المُعاصِر، ولا شك أنه لا زالت ثمّة جوانب أُخرى تتعلَّق بموقِع قضايا الفنّ والإبداع والدراما والسينما والإنشاد والثّقافة من خطاب وممارسة الحركة الإسلامية الإصلاحية الوسطية والمُشارِكة، إذ لا يرقى نصُّ المقال رهنَ الكتابة لاستِلال كل الإشكالات الظاهرة والكامنة والتي تحتاج إلى دراسةٍ مُفصَّلِةٍ قاصِدة، لكن وكما قال الشيخ الغنوشي حفظه الله " يبقى للكلام الصادِق المُسدَّدِ في اتّجاه العمل الصالح دوره في حركة التاريخ، باعتبار الإنسان كائنا ناطِقا، وباعتبار أنّ الخطاب الإسلامي هو اليوم أوسع الخطابات سماعاً، وكان قميناً بأهلِه وبِمن داخِلَه _ قبل غيرهم _ أن يفحصوا إشكالياته سبيلاً لتطويره من قبيل {وحاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا} "، والكلام _ كتابةً وقولاً _ يؤثّران إلى حدٍّ بعيدٍ في إنتاج الظاهرة الحضارية على حدّ تعبير فريد الأنصاري رحمه الله. (يُتبع..) عدنان بن صالح عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التجديد الطلابي [email protected]))