أطلق الربيع الديمقراطي طوراً جديداً في مسار المجتمعات العربية، ومرحلة مهمة لإحداث انتقالات أساسية في الشأن السياسي/ الثقافي، مما مَكن الحركة الإسلامية -الإسلام السياسي- من المشاركة في تدبير الشأن العام –المغرب- والحكم –في حالة تونس، والحالة المصرية، إنه طور من أطوار الحركة الإسلامية المعاصرة من خلال اختبار مقولاتها الإصلاحية وإخضاع رؤيتها النظرية لامتحان الممارسة والنظر في المداخل المعرفية التي تقارب بها مختلف القضايا التي تؤتث أجندة الدولة... إن الهاجس الذي يسكن الفاعل الإسلامي في هذه المرحلة، هو مدى قدرة دائرة البناء النظري العام الذي يؤسس عليها مقولاته السياسية والثقافية، في تقديم إجابات للأسئلة التي يكشف عنها تدبير الشأن العام والمشاركة في الحكم في دول مثقلة بتراث من الإرث السياسي/ العلماني الاستبدادي والاقصائي–حالة تونس، مصر-، والممارسات المخزنية الثقليدانية للحكم –المغرب- من جهة أولى، والتنوع الثقافي الذي تَحْفلُ به المجتمعات الإسلامية، والمعطي الإقليمي والدولي المعقد للمنطقة ككل من جهة ثانية؛ هذه المعطيات والمؤشرات تسمح بطرح جملة من الأسئلة على الممارسة السياسية للحركة الإسلامية المشاركة في العمل السياسي، ويمكن قراءة اجتهاداتها ضمن مؤشرين أساسين كمحدد منهجي في تلمس مدى استجابتها وقدرتها التنظيرية والفكرية في مواكبة التحولات الراهنة والمجتمعية، وتطوير أداءها التنظيمي –حالة الإخوان المسلمون-، وإمكانية الإسهام في حركة الاجتهاد والتجديد للخطاب الإسلامي عموما. أما المؤشر المنهجي الأول المرتبط بالارتهان للإمكان التاريخي لمرحلة البناء النظري لمسارها التنظيمي، وزمن المراجعات الفكرية التي صاحبت تياراً عريضاً منها، وقد توج هذا بما سار يعرف الآن "بالإسلام السياسي" وضمن هذه الدائرة نجد النموذج المغربي كتعبير واضح عن هذا الاتجاه. وبما أن شروط الوعي التاريخية السابقة التي تأسست عليها كثير من المقولات النظرية والفكرية للحركة الإسلامية طرأت عليها تحولات كبيرة، فإن الاهتمام يتجه – بحكم شروط الوعي الراهنة - إلى موضوعات أساسية أهمها (الفكر) الذي تستخلص منه (نظرية الإصلاح) والتي تشكل بدورها ضابطا لتوجهات وممارسات الحركة الإسلامية. ولذلك فسؤال الإمكان التاريخي للنظرية الإصلاحية –المقولات النظرية والتصورية للحركة الإسلامية وليس النظرية بمفهومها المعرفي- يراد من وراءه مسألة أفق التجربة الإسلامية اليوم؛ إذ الرهان السالف الذكر من أساسياته المنهجية تجاوز مقاربة أسئلة الحاضر بإجابات الماضي «الإمكان التاريخي» الذي شكل انعطافة مهمة في مراحل سابقة، لكن إشكالات اليوم التي تواجه تيار المشاركة السياسية للحركة الإسلامية، يتطلب مقاربات جديدة قادرة على استيعاب إفرازات منطق العمل التشاركي والاشتغال ضمن شروط "الربيع الديمقراطي". في حين المؤشر الثاني مرتبط بنماذج حية تعكس غياب نظرية كلية في الإصلاح عند الحركة الإسلامية، تستوعب جل المداخل الكبرى للإصلاح؛ كإشكالية الدولة الدينية والدولة المدنية، الحريات والجدل المستمر... وضمن هذا التأطير المنهجي ستكون قراءتنا للتطبيق النظري لبعض إجابات الحركة الإسلامية المشاركة من خلال بعض القضايا التي نحسب تحتاج إلى مقاربة جديدة تواكب متغيرات المرحلة. 1- الدين والدولة المهمة الباقية يتجه أغلب منظري الحركة الإسلامية (القرضاوي، رشيد الغنوشي، سعد الدين العثماني) والنخب الإسلامية الفاعلة إلى القول بالدولة المدنية عوضا عن الدولة الدينية؛ تجنبا للسقوط في مثالب الدولة الدينية –التيوقراطية واللاهوتية- وكإجابة طبيعية على تدافع العلماني مع أطروحة الحركة الإسلامية. إلا أن هذا التأسيس الذي شكل رؤية الحركة الإسلامية وضمنها حزب العدالة والتنمية في المغرب بمقولة الدين والسياسة تمييز لا فصل، هذا التقعيد الذي شكل الانشغال البحثي للدكتور سعد الدين العثماني طيلة سنوات المعارضة ومحاولة تقويض الدعاوى العلمانية التي تحاول الزجَّ بالإسلاميين المغاربة في معارك استغلال الدين في الدولة؛ حاول تقديم وجهة نظر شرعية أصولية لسؤال العلاقة بين الدين والسياسة من خلال كتابه الموسوم ب"الدين والسياسة تمييز لا فصل" الذي يقرر بأن القيم الدينية العامة هي مبادئ عامة للسياسة في حين الممارسة تستدعي الفصل يقول (الدين حاضر في السياسة كمبادئ موجهة، وروح دافقة دافعة، وقوة للأمة جامعة، لكن الممارسة السياسية مستقلة عن أي سلطة باسم الدين أو سلطة دينية) ص32: وهذه عنده في دائرة الإلزام أما التفاصيل والآليات الإجرائية المتعلقة بالمجال السياسي فهي عنده خارج دائرة الإلزام يقول الدكتور العثماني في ذلك(ومن جهة أولى لا يمكن بأي حال من الأحوال فرض قانون على المجتمع. وإذا كان الإسلام يقرر أن {لا إكراه في الدين}، والذي يعني أن الإيمان نفسه لا يجوز إكراه أي كان عليه، فمن باب أولى أن ينطبق الأمر على ما دون الإيمان في شعائر الإيمان وشرائعه. ومن جهة ثانية فإن إيمان المؤمن بوجوب أمر ديني عليه لا يعطيه الحق بفرضه على الآخرين، فهو مكلف به ديناً. وذلك لا يكفي لجعله قانوناً عامًّا في المجتمع، بل عليه أن يحاول إقناع الآخرين به حتى يتبناه المجتمع بالطرق الديمقراطية، فلا يمكن أن تعطى سلطة أو يعطى حاكم حق فرض أحكام على الناس بأي مسمى كان) ص40 لقد استطاعت أطروحة "الدين والسياسة تمييز لا فصل" تأطير النقاش الإسلامي لحزب العدالة والتنمية في مرحلة صعبة مر فيها الحزب، وشكلت سنداً فكريا له في طريق تدعيم النموذج المغربي، إلا أن معطيات المرحلة تجعل منها "مهمة باقية" تحتاج إلى إعادة النظر وبشكل خاص إذا ما استحضرنا؛ الإسلام، البيعة ، إمارة المؤمنين، وهي من الأسس الشرعية لنظام الحكم في المغرب، وهو ما يطرح على الحزب مجدداً إنتاج نخب وأطر تندرج ضمن سياقيه السياسي الثقافي وقادرة على طرح البدائل والإجابة على الإشكالات التي تعترض المؤسسة الحزبية في تدبير الشأن العام. فالإنتظارات الكبرى لمواطن ما بعد الربيع الديمقراطي، والأفق الذي تسعى الحركة الإسلامية المغربية –حركة التوحيد والإصلاح- أن تقدمه من أساسياته المنهجية في بداية المرحلة الجديد التوفر على مؤسسات بحثية تشكل سنداً داعماً وهو ما يعطي للخيرات الحزبية صلابتها الفكرية والتنظيرية، فالقضية لم تعد مرتبطة بمؤسسة حزبية وفقط إنما المسألة- بعد ما أصبح الحزب جزءا أساسياً في المعادلة السياسية في المغرب-، مرتبطة أكثر بتقديم بدائل اجتماعية واقتصادية للمجتمع المغربي من أجل إخراج المغرب من عنق الزجاجة وهو ما يعني بالنتيجة نحاج الخيار الثالث.. 2- الحريات الفردية والجدل المستمر.. لا طالما شكلت قضية الحريات الفردية الدائرة الأكثر استقطابا للأطروحة العَلمانية في مواجهتها للحركة الإسلامية؛ ولذلك لسببين: الأول ذاتي مرتبط بالنخب العَلمانية بالمغرب، إذ تفتقر إلى القوة الفكرية ومساحات اشتغال ثقافية قادرة على إنتاج بدائل سياسية واجتماعية، مما يجعل قضيتهم المركزية التدافع مع الآخر الإسلامي للاستمرار وضمان موقع قدم في القضايا المجتمعية ومحاولة خلق رأي عام في القضايا الخلافية، الثاني مرتبط بالحركة الإسلامية وضعف المنسوب الفكري لديها في قضايا الحريات فجعلوا من الهوية الإسلامية الإطار النظري العام لأي تدافع ونقاش لمسالة الحريات الفردية في الفضاء العام، هذا المعطي يفرض على الحركة الإسلامية اليوم الانتقال بمقاربتها إلى مستوى آخر يستوعب من جهة المعطي الديني كرافد من روافد الهوية المغربية، ويستوعب كذلك منطق التعددية ومختلف شرائح المجتمع من جهة ثانية. إن التراكم الحاصل إلى اليوم للممارسة السياسية عند الحركة الإسلامية، يعد قاعدة مهمة ينبغي استثمارها في أفق التجديد الشامل للإمكان التاريخي الذي أفرز اجتهاداتها، فالسقف المعرفي الذي أنتج كثيراً من المقولات التي تشكل الخيارات الإستراتيجية لديها ينبغي إعادة النظر فيها لتغير الشروط الموضوعية والذاتية وتحولات الربيع الديمقراطي الذي شكل انقلابا على كثيرا من المفاهيم في المجال التداولي السياسي..